
عاملات المنازل في قانون العمل الجديد.. نحن من يزرع الشوك
معاناةٌ مضاعفةٌ تُكابِدها عاملات المنازل في مصر؛ فمن جهة يعملن دون عقود عمل تضمن لهن الحماية الاجتماعية والصحية، ومن جهة أخرى يُوصمن بسبب عملهن ويصبحن عُرضةً للإهانة والانتهاك. هذه حقيقة يسهل التدليل عليها بشهادات كثيرة تتطابق مع نتائج دراسة صادرة عن المؤتمر الدائم للمرأة العاملة بعنوان "عاملات خارج القانون" 2023.
وبينما كان يُؤمل أن يغير قانون العمل الجديد رقم 14 لسنة 2025، الذي بدأ تطبيقه بداية سبتمبر/أيلول الحالي، الظروف القاسية التي تحيط بنحو 500 ألف من عاملات المنازل، فإنه تجاهلهن ورسّخ التمييز ضدهن.
من هذا المنطلق لا يصبح النقاش حول القانون الجديد مسألة تقنية أو مجردة، بل قضية تمس حياة ملايين العاملات والعمال، خصوصًا الفئات الأكثر هشاشة.
واقع مرير ومهين
وفق نتائج دراسة "عاملات خارج القانون" 2023، فإن الغالبيّة الساحقة من عاملات المنازل يعملن دون عقود عمل، بالتالي بدون نظام اجتماعي أو تأمين صحي أو عدد ساعات محددة.
وكشفت العاملات اللاتي شملتهن الدراسة عن تعرُّض غالبيتهن لمختلف أشكال العنف، إذ أقر 90% ممن شملتهن الدراسة بتعرّضهنّ للإهانة اللفظية، فضلًا عن أشكال أخرى من العنف المعنوي كالسبّ والشتم والاتّهام بالسرقة والاستهزاء من اللهجة أو المظهر، بينما أقر 35% منهن بتعرضهن لمضايقات جنسية وتحرش.
يقلصُّ القانون الجديد من مكتسبات العمال التي أقرها القانون القديم مثل العلاوة الدورية ويتجاهل وضع تعريف عادل للحد الأدنى للأجور
هذا الواقع لم يأتِ من فراغ، وأساسه موجود في قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، الذي أبعد عاملات المنازل صراحةً عن مظلته، تاركًا آلاف النساء خارج أي حماية قانونية للأجر أو ساعات العمل أو التأمين الاجتماعي.
دعاية مضللة
ركزت الدعاية الحكومية لمشروع القانون قبل إقراره رسميًا على أنه يعالج سلبيات القانون القديم ويتماشى مع الدستور والاتفاقيات الدولية، إلا أن جوهره يكشف انحيازًا واضحًا لمصالح الرأسماليين على حساب العمال والعاملات.
أبرز أوجه القصور في القانون الجديد أنه لا يتعامل مع العمل باعتباره حقًا اجتماعيًّا، إنما أداة إنتاجية، إضافة إلى أنه يقلص من مكتسبات العمال التي أقرها القانون القديم، مثل العلاوة الدورية، ويتجاهل وضع تعريف عادل للحد الأدنى للأجور، بينما يفرض قيودًا على الحق في الإضراب في ظل بيئة معادية للنقابات المستقلة.
بالمثل، فإن إدراج المشرِّع لأنماط العمل الجديدة في القانون مثل العمل غير المنتظم أو عبر المنصات الرقمية يظل شكليًا ويهدف أكثر إلى ضبط الاقتصاد وجباية الضرائب لا إلى حماية العمال، مما يترك النساء والفئات الهشة عرضةً لاستغلال مضاعف.
هكذا، يظهر القانون بمظهر حداثي لكنه في الحقيقة يكرّس البنية الطبقية القائمة ويُضعف قدرة العمال على المفاوضة، ويتنصل لمبادئ المساواة ومناهضة التمييز القائم على النوع؟
تكريس التمييز
كشف تحليلٌ أجراه البنك الدولي في عام 2024 أن سد الفجوة في التشغيل بين الجنسين يمكن أن يعزز الاقتصاد بنحو 56%. وعلى الرغم من هذه الفرصة الكبيرة، فإن معدل مشاركة المرأة في سوق العمل وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء يبلغ نحو 15.3% فقط، بينما يمثلن 47.6% من إجمالي المتعطلين عن العمل، ما يعكس اتساع الفجوة الجندرية في سوق العمل.
