مع انطلاق النقاشات الأولى لقانون التأمينات الجديد رقم 148 لسنة 2019، أبدى الرئيس عبد الفتاح السيسي اهتمامه بالعمالة غير المنتظمة، ولكن بعد أشهر من بدء تفعيل القانون ومع انتشار جائحة كورونا؛ تسببت الإجراءات الاحترازية لمواجهتها في تعطل قطاعات واسعة من هذه العمالة، ما سلط الضوء بشكل أكبر على هشاشتهم وهشاشة القوانين التي تحميهم، الأمر الذي استدعى صرف إعانة استثنائية لهم خلال الأزمة.
كان متوقعًا أن يؤسس القانون الجديد أشكالًا أفضل من الحماية التأمينية لهذه الشريحة من العمالة التي تقترب من نصف عدد المشتغلين في مصر وازداد زخم مشاركتها في سوق العمل مع طفرة النشاط العقاري الحالية، لكن اللائحة التنفيذية للقانون التي صدرت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أثارت مخاوف من أن يساهم القانون في ترسيخ الأوضاع القائمة بل ويزيدها سوءًا.
يسعى هذا التقرير لتسليط الضوء على أبرز الانتقادات الموجهة لوضع العمالة غير المنتظمة في قانون التأمينات 148 لسنة 2019، ونبحث إلى أي مدى جاءت النتائج النهائية للقانون متسقة مع التطلعات الكبيرة لممثلي هذه الشريحة من العمالة وقت تشريعه.
تأمينات على 10% من العمالة فقط
"بالرغم من هشاشة وضع هذه الفئة؛ فوجئنا بأن القانون الجديد لا يخصص لها معاملة استثنائية تضمن دمج شرائح أوسع منها في نطاق الحماية التأمينية"، كما قال إلهامي الميرغني، الخبير الاقتصادي وعضو مكتب العمال لأمانة الأحزاب، وهو تحالف يضم أحزاب التحالف الشعبي الاشتراكي والمحافظين والكرامة والمصري الديموقراطي الاجتماعي، في تعليقه على قانون التأمينات.
والعمالة غير المنتظمة هي التي لا تعمل في وظائف مستقرة وعادة ما تكون وظائفها خارج الغرف المكتبية ومواقع الإنتاج، ومن أبرز الفئات التي تندرج تحت هذا الوصف عمال المقاولات وعمال الزراعة الموسمية والحرفيين، وبسبب ظروف العمل المتقطع، والعمل خارج مواقع الإنتاج، وخارج إطار العلاقات الرسمية غالبًا، الأمر الذي يحرمها من التأمينات الاجتماعية.
وتحت المنظومة التأمينية القديمة كان هناك قانونان يوفران تغطية تأمينية للعمالة غير المنتظمة ولكنهما كانا يتسمان بقصور كبير في توفير الحماية لهذه الفئة. القانون الأول هو قانون 79 الصادر عام 1975 ويستهدف تغطية كافة العاملين في القطاع الخاص، واعتبر القانون فئات من العمالة غير المنتظمة مثل عمال المقاولات ضمن العاملين الذين يستهدفهم، ولكنه وضع لهم قواعد خاصة للتأمين تتسق مع طبيعة عملهم غير المنتظم، إذ اشترط عدم صدور ترخيص البناء قبل أن يسدد صاحب العمل نصيبه في اشتراكات التأمين على العاملين، ولكن في كثير من الأحيان كان صاحب العمل فقط هو من يسدد حصته في الاشتراكات.
أما القانون الثاني، صدر عام 1980 برقم 112، واستهدف تغطية العاملين الذين لم يغطهم القانون السابق، لذا اعتبر أن كل من بلغ عمر الخامسة والستين ولا يتمتع بتغطية تأمينية يستطيع سداد اشتراكات رمزية عن عشر سنوات سابقة ويحصل على معاش.
ويعيب القانون الأول (79) أن عمالة مثل المقاولات لا تتمتع بالاستقرار الذي يحفزها على سداد نصيبها من اشتراك التأمين، ولهذا كان العديد من عمال البناء يلجأون لقانون (112)، والذي يعيبه أيضا أن معاشه كان بالغ الانخفاض لأن الاشتراك فيه كان بقيم رمزية.
وتسود حالات التهرب من التأمينات في الوظائف التي تتم خارج مواقع الإنتاج (خارج المنشآت) بسبب هذا القصور التشريعي، فبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تقتصر نسبة التغطية التأمينية بين هذه الفئة على أقل من 10%.
