تستيقظ أم محمد (حيّة) في الخامسة صباحًا، تنطلق إلى المخبز لتجلب الخبز، ثم تعود لتجهز الفطور لأسرتها المكونة من أربعة أطفال، قبل أن يخرج زوجها إلى دكانه حيث يعمل، وتتجه هي إلى "الغيط"، تمارس عملها في فلاحة الأرض حتى الثانية ظهرًا، إذ تحين راحتها في "عشة الفراخ"، تعاود بعدها العمل مرة أخرى حتى انكسار الشمس.
بجوارها تعمل أم محمود (صباح) كما يعرفها الجميع، في رعاية المواشي ومنتجات الألبان، تبدو في الثلاثنيات من عمرها، ولديها طفلين.
تقضي أم محمود يومها مع الحيوانات تراعيها، تنظفها وتجدد المأكل والمشرب للمواشي والطيور، لتنخرط بعدها في حلب الأبقار، لاستخدام حليبها في صناعة منتجات الألبان المختلفة.
استثناء جائر
يتجاوز عدد ساعات عمل أم محمد، ذات الخمسين عامًا، وكذلك صباح، الثمان ساعات التي ينص عليها قانون العمل المتبع في مصر، غير أنهما ولسبب غير معلوم، تم استثناءهما ومثيلاتهن من قانون العمل الصادر 2003.
يصل إجمالي عدد ساعات عمل المرأة في الأرض والمنزل إلى نحو 18 ساعة يوميًا
تمثل المرأة الريفية، طبقًا لإحصائيات المجلس القومي للمرأة، نسبة 49% من تعداد سكان الريف، 42.8% منهن يعملن بالزراعة، مع متوسط ملكية للأراضي الزراعية لا يتعدى 3%، وهي نسبة ضئيلة، ترجع إلى الميراث، الذي غالبًا ما تُحرم منه المرأة وخصوصًا في الصعيد، حيث النساء لا يتملكن الأراضي.
وهو الحال في "العرين القبلي"، القرية الجنوبية التابعة لمركز ملوي، حيث تعمل أم محمد في فلاحة أرض لا تملكها، مع جارتها صباح، وعلى الرغم من كونه عمل صناعي، فإنهما تندرجان تحت الفئة المستثناة من حقوق العمال حسب القانون.
يتراوح إجمالي متوسط ساعات عمل النساء، حسب دراسة للباحثة منى عزت تحت عنوان "العاملات الزراعيات حقوق ضائعة"، ما بين 14 إلى 16 ساعة في اليوم، عشر منها في الأرض، والباقي في المنزل، وقد يصل عدد ساعات العمل في المنزل إلى 6، ليصل العدد الإجمالي إلى نحو 18 ساعة يوميًا، وذلك ما بين عمل مأجور وعمل غير مدفوع الأجر.
عملٌ شاق، تتعرض أم محمد فيه إلى مواد كيماوية تؤثر على الهرمونات وتسبب لها أضرارًا صحية، بالإضافة إلى تأثير المبيدات السامة على صحتها الجسدية والإنجابية، وفق ما تؤكد الدراسة، وذلك كله في ظل عدم وجود تأمين صحي يكفل لها العلاج.
لا يحق لأم محمد وأم محمود كعاملتين في الأرض أخذ إجازة، ولا يوجد معاش يمكنهما الارتكان إليه، بعد سن الستين، هما مرهونتان لتلك الأرض حتى نهاية عمرهما.
في الوقت الذي صدر فيه قانون عمل يراعي حقوق النساء العاملات في الوظائف، ويقدم لهن ضمانات، محترمًا دور المرأة كأم وحاضنة، غض الطرف تمامًا عن العاملات في الأراضي الزراعية، باعتبارهن عمالة غير منتظمة. لذا فالمرأة العاملة في الزراعة تعمل دون غطاء قانوني يضمن لها حقوقها في الأجر العادل، والإجازات والتأمين الصحي والتعويضات.
وعلى الرغم من الدور الفاعل الذي قام به المجلس القومي للمرأة ليخرج ذلك القانون إلى النور، نجده متضامنًا مع واضعي القانون في موقفهم المناهض للفلّاحة، إذ صمت في أثناء تمرير الفقرة الخاصة باستثناء العاملات في الزراعة من تطبيق مواد الفصل الخاص بتشغيل النساء في القانون.
