كان الخوف يعتصر قلب نادية وهي تُلاحظ التغيرات الفسيولوجية التي تظهر على جسد طفلتها مريم المصابة بالتوحد الشديد، والتي كانت شارفت على بلوغ الـ12 من عمرها، ولا تُدرك شيئًا عما هي مقبلة عليه من تغيّرات عند البلوغ، ولا تستطيع العناية بنفسها أثناء الدورة الشهرية. وهو ما دفع الأم الأربعينية للبوح بمخاوفها لأخصائية التربية الخاصة ومديرة مركز التخاطب الذي تذهب إليه الطفلة منذ سنوات، بمحافظة البحر الأحمر، لتحصل على جلسات لتأهيلها.
فكان ردها "عادي ما تخافيش، ممكن تعملي لها عملية عشان تشيل الرحم"، أثارت كلماتها المزيد من المخاوف بدلًا من طمأنتها، إذ لم تمضِ سوى 4 سنوات على نجاح نادية في تعليم طفلتها الاعتماد على نفسها، والاستغناء عن الحفاض. وهو ما دفعها لمزيد من البحث عن أجوبة يطمئن إليها قلبها.
لجأت نادية، كما تفعل في الأمور التي تخص ابنتها المريضة، إلى مجموعة دعم أهالي أطفال التوحد على فيسبوك، التي تضم أيضًا متخصصين وأطباءً، لتسألهم. حذرتها إجاباتهم من العملية وآثارها الجانبية، وهو ما جعل نادية تعيد تقييم ما قالته الأخصائية بعين جديدة.
"واجهت الأخصائية فتأسفت لي، ولولا إن بنتي بتحبها ومرتبطة بالمركز ماكنتش هوديها هناك تاني، إزاي أعمل كدة في بنتي الوحيدة؟!" تقول نادية للمنصة.
حماية الشرف
تلك الفرصة التي حازتها نادية في الحفاظ على جسد ابنتها لم تواتِ عاملة التنظيف المنزلي الأربعينية، النازحة من قرية في الصعيد إلى القاهرة، مع زوجها سائق الميكروباص، وأبناءها السبعة ومن بينهم شيماء مصابة بإعاقة ذهنية، وتوشك أن تبلغ الآن عامها العشرين، لكن عقلها وإدراكها لا يتجاوز الثلاث سنوات، ولديها معدل ذكاء دون الـ30، وهو الذي يتراوح عادة عند الأشخاص الطبيعيين بين 85 و115 نقطة، إضافة لصعوبات في الكلام.
كانت سيدة تصطحب ابنتها شيماء معها إلى عملها، فكان بعض عملائها يُشفقون عليها ويجزلون العطاء لأمها، لكن البعض الآخر انزعج منها وخيّروا الأم بين تركها في البيت أو قطع عيشها، فاضطرت لتركها مع إخوتها الذين كانوا ينشغلون عنها باللعب أحيانًا فتخرج من البيت وحدها، ولأنها لا تعرف طريق العودة ضلت الطريق أكثر من مرة. كما كانت تذهب مع الغرباء بحسن نية ودون إدراك منها للمخاطر. لم تجد الأم حلًا سوى إرسالها وهي في عمر العاشرة إلى قريتها في الصعيد لتعيش في "بيت العيلة" مع جدتها وأخوالها وخالاتها.
قضت شيماء 4 سنوات من عمرها بهدوء تحت رعاية الأهل، وهي تلعب وسط صغارهم، تحكي الأم للمنصة، "المشكلة بدأت بعد البلوغ، كانت بتصرخ وتضرب راسها في الحيطة، وتكسر الحاجات، عشان موجوعة من الدورة". تستمر دورتها نحو أسبوعين من كل شهر لاضطراب هرموناتها، وتضيف "كانت بتشيل الفوطة الصحية وحتى القماش، اللي خالاتها بيحطوها في هدومها الداخلية، وتخرج الشارع بهدومها فيها بقع دم، عشان تلعب مع العيال".
تُمثل عمليات استئصال الرحم لذوات الإعاقة الذهنية شكلًا من أشكال التعذيب
وبعد مرور عام أو أكثر لم يعد في قدرة نساء العائلة الاعتناء بالطفلة وما يتطلبه ذلك من مجهود، "قالولي تعالي خديها، لكن ظروفي ماسمحتش" تقول سيدة، لتفاجأ في زيارتها التالية لأهلها بأنهم اتفقوا مع طبيب نساء وتوليد في قريتهم الجنوبية على استئصال رحم الفتاة التي تجاوزت الـ16 بقليل.