ماذا جاء في القانون الجديد؟
من المفترض أن يوفر قانون التأمينات الجديد غطاءً تشريعًا شاملًا يدمج كل قوانين التأمينات السابقة، وفي هذا القانون جاء وضع عمالة المقاولات تحت بند العاملين لدى الغير، وتم تخصيص قسم آخر للعمالة غير المنتظمة داخل القانون، تشمل عمال التراحيل والحرفيين وعمال الزراعة وغيرهم.
لكن القانون الجديد حافظ على نفس طريقة سداد اشتراكات تأمينات عمال المقاولات التي لم تسهم طوال العقود السابقة في دمجهم بالمنظومة، كذلك رفع من تكاليف اشتراك العمالة غير المنتظمة.
ويوضح الخبير التأميني كامل السيد كيف يساهم القانون الجديد في زيادة أعباء الاشتراكات على العمالة غير المنتظمة وهو ما يقلل من فرص اندماجها في المنظومة "في ظل سريان القانون 112 لسنة 80، كان الاشتراك الشهري 28 جنيه، أي أن العامل يسدد 3360 جنيه (خلال عشر سنوات) لكي يحصل على المعاش، أما فى ظل القانون الجديد فإن الإشتراك الشهرى حاليا 108 جنيهات شهريا أي أن العامل يسدد ما يقارب 1296 جنيه سنويا، ما يساوي 12 ألف و960 جنيه خلال عشر سنوات، إضافة إلى ذلك قرر المشرع في القانون الجديد أن تزيد مدة دفع الاشتراك من عشر سنوات إلى 15 سنة بداية من يناير 2025".
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فإن العمالة خارج المنشآت تتركز في أنشطة الزراعة والصيد 5.2 مليون، وأنشطة البناء 3.1 مليون، و النقل والتخزين 1.7 مليون.
"هناك العديد من الأسباب التي تسببت في حرمان العمالة غير المنتظمة من أقل حقوقها في رعاية اجتماعية وصحية حقيقية لم يعالجها القانون الجديد بل أنه زاد عليها" كما يقول محمد عبد القادر، رئيس نقابة العمالة غير المنتظمة.
ويرى عبد القادر أن العامل الرئيسي المساهم في ضعف التغطية التأمينية للعمالة غير المنتظمة هو تراخي أجهزة الدولة بشأن حصر هذه العمالة وتحفيزها على الاندماج في النظام التأميني، ولا توجد شواهد بأن النظام الجديد يسعى لتجاوز هذه المشكلة. "تقدمنا بالعديد من الاقتراحات لتوفير آلية حصر من خلال تكثيف التفتيش على المنشآت غير الرسمية، وحصر العمالة التي تساهم في المشروعات القومية الكبرى خاصة في مجال البناء والمقاولات، ولكن لم تتم الاستجابة لنا".
ويضيف "العمالة غير المنتظمة لا تدرك أهمية أن يكون للعامل تأمينًا صحيًا واجتماعيًا إلا متأخرًا في حالة تعرضهم للاصابة التي تتسبب في العجز الكامل أو الجزئي المستديم فلا يجدون أية رعاية صحية أو إجتماعية وقتها فقط يدركون قيمة التأمين الاجتماعي، وذلك بسبب طبيعة عملهم والرواتب التي يحصلون عليها".
ما يزيد من صعوبة دمج هذه الفئة في منظومة التأمين أنهم يعملون لفترات قليلة لا تتجاوز أيامًا أو شهورًا قليلة وبدون صاحب عمل يمكن الرقابة عليه كما يقول عبد القادر "هناك ملايين العاملين في جمع الخردة وتصنيفها وإعادة استخدامها دون أن يكون لهم صاحب عمل يمكن مطالبته بالتأمين، وكذلك فئة الخدمات المنزلية والعاملين الزراعيين، الذين يعملون لفترات قصيرة جدا لا تتجاوز الثلاثة أشهر لدى أشخاص مختلفين، وعلى الجانب الآخر؛ العاملون في المصانع والمخابز والمسابك الذين يعملون لفترات طويلة، فإنهم لا يخضعون للتأمين بسبب تهرب أصحاب الأعمال نتيجة غياب التفتيش على المنشآت من قبل وزارة القوى العاملة والهجرة، التي أوقفت تعيين المفتشين منذ سنوات طويلة".