وتنص المادة 97 من قانون العمل الجديد على استثناء العاملات في الزراعة البحتة من تطبيق أحكام الفصل الخاص بتشغيل النساء. يثير هذا الاستثناء تساؤلات، بما يعكسه من عنصرية تجاه العاملات في الزراعة (الفلاحات)، وتهميش متعمد لهن.
العلة في السبب
في محاولة لتفسير هذا اللغز، ينقل الكاتب خالد منتصر في كتابه الختان والعنف ضد المرأة، رأي منى ذو الفقار المحامية، التي ترى أن "السبب أنها تعمل بدون أجر في معظم الأحيان، ولذلك فهي لا تتمتع بأية حماية قانونية في ظل قوانين العمل السارية، ولا بأية حقوق في التأمينات الاجتماعية، كما أن حقوقها في الحصول على الائتمان والقروض وتسهيلات التسويق والمشاركة في تنفيذ البرامج الصحية وتنظيم الأسرة، تعتبر جميعها نظرية إلى حد بعيد، حيث يحول دون تطبيقها أو ممارستها نسبة الأمية العالية، وازدواج مسؤولية المرأة الريفية، وغيرها من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية".
فيما تُرجع دراسة الباحثة منى عزت استثناء العاملات الزراعيات، مــن فصل تشغيل النساء في قانون العمل الجديد، إلى طبيعة العمل في الريف، ومشاركة المرأة الرجل فـي النشـاط الزراعي.
وحسب الدراسة فإن عمل النساء في الزراعة عمل موسمي، فيعانين عدم الاستقرار، لذا يلجأن أحيانًا إلى الاستدانة، مما يضعهن تحت رحمة البحث المستمر عن العمل والالتحاق فورًا بالمتاح منه، فظروفهن الاقتصادية لا تتحمل رفاهية الانتظار لإيجاد بديل، كونهن يُعلن في بعض الأحيان الأسرة بأكملها.
كما تكشف الدراسة عما يتعرضن له من تمييز على مستوى الأجور، وتهميش في منظومة الحماية الاجتماعية وظروف عمل غير عادلة، في بيئة قاسية لا يتوفر لها أقل سبل الأمان. وهي أسباب تدفع إلى تأمين الحقوق وليس سلبها.
تتعامل مواد القانون مع العمالة المنتظمة فقط، أما العمالة غير المنتظمة، فتنظيم أمورهم متروك لقرارات وزارية
وقعت مصر على اتفاقيات دولية تضمن للمرأة الريفية حقوقها دون تمييز. وتعد الاتفاقية رقم 12 لعام 1980 لمنظمة العمل العربية التابعة للجامعة العربية، هي الوحيدة الصادرة عن مكتب العمل العربي التي تتناول الأوضاع الخاصة بالعمال الزراعيين في البلدان العربية بشكل عام، حيث نصت المادة 20 على "وجوب وضع سياسات تحمي اليد العاملة في قطاع الزراعة، وتكفل للعاملين في هذا القطاع حقوقًا متساوية مع أقرانهم في القطاعات الأخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف العمل في القطاع الزراعي وشروطه. هذا إلى جانب ضرورة توفير الرعاية الصحية والعلاج للعمال الزراعيين، مــع الحرص على شملهم في نظام التأمينات الاجتماعية".
كما تُخصص اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) المادة 14 للمرأة العاملة في الأراضي الزراعية، التي تكفل حقها في التأمين الاجتماعي والصحي.
ويتناقض القانون الجديد مع التزامات مصر بموجب الاتفاقيات السابقة، فضلًا عن مخالفته للمادة 17 من الدستور المصري، التي تنص أن تكفل الدولة توفير خدمات التأمين الاجتماعي. ولكل مواطن الحق في الضمان الاجتماعي"، وتكمل المادة سرد الحقوق الخاصة بالمواطنين بتخصيص حق المزارعين في المعاش "تعمــل الدولة على توفيــر معاش مناســب لصغار الفلاحين، والعمال الزراعيين والصيادين، والعمالة غير المنتظمة، وفقًا للقانـون".