"قالولي بتك فضحتنا وهتجيب لنا العار، ماخبراش حاجة ومافهماش حاجة، هنستنى ترجع لنا في يوم حبلى؟!"، تبرر سيدة موافقتها على ما حدث لابنتها بقولها "شرف البنت زي عود الكبريت، والشورى والكلمة للرجالة، وأبو البت ووليها مش معترض، لأن عمرها ما هتتجوز".
ضمير الطبيب
تُمثل عمليات استئصال الرحم لذوات الإعاقة الذهنية تعديًا واضحًا على أجسادهن. وتعتبر الأمم المتحدة أن التعقيم القسري بحق الأشخاص ذوي الإعاقة شكلًا من أشكال التعذيب؛ لكن التشريعات في العديد من الدول تسمح للقضاة والمهنيين المعنيين بالرعاية الصحية وأفراد الأسر والأوصياء بالموافقة على إجراءات التعقيم باسم الأشخاص ذوي الإعاقة لمصالحهم الخاصة.
تتعلق القضية بتعامل الأطباء معها بشكل أساسي، على الرغم من إلزام قانون المسؤولية الطبية الطبيب بالحصول على موافقة ولي الأمر، بخصوص أي إجراء طبي لغير ذوي الأهلية، وأن يُوضح الطبيب لأهل المريض مضاعفات أو مخاطر القيام بالعملية الجراحية من عدمه، غير أن ذلك لا يحدث في أغلب الأحيان.
يؤكد خالد السطوحي، أستاذ النساء والتوليد بكلية طب القصر العيني بجامعة القاهرة، أن الأمر يخضع لضمير الطبيب وأخلاقياته المهنية، "لا يوجد تجريم قانوني إلاّ في حال اشتكى المريض من وقوع خطأ طبي تسبب في وقوع ضرر عليه، وذلك لا يحدث في حالات ذوات الإعاقة الذهنية الفاقدات للأهلية".
ويُفرّق السطوحي للمنصة بين ثلاث أنواع مختلفة لعمليات استئصال الرحم، الأولى يتم فيها إزالة جسم الرحم فقط مما يمنع نزول دماء الدورة الشهرية وحدوث الحمل. والثانية يستأصل فيها الطبيب أيضًا عنق الرحم وهو ما يتسبب لاحقًا في سقوط المهبل ومشكلات في الإخراج. أما النوع الثالث فتتم فيه إزالة الرحم وعنقه والمبيضين وقنوات فالوب، وتعاني حينها الفتاة من الأعراض الجانبية لسن اليأس، وتأثيرها على العظام والقلب والشرايين ومعدلات الكوليسترول وتجاعيد البشرة.
لا يقتصر التعقيم على العمليات الجراحية، يلجأ البعض إلى العلاجات الدوائية التي تُعطل عمل المبيضين بشكل كيميائي، "لكن لا يجب استخدامها لمدة أطول من ٦ أشهر"، كما يقول استشاري النساء والتوليد. ويعد السطوحي أقل أشكال التعقيم ضررًا هي ربط قنوات فالوب، فهي فعملية تمنع الحمل لكن لا تقطع الدورة الشهرية، بينما واحدة من أشد طرق التعقيم قسوة هي تعريض منطقة الحوض للإشعاع مما يسبب تليف الرحم، على حد قوله.
عنف فج
هذا الاعتداء الصارخ على أجساد الفتيات والمدفوع بالرغبة في حمايتهن من الحمل حال وقوع اعتداء جنسي عليهن، أو التخلص من مشكلة العناية الشخصية في فترة الدورة الشهرية "هو تصرف ظاهره الرحمة وباطنه عنف ضد النساء بشكل فج، وفي أقبح أشكاله"، كما تصفه انتصار السعيد الحقوقية ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون في تصريحات إلى المنصة.
ينص القانون على أنه يُعاقب من يقوم بإخصاء أو تعقيم أو إجهاض للأشخاص ذوي الإعاقة بالحبس المشدد
ترى انتصار أن هذا التصرف نابع من العادات والموروثات الثقافية التي تسيطر على المجتمع، وترى أن الرجل ليس له شرف والمرأة "شرفها بين رجليها" وأنها عورة تمشي على قدمين. "في الوقت نفسه تترك بعض الأسر أولادها الذكور المعاقين ذهنيًا يمارسون العادة السرية أمام الناس دون تأهيل لهم أو منع" تستغرب انتصار.
