يمثل اتساع القطاع غير المنظم تهديدًا لفرص العمل المستدامة واللائقة، لأن العمالة في ذلك القطاع من دون عقود أو وظائف ثابتة، والأجور وساعات العمل شديدة المرونة، والحماية القانونية والاجتماعية غائبة. وهو ما يتعارض مع أهداف التنمية المستدامة 2030، وتحديدًا الخاصة بالقضاء على الفقر وتوفير فرص العمل اللائقة، والحماية الاجتماعية.
في إطار الاهتمام الدولي بالقطاع غير المنظم، أصدرت منظمة العمل الدولية في الدورة 104 في يونيو/ حزيران 2015 التوصية 204، التي نصت على ضرورة الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى المنظم. وهي عملية ليست سهلة، فالقطاع غير المنظم شديد المرونة والتنوع، وخصائص أنشطته الاقتصادية مختلفة.
لكن نظرًا لقيمته الاقتصادية بدأت بعض الدول العمل على تنظيمه، ومنها مصر التي اتخذت إجراءات مثل إصدار قوانين تتعلق بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتطبيق سياسات الشمول المالي، وتطبيق التأمين الصحي والاجتماعي على العمالة غير المنظمة، وإتاحة الحق في التنظيم النقابي.
من الصعب في مقال واحد التحدث عما أُنجز والتحديات بشأن عملية الانتقال إلى القطاع المنظم في مصر، لذلك سنركز هنا على العمالة المنزلية، وعدد من المحددات التي سنعتمد عليها للتعرف على الوضع الحالي، من خلال حصر البيانات والحماية القانونية والاجتماعية وسياسات التشغيل والتنظيم النقابي.
أولًا: حصر البيانات
يصعب بشكل عام حصر العمالة غير المنظمة، لأنه يسهل للشخص أن ينتقل بين أكثر من نشاط كما يسهل دخوله وخروجه من النشاط الاقتصادي برمته. ولكن بحسب تصريحات صحفية للمستشار القانوني لوزير القوى العاملة، تصل أعداد العمالة غير المنظمة إلى 10 أو 11 مليونًا في مصر، يتلقى منهم ثلاثة ملايين فقط دعمًا نقديًا من الدولة.
الثلاثة ملايين المتلقين للدعم هم نتاج حصر تقوم به وزارة القوى العاملة منذ أزمة كورونا. لكن حتى الآن لا يوجد تصنيف على أساس النشاط الاقتصادي، وأعداد الرجال والنساء، وبالتالي لا يوجد حصر عددي للعمالة المنزلية.
كذلك تتنوع مجالات العمالة المنزلية، فهناك حارس العقار، وهناك القائمين بمهام التنظيف، وأعمال الطهي، ورعاية الأطفال والمسنين، وأغلبها تقوم بها نساء.
ترفض كثير من العاملات الإعلان عن طبيعة عملهن خشية وصم المجتمع والشك في سلوكهن، أو تعرضهن للتنمر والسخرية والعنف الجنسي، حيث يتم التعامل معهن باستباحة شديدة، خاصة غير المتزوجات أو المطلقات أو الأرامل. وبالتالي تخفي النساء مهنتهن ولا تسجلها في البطاقة الشخصية.
ومع تغير خصائص العمالة المنزلية لم تعد تقتصر على الأميّات، فتعمل بعض النساء بشكل مؤقت عاملة منزل لحين إتمام دراستها أو زواجها، وتعمل بعضهن في مهن أخرى جانبية، ومنهن أيضًا طفلات تحت سن 18 سنة.
كل هذا يمثل صعوبة شديدة في عملية جمع البيانات، ويمكن حل هذه المعضلة من خلال وجود مكاتب وجمعيات ومؤسسات أهلية مسؤولة عن تنظيم عمل العمالة المنزلية، وهذا ما سنتناوله هنا.
ثانيًا: الحماية القانونية
تنص المادة 4 بند (ب) من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، على أنه "لا تسري أحكام هذا القانون على: عمال الخدمة المنزلية ومن في حكمهم". استند المشرع هنا إلى قاعدة تشريعية قديمة ترجع إلى القرن الماضي لا يزال معمولًا بها حتى الآن، أن للمنازل حرمة ولها خصوصيتها، وبالتالي لا يُقبل أن يتم تفتيشها مثل منشآت العمل الأخرى.