تمييز طبقي
هذا الإصرار على مخالفة الاتفاقيات، تحاول ندى صلاح محامية حقوقية توضيح سببه، تقول "يعكس هذا النص من القانون طبقية بحتة، لم تكن موجودة حتى في القوانين السابقة، فبرغم الحراك النسوي والوعي، يأتي تعديل بهذا الشكل".
وتضيف للمنصة "نص العمى ولا العمى كله، في الوقت الذي يضمن قانون العمل الجديد حقوق المرأة العاملة في المدينة يغض الطرف تمامًا عن المرأة العاملة الريفية".
فيما ترى زينب خير محامية مختصة في قضايا العمالة غير المنتظمة، أن "القانون يظلم العاملات الزراعيات مرتين، مرة باعتبارهن عمالة غير منتظمة لا يطبق عليها قوانين العمل، ومرة باستثنائهن من قوانين العمل الجديدة" تقول للمنصة.
تفسر زينب ذلك بقولها " كان قانون العمل السابق، يضمن حقوق العمالة غير المنتظمة من حيث تأمين العجز وكبار السن، وهو مالا تتحصل عليه النساء في الغالب، نظرًا لعدم تقديمهن إثباتًا بعملهن في الأرض الزراعية".
وتضيف زينب "وفي حال إثباته، يضمن لهن تأمين الصحة أقل ما يمكن أن تحصلن عليه في حالات الإصابة، وحوادث النقل التي تحدث جراء نقلهن إلى أماكن العمل في مواصلات غير آمنة".
تتعامل مواد القانون مع العمالة المنتظمة فقط، أما العمالة غير المنتظمة، فتنظيم أمورهم متروك لقرارات وزارية، تتعاطى مع مشكلاتهم المختلفة، وبالتالي حسب المحامية الحقوقية "لا تحمل هذه القرارات قوة القوانين".
في حين ترى آية منير الناشطة النسوية ومؤسسة مبادرة superwomen في حديثها للمنصة أن فارق التوعية الكبير بين القاهرة والمحافظات يدفع إلى المركزية، تقول "يتأخر الحراك النسوي عندما يرتبط الأمر بالمرأة الريفية، نظرًا للفرق في الوعي بين بنت المدينة وبنت الريف".
تنسب ذلك الفارق إلى تخاذل القانون وعرقلة المسؤولين لهذه النوعية من الأعمال، وتعنت بعض العقول المتأخرة وعدم الالتفات لهن من وسائل الإعلام، وتدلل على ذلك بقولها "بعض من قضايا العنف التي لا يعلم عنها أحد، ومنها ما وصل حد القتل والحبس لم تصل للصحافة، ولم تغطها وسائل الإعلام".
تصف آية العنف الذي تتعرض له المرأة الريفية بـالعنف المركب أي عنف من الأسرة، ومن المجتمع، ومن المسؤولين، و"ينهش هذا التهميش من حريتها وصحتها وروحها وحقها في الحياة، ولا سبيل لمحاربته سوى بالتعليم"، تقول آية.
وفي تحرك برلماني لاستيضاح ما وراء ذلك الاستثناء، تقدمت النائبة منى عبد الله عضو مجلس النواب بطلب مناقشة عامة بخصوص المادة 97 من قانون العمل الجديد. مشيرة إلى أنه "تمييز قانوني صارخ ضد النساء"، مطالبة بضرورة تعديل القانون ليشمل العمالة الزراعية من النساء.
غير أن شيئًا لم يتغير؛ لا تزال أم محمد، تخرج في الصباح لتحني ظهرها في العمل الزراعي، وهي تعلم أنها لن تنال أجرًا على ذلك، كما لا يحق لها الذهاب لصرف الدواء لتعالج آلام ظهرها المحني.
تجلس أم محمد أو حيّة، الاسم الذي تنساه من قلة استخدام من حولها له، في ظل مجتمع يرى اسم المرأة عيبًا لابد من مداراته، تشرب الشاي المنعنع في الغيظ على الدكة في هدوء ساعة المغربية، تنظر إلى الأرض الممتدة أمامها بابتسامة تشي بارتباطها بها، رغم ما تتركه عليها من أثر ضربات الشمس المتكررة التي لا تحرق سوى جباه من لا قانون لهم.