بدائل صحية
كما تحمل هذه الممارسة استسهالًا من الأهالي، لعدم بذل جهد في الرعاية والتدريب والتعليم، إذ يمكن بدلًا من الجراحة، تدريب الفتيات وتعليمهن كيفية الاعتناء بنظافتهن الشخصية، "الأمر الذي يتطلب اللجوء لمتخصصين في التربية الخاصة"، وهو ما تنصح به مها هلالي، مستشارة وزيرة التضامن الاجتماعي لشؤون الإعاقة والتأهيل.
تتفق معها أمنية الصفتي، مديرة المركز العربي لتنمية المهارات، والمتخصصة في تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة والتوحد، التي تقول للمنصة إن "الوعي والاكتشاف المبكر لحالات الاضطرابات النمائية ومنها التأخر العقلي واللغوي واضطراب طيف التوحد، واستخدام العلاج الغذائي الآمن للأطفال، بجانب جلسات التأهيل المكثف من تخاطب وتنمية مهارات وتكامل حسي وتعليم الرعاية الذاتية، يكون فارقًا للغاية في مثل تلك الحالات عند وصولها لمرحلة المراهقة".
وتضيف "أما الحالات التي لم تكتشف في وقت مبكر ووصلت لسن البلوغ، فيتم تقييم مستوى ذكاءها فإن كان متوسطًا فلا تزال هناك فرصة لتعليمهن كيفية الرعاية الذاتية والعناية الشخصية".
وترى أمنية في حال كان معدل الذكاء 30 بما يعني الإعاقة شديدة، لابد من توفير شخص يتولى رعايتها الذاتية وتنظيفها بشكل كامل، تقول "لذا من الأفضل إيداعها بدار رعاية أو إحضار مُربية".
جريمة بحكم القانون
يجرم القانون رقم 10 لعام 2018، والمعروف بقانون الأشخاص ذوي الإعاقة، هذه الممارسات ويعدّها أحد أشكال الإساءة لذوي الإعاقات، وتنص المادة 48 من القانون على أنه يعاقب من يقوم بإخصاء أو تعقيم أو إجهاض غير قانوني للأشخاص ذوي الإعاقة، أو التحريض على ذلك، بالسجن المشدد.
وتلفت الدكتورة إيمان كريم، المشرفة العامة على المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة، إلى تغليظ القانون العقوبة على من يعتدي على ذوي الإعاقة؛ حيث تنص المادة 58 على أنه يزداد بمقدار المثل الحد الأدنى للعقوبة المقررة إلى جريمة عمدية إذا وقعت على شخص ذي إعاقة.
فيما تقول مها هلالي للمنصة إن "إجراء مثل سحبهن من الأسرة يعتبر بالغ التعقيد"، بالإضافة إلى أن التضامن معنية فقط بحالات ذوات الإعاقات الذهنية من نزيلات دور الرعاية التابعة للوزارة.
كما لفتت انتصار السعيد إلى أن مشروع القانون الموحد لتجريم العنف ضد النساء والذي يناقشه البرلمان، سيوفر إذا تم إقراره مزيداً من الحماية للنساء ذوات الإعاقة الذهنية.
وترى إيمان، في حديثها للمنصة، أن كون ذوات الإعاقة الذهنية فاقدات للأهلية وذويهم أوصياء عليهن بشكل كامل، لا يعطيهم الحق في الاعتداء على أجسادهن، أو التسبب بضرر لحالتهن الصحية كإعطائها عقاقير لوقف أو تأخير الدورة الشهرية، لأن الأساس في الوصاية هو تحقيق المصلحة الفضلى للفتاة، والقيام بأي شيء من شأنه الاضرار بصحتها يُعد انتهاكًا لجسدها، ومن ضمن أشكال ممارسة العنف ضدها، وهو ما يمكن أن يضع الأوصياء محل اتهام، حال تطبيق مواد الحق في الرعاية التي تنص عليها قوانين الطفل والأشخاص ذوي الإعاقة.
لكن لا تملك شيماء القدرة على التقدم بشكوى في حق من قاموا بتعقيمها، رغم أنها تعاني من الآثار الجانبية، فهي خطوة تؤمن والدتها بحتميتها، على العكس من مريم التي استطاعت بعد مرور عامين على نصيحة الأخصائية المسمومة، النجاح في تعلم كيفية العناية بنظافتها الشخصية خلال أيام الدورة، تقول والدتها "فهمت إيه اللي بيحصل معاها، واتعلمت إزاي تفضل نظيفة، واتقدمت في الدراسة بتاعتها بعد ما قدرت تكون جمل وتعبر عن نفسها بشكل أفضل".