وترتب على ذلك حرمان العمالة المنزلية من الحماية القانونية، ومن حقها في إبرام عقد عمل يضمن لها أجر مناسب وساعات ومهام عمل محددة، وفترات راحة وإجازات. وأصبحت كل تلك الحقوق خاضعة إلى تقدير صاحب/ة المنزل. وباعتبار أن أغلب العمالة المنزلية نساء أميات، تضعف قدرتهن على التفاوض، وتصبح العلاقة بين الطرفين غير عادلة.
تعمل وزارة القوى العاملة حاليًا على إعداد مشروع قانون للعمالة المنزلية يستند إلى المعايير الدولية، ويحظر تشغيل العامل/ة المنزلي/ة سخرة أو جبرًا. وهذا يعد تغييرًا جذريًا في النظرة التشريعية للعمالة المنزلية، لأن صدور قانون يعني اعتراف بمهنة العمالة المنزلية وتقنينها، وتصبح الحكومة طرفًا بين صاحب/ة المنزل والعمالة المنزلية، ما سيسهم في تغيير العلاقة بين الطرفين.
تنص نسخة مشروع القانون التي يجري العمل عليها، واطلعت عليها كاتبة المقال، على إصدار عقد عمل نموذجي يتضمن الحقوق والواجبات الملقاة على طرفي العمل بما يتوافق مع معايير العمل الوطنية والدولية، ويُنظر أي نزاع أمام المحاكم العمالية المتخصصة، وتُعفى العمالة المنزلية من الرسوم القضائية في جميع مراحل التقاضي للدعاوى القضائية، كما تُعفى من ضريبة الدمغة كل الشهادات والصور التي تُعطى لهم والشكاوى والطلبات التي تُقدم منهم تطبيقًا للأحكام التي سينص عليها القانون الجديد.
رغم مرور أكثر من خمس سنوات على صدور قانون التنظيمات النقابة، لم تؤسس نقابة للعمالة المنزلية حتى الآن
كما نص مشروع القانون على أوقات العمل وساعات الراحة اليومية وإجازات سنوية ومرضية وإجازة زيارة الأماكن المقدسة، والإجازات الدراسية. وتلك ذاتها الإجازات منصوص عليها في قانون العمل رقم 12 لسنة 2003. كما نص على الحصول على أجر كل شهر على الأكثر، أو وفقًا لما يحدده عقد العمل باتفاق الطرفين.
كما أعطى مشروع القانون اهتمامًا بالتدريب والتأهيل المهني للعمالة المنزلية، ووضع شروطًا للعملية التدريبية وضوابط للجهات التي ترغب في تقديم التدريبات المهنية لهم، بغرض ضمان رفع مستواهم المهني.
ويعد الاهتمام بالتدريب والتأهيل مدخلًا مهمًا لتوفير فرص عمل مستدامة، وأيضًا المحافظة على العمالة المنزلية من تعرضها للإصابات المهنية بسبب نقص المهارة أو الخبرة. فضلًا عن أهمية التدريب في منحهم ترخيص مزاولة المهنة، وقياس مستوى المهارة، حسبما نص مشروع القانون.
ثالثًا: سياسات التشغيل
تنظيم عملية تشغيل للعمالة المنزلية إجراء بالغ الأهمية من أجل حمايتهم وخاصة النساء، لأن وجود جهة رسمية تتولى تنظيم التشغيل، وهي حلقة الوصل بين صاحب/ة المنزل والعاملة، يقوّي من قدرة الأخيرة على التفاوض على حقوقها والحصول عليها، ويجعل صاحب/ة المنزل يفكر جيدًا قبل التعسف في أي حق من حقوق العاملة.
ونص مشروع القانون على تولي الوزارة المعنية إعداد سجل لراغبي العمل وسجل آخر بطالبي العمال المنزليين، وتقديم ترشيحات لهم وفقًا للمهارات والخبرات. وفي تقديري، من الممكن أن تكون هذه العملية مسؤولية مشتركة بين وزارتي القوى العاملة والتضامن، ويرجع ذلك الاقتراح إلى أن وزارة القوى العاملة هي الجهة المعنية بقياس المهارة وترخيص مزاولة المهنة.
