تصميم أحمد بلال
"التارجت" يستنزف حياة مندوبي مبيعات الدواء

كيف يستنزف "التارجت" حياة مندوبي الدعاية الطبية؟

منشور الأربعاء 2 أغسطس 2023

"رأس المال عمل ميت، وهو كمصاص الدماء ،لا يعيش إلّا على امتصاص العمل الحي، ويزداد حيوية كلما ارتشف المزيد. إن الوقت الذي يعمل خلاله العامل هو الوقت الذي يستهلك الرأسمالي خلاله قوة العمل التي اشتراها منه".

كارل ماركس، كتاب رأس المال- الجزء الأول، الفصل العاشر .

تضع الشركات في عصرنا الراهن لفريق المبيعات أهدافًا محددة لكمية السلع التي عليهم إقناع العملاء بشرائها، ما نطلق عليه "التارجت"، والذي بات وسيلة لاعتصار جهد العاملين في هذا المجال، على غرار أشكال الاستغلال التي كان يتعرض لها عمال الصناعة في القرن التاسع عشر، كما وصفهم ماركس.

وينطبق ذلك على العمل في مجال مبيعات الأدوية، وبشكل خاص "الدعاية الطبية"، حيث شهد العاملون فيه ضغوطًا متزايدة خلال العقود الأخيرة.*

من علم الأدوية إلى علم البيع

بدأت الدعاية الطبية نشاطها بعد ازدهار شركات الأدوية متعددة الجنسيات في مصر في أعقاب الانفتاح، وصاحب ذلك دخول قوي لشركات أدوية محلية، قدمت أدوية "مثيلة" للأجنبية بأسعار تناسب المواطن المصري. 

تبنت الشركات بمختلف أنواعها أسلوب البيع/التسويق المباشر، والذي يعني أن موظف المبيعات يتواصل مع العميل مباشرة ليعرض عليه المنتج ويقنعه بمميزاته، إلى أن يتم الشراء.

خلال الثمانينيات والتسعينيات، أقبل على هذه المهنة الأطباء والصيادلة الذين لا يحبون قعدة المكاتب

في المجال الطبي العملاء ليسوا المرضى، ولكن الأطباء الذين يصفون الدواء والصيادلة الذين يصرفونه. وهؤلاء هم من يستهدفهم مندوب الدعاية الطبية لإقناعهم بالدواء المطلوب منه بيعه، عن طريق النقاش "العلمي" الذي يدور بين المندوب والعميل. 

نستطيع القول إن مندوب الدعاية الطبية مسؤول عن الشق الطبي في عملية البيع، أما الشق المبيعاتي المختص بتوريد الأدوية إلى شركات التوزيع والمخازن والصيدليات وشتى منافذ البيع، فالمسؤول المفترض عنه هو فريق التوزيع أو البيع. 

ونظرًا لطبيعة العمل، انحصر مندوبو الدعاية الطبية في الصيادلة والأطباء البيطريين والبشريين، بحكم دراستهم لعلم الأدوية (الفارماكولوجي). 

خلال الثمانينيات والتسعينيات، أقبل على هذه المهنة الأطباء والصيادلة الذين لا يحبون قعدة المكاتب، ولا يرضون بالأجور الحكومية الزهيدة. 

كانت سوق الدواء تتسع باطراد، وكانت أعداد الخريجين ثابتة نسبيًا؛ فحتى ذلك الوقت لم تستفحل أعداد كليات الصيدلة، ما جعل شروط العمل في هذه المهنة جيدة مقارنة بمهن أخرى.

لكن على المدى الطويل، كانت الكثير من الشركات تميل لتقليل تكلفة فريق المبيعات، لتحسين مستويات الربحية، وتجلى ذلك بوضوح في ميل بعض الجهات لجعل مندوب الدعاية الطبية يقوم بمهمة مسؤول التوزيع أيضًا، وبالأجر نفسه.

ضغوط العمل الراهنة

ومع زيادة المهام، أصبح يوم عمل مندوب الدعاية الطبية يمتد من الصباح الباكر إلى منتصف الليل أو بعده قليلًا؛ فالعمل لا ينتهى أبدًا ويوجد دائمًا مهام لم تُنفذ بعد، بل وتزحف أيام العمل على إجازة يوم السبت.

وعلى الرغم من توقف الحياة يوم الجمعة، لكن هناك بعض الأطباء والصيدليات يعملون في ذلك اليوم، وهذا يزيد من احتمالات تواصل العميل مع المندوب، لتوفير صنف مثلًا أو إعطاء بعض المرضى عينات دوائية أو إرشاد المرضى لأماكن توافر الدواء.

باختصار، يجب أن يكون المندوب على أهبة الاستعداد دائمًا، لأن العميل أو المريض ربما يحتاج لأي شيء في أي وقت. 