تعوق العديد من الحواجز الهيكلية والقانونية والتقليدية مشاركةَ المرأة في سوق العمل المصري. ووفق تحليل البنك الدولي، فإن 24% من الرجال لا يؤيدون مشاركة المرأة في سوق العمل، و45% من الرجال و33% من النساء يعارضون إسناد مهمة العناية بالأطفال لأفراد من خارج الأسرة، وهذه المهمة ضرورية لتمكين النساء من العمل، وقد جرت العادة أن تضطلع بها النساء.
بشكل عام، فإن عدم كفاية سبل الحماية القانونية في القطاع الخاص، ووسائل النقل والمواصلات غير الآمنة، والأعراف والتقاليد الاجتماعية والثقافية السائدة، تشكل عوائق تثني النساء عن الانضمام إلى سوق العمل.
ومع الانتقادات التي وُجهت لقانون العمل القديم وتكريسه للأدوار النمطية للنساء، وتجاهله التام لعاملات المنازل، واستثناء العاملات في قطاع الزراعة من المزايا والحقوق والضوابط الخاصة بتشغيل النساء، فإنه هذا الاستثناء الأخير جرى حذفه في القانون الجديد، لكن بقيت العاملات في المنازل محرومات من الحماية التشريعية والمظلة الاجتماعية بالمخالفة للدستور المصري في مادته 13 التي تنص على إلزام الدولة بحماية حقوق العمال وإيجاد علاقة متوازنة بين طرفي العملية الإنتاجية.
وفي حين يُترك للرجال الحرية الاقتصادية والمهنية، فإنه يُنظر للعمل المنزلي على أنه امتدادٌ للواجبات الطبيعية للمرأة، وليس عملًا منتجًا يستحق الاعتراف والحماية القانونية، وهو ما يوضح كيف يُستغل هذا العمل ضمن النظام الاقتصادي دون ضمان أي حقوق للمرأة.
هذا التكريس للتمييز الجندري يظهر جليًا في مواد الرعاية، حيث تظل إجازة رعاية الطفل حكرًا على النساء مما يحد من فرص ترقيتهن وتوظيفهن في بعض المجالات، وبالمثل حصر دور الحضانة على النساء فقط، مع استمرار الشرط العددي للمنشآت (100 عاملة فأكثر) ما يزيد من التمييز ضد العاملات والعاملين، على حد سواء، ويتيح التحايل على القانون من قبل أصحاب الأعمال.
نص القانون على منح الأب إجازة أبوة ليوم واحد فقط، أي 24 ساعة فقط، وهو ما يعد تهميشًا واضحًا للدور الأبوي وزيادة متعمدة لأعباء المرأة، ويكرس البنية الطبقية والذكورية لسوق العمل.
مكاسب شكلية
أما فيما يتعلق بالحقوق الإنجابية، فالقانون عدّل إجازة الوضع لتصبح أربعة أشهر أسوة بالعاملات المخاطبات بقانون الخدمة المدنية، لكنه أباح فصل العاملة أثناء تلك الإجازة لسبب مشروع، حيث نص في الفقرة الثانية من المادة 55 على أنه يحظر فصل أو إنهاء خدمة المرأة العاملة أثناء أو عقب عودتها من إجازة الوضع، ما لم يثبت صاحب العمل أن الفصل أو إنهاء الخدمة لسبب مشروع، دون أن يحدد القانون ماهية السبب المشروع، وهو ما يمكن اتخاذه ذريعةً للفصل التعسفي للعاملات الأمهات.
كما أن القانون الجديد لا يعالج احتياجات النساء البيولوجية، مثل الحق في إجازة الطمث أو الإجازة للحمل غير التام، فهو لا يعترف بالحقوق الإنجابية للنساء بحد ذاتها، بل ينظر إليها من منظور حماية الصغير فقط. فتستفيد الرأسمالية من الدور الإنجابي للنساء، لكنهن يدفعن الثمن بمفردهن يا لعدالة السوق الحر!
بالنسبة للمساواة ومناهضة التمييز، رغم أن القانون ينص على عدم التمييز، فإنه لم يحدد الآليات العملية لتطبيقه، مثل عبء إثبات الواقعة وطريقة تلقي الشكاوى ومعالجتها. وألغى القانون بعض الاستثناءات، مثل استثناء أفراد أسرة صاحب العمل من نطاق سريانه، كما ألغى استثناء عاملات الزراعة من فصل تشغيل النساء، حيث أسقط المادة 97 من قانون العمل القديم ولم يدرجها في القانون الجديد.