ويتفق كامل السيد مع الرأي السابق، مشيرا إلى أنه "ما يزيد من ضعف التغطية هو عدم قدرة جهاز التفتيش التأميني بهيئة التأمينات الاجتماعية صندوق العاملين بقطاع الأعمال العام والخاص على الوصول لهذه العمالة في أماكن عملها، وعدم وجود بيانات حصرية عنهم لدى الدولة، وضعف العقوبات على التهرب التأميني عموما".
مشكلات عمال المقاولات
ويشير ياسر إبراهيم رئيس النقابة المستقلة للعاملين بالمعمار إلى وجود العديد من العوائق أمام عمال المقاولات كانت تحول دون اندماجهم في منظومة التأمين لا تزال باقية مع القانون الجديد "ومنها أن تكون بطاقة الهوية الشخصية وأوراق ثبوتية العامل تحمل مهنة عامل مقاولات، وهو الأمر الذي يحتاج إلى عقد عمل لكي يستطيع العامل إثبات أنه يعمل في هذه المهنة، وبالتالي فهو أمر بالغ الصعوبة خاصة وأن أكثر من 80% من العاملين في هذا القطاع يعملون بدون أية عقود، خاصة الذين يعملون مع مقاولي الباطن".
ويضيف "يكون مطلوبًا أيضًا من العمال الذين يرتبط عملهم بعمليات المقاولات أو أعمال البناء مثل نجار وسباك وكهربائي ونقاش وعمال الحفر والتركيبات وعمال المحاجر وعمال الملاحات، التوجه الى أقرب مكتب تأمينات وأن يقوم العامل بإخطار الهيئة العامة للتأمين الصحي لإجراء الكشف الطبي على العامل، وهنا تكمن الأزمة الأكبر للعمال، البالغ عددهم على مستوى الجمهورية 4 مليون عامل يعاني كثير منهم من أمراض مزمنة أو إصابات كلية وجزئية، ومن ثم فإن التقارير الطبية التي تصدر لهم دائما تقر أنهم غير مستحقين للتأمينات وأن عليه أن يسوى المعاش، وأن يحصل على مكافأة هزيلة بعدد سنوات العمل، بالرغم من أن العمال بالمقاولات يدفعون سنويًا ما يقرب من 2000 جنيه تأمينات بواقع 166 جنيه شهريًا، فتحسب عدد سنوات التأمين ويحصل العامل عليها دون توفير أية بطاقة رعاية صحية له ولأسرته، وهو ما يدفع العمال إلى عدم التوجه للتأمينات من الأساس".
ولفت إبراهيم إلى أن "هناك اشتراطًا آخر وضعته هيئة التأمينات وهو أن يجتاز العامل اختبار مستوى المهارة في حالات العمالة الفنية المرتبطة بأنشطة المقاولات، وهو أمر يكاد يكون مستحيلًا، لأن الغالبية العظمي تعمل مع مقاولين من الباطن خارج الإطار الرسمي ومن ثم يصعب عليه التقدم لشهادة مهارة، وإذا ثبت أن العامل لا يملك المهارة المناسبة فعليه أن يتجه لعمل آخر، كيف يمكن مثلا لنجار مسلح، أو سباك، بلغ من العمر ما يقترب من الخمسين عامًا أن يتوجه لمهنة أخرى وهو يعاني من أمراض تتسبب في الشيخوخة المبكرة؟".
يستكمل إبراهيم التعليق على باقي الشروط بأنه "تحسب الاشتراكات على أساس ما يستحقه المؤمن عليه من أجر خلال كل شهر على قدر عدد أيام العمل، مع مراعاة الحد الأدنى لأجر الاشتراك، وهو ما يجسد تناقضًا غير مسبوق، لاسيما وأن أغلب عمال المقاولات لا يمكن حساب متوسط دخلهم اليومي، ولا يمكن حساب عدد الأيام التي يعملونها نتيجة لعدم الانتظام".
ويرى إبراهيم الى أنه ليس من مصلحة الحكومة التأمين على عمال المقاولات، لأسباب عديدة أهمها أنه يتم تحصل ما يقرب من 4 مليار جنيه سنوًيا من المقاولين باعتبارهم أصحاب أعمال دون وجود عامل يؤمن عليه، وأن هذه الأموال تذهب للخزانة العامة للدولة، لافتًا الى أنه "وفقًا لتقديرات غير رسمية فإن إجمالي قيمة ما يدفعه أصحاب الأعمال وصل إلى 74 مليار جنيه لا أحد يعرف فيما تستخدم ولماذا لا تستخدم لصالح العمال".