 يخلق هذا احتياجًا لجهود غير عادية في العمل، وهذا ما يسمى في الأدبيات الماركسية "بتكثيف العمل". والشركات معترفة بذلك، ولكنها تصف هذا الوضع برطانة أيديولوجية تتحدث عن "التحديات"، وأن مندوبي الدعاية ليسوا مجرد موظفين يؤدون مهامًا محددة، بل يسعون نحو هدف معين، وعليهم فعل أي شيء في سبيله. ويتم التعبير عن ذلك قانونًا في عقود العمل من خلال ذكر "إن الموظف عليه تنفيذ كل المهام التي يتطلبها العمل".

تتعدد وسائل إقناع العميل بالمنتج ولكنها تبتعد يومًا بعد يوم عن الدعاية العلمية؛ ففي الأغلب لا جدوى من محاولة إقناع العميل بفوائد المادة الفعالة، لأنه غالبًا استخدمها كثيرًا. وبالتالي تتدخل في عملية الإقناع عدة عوامل، أهمها الامتيازات التي تقدمها الشركة للعميل، مثل الدعوة لحضور المؤتمرات العلمية المقامة في الأماكن السياحية أو خارج مصر.

رغم كل ذلك، لا يتحقق "تارجت" المبيعات في كثير من الأحيان، في ظل المنافسة الشرسة بين العديد من الأسماء التجارية للمادة الفعالة ذاتها، ما يُعرّض المندوب للخصومات، الأمر الذي يحد من القيمة النهائية لأجور العاملين في هذا المجال.

كذلك يعاني المندوبون الطبيون من قصر عمر وظائفهم، نتيجة زيادة أعداد المتنافسين على هذه المهنة واحتداد المنافسة بينهم، ففي بداية نشأة هذه الوظيفة كانت التعيينات تقتصر على الصيادلة والأطباء البيطريين والبشريين، ولكن لاحقًا انضم لهم خريجو كليات العلوم.

ولأن الشركات من مصلحتها زيادة العرض في سوق العمل لتتمكن من تخفيض الأجور وتعديل ظروف العمل لصالحها، اتجهت بعض الشركات الصغيرة نسبيًا للبحث عن خريجي الأقسام العلمية بكليات التربية وخريجي كلية التمريض.

ونتيجة لتلك الزيادة العددية أصبحت الشركات تتخلى بسهولة عن المندوبين، ومن أكثر الفئات المعرضة للفصل هم من تتخطى أعمارهم الثلاثين، لأنه بحكم عمره وارتباطاته الأسرية أقل قدرة على العمل لساعات طويلة مقارنة بالشاب العشريني. 

أسباب صمت المندوبين 

ويبقى السؤال المنطقي هو لماذا لا توجد حركة مقاومة أو اعتراض على كل تلك الظروف المجحفة؟

الشائع عن هذه الوظيفة أن أجرها أعلى من متوسط الأجور في القطاع الخاص، وهو ما يجذب الكثيرين إليها، لكن الواقع أن هذه المستويات من الأجور تقتصر على الشركات الكبرى فقط، إلا أن البعض يقبل العمل في شركات صغيرة بأجر قليل على أمل اكتساب خبرة والانتقال للشركات الكبيرة. 

تقدم الشركات الكبيرة للمندوبين بعض المنافع التي تستهوي الطبقة الوسطى، كالحصول على سيارة أو السفر مثلًا؛ ما جعل الدعاية الطبية يُنظَر إليها كوسيلة للارتقاء الاجتماعي.

والسبب الأهم لغياب المقاومة هو انعزال الأفراد عن بعضهم البعض، لأن كل مندوب مسؤول عن منطقة بمفرده، ولا يوجد عمل مشترك بينه وبين زملائه في المناطق الأخرى، بل وفي أغلب الأحيان يكون هناك منافسة. هذا إلى جانب التنافس بين المندوبين المسؤولين عن أدوية متشابهة في المادة الفعالة أو التأثير العلاجي. وكل ذلك يغذي النزعة الفردية للمندوبين، بما يحول دون تنظيمهم لأنفسهم.

لذلك، فالعامل الأهم لتحسين ظروف عمل مندوبي الدعاية الطبية هو وجود تنظيم وتضامن داخلي بين أصحاب المهنة الواحدة، بهدف الضغط على الشركات لتحسين شروط عملهم.

وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي إيجاد نظام تكليف حكومي لخريجي كليات الطب البيطري وكلية العلوم، وعدم تأخير تكليف كلية الصيدلة حتى يقل الضغط على سوق العمل، ويكتسب العاملون فيه قوة تفاوضية أكبر مع الشركات. 


(*)المعلومات الواردة مستخلصة من حوارات أجريت في أوقات متباينة مع أجيال مختلفة من مندوبي الدعاية الطبية.