وتُجري وزارة التضامن عملية حصر بيانات العمالة غير المنظمة، لأن قانون التأمينات الاجتماعية وسياسات الحماية الاجتماعية في إطار عمل وزارة التضامن، فضلًا عن وجود مراكز خدمة في الوزارة للمرأة العاملة، وهي مراكز إنتاجية وخدمية لتخفيف الأعباء المنزلية عن عاتق المرأة العاملة. توفر تلك المراكز الوجبات الجاهزة، والملابس، والمشغولات الفنية، والغسل والكي، ومعاونات المنازل. وتعمل وزارة التضامن على تطوير مراكز خدمة المرأة العاملة، وتدريب وبناء القدرات المهنية للعمالة المنزلية.
رابعًا: الحماية الاجتماعية
يشمل قانونا التأمينات الاجتماعية رقم 148 لسنة 2019، والتأمين الصحي الشامل رقم 2 لسنة 2018، العمالة غير المنظمة ومنها العمالة المنزلية، ورغم ذلك لا تتمتع العمالة المنزلية حتى الآن بالحماية الاجتماعية. لأن ذلك مرتبط بإعداد قاعدة بيانات، وأن تسجل المهنة في البطاقة الشخصية.
وكما أشرنا أعلاه، تعمل كل من وزارتي القوى العاملة والتضامن على تسجيل بيانات العمالة غير المنظمة. ومن الضروري الوصول إلى صياغة مناسبة بشأن تسجيل مهنة العمالة المنزلية. فمن خلال مقابلات مباشرة أجرتها كاتبة المقال مع عاملات المنازل، فهن يخشين من الوصم المجتمعي، وتخفي أغلبهن مهنتها على الأهل والأقارب والجيران خوفًا من تعرضها هي وأبنائها للتنمر والسخرية والعنف.
خامسًا: التنظيم النقابي
تسري أحكام قانون التنظيمات النقابية 213 لسنة 2017 على العمالة المنزلية، وبالتالي يُتاح لهم تأسيس نقابة لها الشخصية الاعتبارية، ولهم الحرية في الانضمام إلى نقابة عامة، ما سيقوي قدرتهم على التفاوض بشان حقوقهم، كما يساعد الانخراط في التنظيم النقابي على بلورة مطالبهم وطرحها ضمن الحركة النقابية والعمالية بما يعزز وصول صوتهم إلى صنَّاع القرار وخلق مزيد من فرص التضامن والدعم.
ولكن رغم مرور أكثر من خمس سنوات على صدور قانون التنظيمات النقابة، لم تؤسس نقابة للعمالة المنزلية حتى الآن. لأن هذا مرهون بعملية تجميع هذه العمالة وإثبات المهنة في البطاقة الشخصية، وتوعيتهم بأهمية العمل النقابي ومساعدتهم على تأسيس نقابة. وهذا دور أساسي للنقابات والاتحادات العمالية.
يجب ألا يتأخر صدور قانون العمالة المنزلية أكثر من ذلك، وتسريع إجراءات الحصر وجمع البيانات، وتطوير برامج التدريب والتأهيل المهني. كما يجب تنظيم حملات توعية تهدف إلى تحسين صورة العمالة المنزلية، والنظر لها كمهنة مقدّرة لها عائد اقتصادي واجتماعي مهم على المجتمع ككل. فهي ضمن الأنشطة الاقتصادية التي تنضوي تحت اقتصاد الرعاية، الذي يستهدف تقديم الخدمات المرتبطة بأعمال الرعاية داخل الأسرة من خلال السوق، وتصبح أعمالًا تقدم بشكل مهني نظير أجر.
وبالتالي سيرفع توفير هذه الخدمات أعباءً عن الأسرة، وتحديدًا النساء اللاتي يقع عليهن العبء الأكبر في القيام بأعمال الرعاية، وسيتيح لهن القيام بأنشطة أخرى متعددة سواء على مستوى العمل المنتِج، أو الأدوار السياسية والاجتماعية.