تبقى هذه المكاسب شكلية إذ لا توجد أي ضمانات لتنفيذها، فعلى سبيل المثال كيف ستحصل العاملة الزراعية على إجازة وضع في طبيعة عملها الموسمية، وما الضمانة لالتزام أصحاب المزارع بإنشاء دور حضانة للعناية بأطفال العاملات؟
وفيما يخص مناهضة العنف، نصَّ القانون لأول مرة على تعريف التحرش والتنمر في المادتين 31 و32، لكنه لم يضع آليات واضحة للتنفيذ، ولم يحدد دور مفتشي العمل، بل ترك كل شيء لتقدير الوزير المختص، وهو ما يفرغ هذه النصوص من مضمونها.
لم تصدّق مصر حتى الآن على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 189 بشأن العمل اللائق للعمال المنزليين
هذا الإسقاط أو الاستبعاد يجعل عاملات المنازل أكثر عرضةً للعنف الجنسي والبدني والنفسي والانتهاك ولأشكال مضاعفة من الاستغلال. كما لا يساوي القانون الجديد بين المصريين والأجانب، فبينما تجاهل الإشارة للعمالة المنزلية من المصريين، فإنه أشار لها في الفصل المعنون بتنظيم عمل الأجانب في المادة 69 التي تنص على أنه "يقصد بالعمل فى تطبيق أحكام هذا الفصل كل عمل تابع أو حر أو لحساب النفس أو العمل في أي مهنة أو صنعة أو حرفة، بما فى ذلك العمل في الخدمة المنزلية"، وهو أمر يرسخ للطبقية والعنصرية.
الحلُّ حبيسُ الأدراج
في تصريح تليفزيوني حاول وزير العمل محمد جبران تبرير هذا التمييز بين العمالة المنزلية المصرية والأجنبية، بقوله إن الوزارة بصدد إعداد قانون خاص لعاملات المنازل لأنه لا يليق إرسال مفتشين من مكاتب العمل للتفتيش على العمالة في البيوت.
يعكس تبرير الوزير استمرار نهج المماطلة في الاعتراف بالحقوق الأساسية لهذه الفئة من العاملات، لأن التذرع باحترام خصوصية البيوت مردودٌ عليه بأن وزارة التضامن الاجتماعي مثلًا تجري متابعات وزيارات دورية للأسر البديلة التي تكفل أطفالًا دون خوف من انتهاك "الخصوصية"، وما يدل على تعمد تجاهل هذه الفئة من العمالة هو تقديم مشروع قانون في عام 2021 للبرلمان بشأن عمالة المنازل إلا أن هذا المشروع ظل حبيس الأدراج.
الأخطر أن مصر حتى الآن لم تصدّق على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 189 بشأن العمل اللائق للعمال المنزليين، ما يعني أن عاملات المنازل ما زلن بدون حماية حقيقية، ويُترَك مصيرهن لتقديرات أصحاب العمل في ظل فراغ تشريعي واضح. لا يمكن فصل استثناء عاملات المنازل من نطاق سريان القانون عن هذا السياق، إذ يعكس استمرار النظرة الذكورية والاجتماعية التي تعتبر المرأة مسؤولة عن الرعاية المنزلية.
بشكل عام، فإن القانون ضعيف في آليات التنفيذ والعقوبات، على نفس نهج القانون القديم؛ العقوبات هزيلة والرقابة تكاد تكون منعدمة، وغالبًا ما يتجاهل أصحاب الأعمال الحقوق الأساسية للنساء من الأجور المتساوية إلى إجازات الوضع ورعاية الأطفال، مما يعكس استمرار الهيمنة الطبقية واستغلال الرأسمالية للعمل النسائي، ويجعل النساء أكثر هشاشةً، سواء في العمل المنزلي أو في القطاعات ذات الكثافة النسائية مثل قطاع الزراعة.
ورغم اعتراف القانون الجديد بأحقية العاملات الزراعيات في الحصول على المزايا والحقوق المنصوص عليها في فصل تشغيل النساء، المتعلقة بالحمل والوضع ورعاية الأطفال، لكن لا نرى انعكاس ذلك في باب السلامة والصحة المهنية من القانون ذاته، الذي استمر في تجاهل خصوصية أوضاعهن، ولم يقدم حلولًا قاطعةً لأبرز مشكلاتهن المتمثلة في توفير مواصلات آمنة تضمن لهن الانتقال إلى مواقع العمل والعودة منها سالمات إلى بيوتهن، دون أن تنتهك كرامتهن.
كما يبرز كيف يُستغل العمل النسائي ضمن تراكم رأس المال، ويُظهر هشاشة الحماية القانونية على أرض الواقع. على أي حال ننتظر القرارات الوزارية، ونأمل أن تعالج القصور في نص القانون، وكلنا ثقة في أن أي مكتسبات حالية، حتى ولو بدت محدودةً، وأن أي مكتسبات مستقبلية هي نتاج ضغط العمال والقوى المدنية والحقوقيين.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.