ترجمة عن الجارديان
كان جوليو ريجيني، طالب الدكتوراة الإيطالي بجامعة كامبريدج الذي يبلغ من العمر 28 عاما، في طريقه لرؤية صديق عندما ترك شقته بالقرب من محطة مترو البحوث في القاهرة في 25 يناير.
كان يوما متوترا في الحي الصاخب الذي يقع على الجانب الغربي من النيل، حيث يعلق بائعو الشوارع نظارات شمسية بلاستيكية وكتب وأخذية على الطاولات المهزوزة، وكان يوم ذكرى بداية الثورة المصرية التي أسقطت حسني مبارك، وكان التوتر محسوسا في أنحاء المدينة بعد أسابيع من نشاط الشرطة المكثف الذي استهدف منع أي مظاهرات مؤيدة للديمقراطية.
كان هذا أيضا هو آخر يوم رؤي فيه ريجيني حيا.
بعد تسعة أيام، وبعد عدة أيام من إعلان وزارة الخارجية الإيطالية عن قلقها من اختفاء ريجيني الغامض، وُجِدت جثته على جانب الطريق الصحراوي بين مصر والإسكندرية: كانت على جثته آثار حرق وضرب وتشويه. اُنتزعت أظافره، وحُطمت ضلوعه وعانى من نزيف في المخ.
بالنسبة للخبراء الذين يدرسون السجل سيء السمعة لمصر في حقوق الإنسان، يحمل مقتل ريجيني كل علامات القتل غير القانوني الذي تقوم به شرطة أمن الدولة، الذي يُعتقد أنها وراء مقتل 474 مصريا في 2015 وحدها.
ولكن قضية ريجيني تبرز بين هذه الحوادث المرعبة: هذه أول حادثة قَتْل تحدث لباحث أكاديمي أجنبي يعمل في القاهرة، هو شخص المتوقع مضايقته أو ترحيله بسبب عمله، ولكنه يتمتع بحماية جسدية بسبب جواز سفره الأجنبي.
المسؤولون الكبار في إيطاليا لم يوجهوا الاتهام مباشرة إلى مصر. ولكنهم لم يترددوا في التعبير عن أن الدولة المصرية بحاجة إلى توضيح ملابسات الجريمة.
قال ماتيو رينزي، رئيس الوزراء الإيطالي، إن إيطاليا لن تقبل "حقيقة مريحة". "لأننا أصدقاء لمصر نريد أن نعرف المسؤولون عن الجريمة، وأسماءهم كاملة. إذا كان هناك من يعتقد أننا سنقبل بحقائق جزئية من أجل السياسة، نقول إننا إيطاليا... والحقيقة المتعلقة بجوليو ليست خيارا ولا رفاهية".
كان هذا أيضا ما طالب به باولو جنتيلوني، وزير الخارجية، الذي دعا إلى "التعاون التام والكامل من جهة السلطات المصرية" في التحقيق. أرسلت إيطاليا فريق محققيها للعمل في القضية، ولكن هناك دلائل على أن قدراتهم في متابعة ملابسات الحادث محدودة، وهذا يتضمن حقيقة أن الإيطاليين لم يكونوا حاضرين التشريح الأول لجثة ريجيني في القاهرة.
في إيطاليا، خمنت تقارير صحفية سبب مقتل ريجيني، ومن ضمنها نظريات فحصت البحث الحساس الذي كان يقوم به عن النقابات في مصر، والاتصالات التي كان يقوم بها، وحتى التقارير الصحفية التي كان يكتبها لجريدة شيوعية في إيطاليا تدعى "إل مانيفستو"، مستخدما اسما مستعارا، تلك التقارير التي كانت تنتقد الحكومة المصرية.
نفت أسرة ريجيني تماما الفكرة التي طرحتها الصحافة الإيطالية من أنه كان يعمل مع المخابرات الإيطالية.
يظل الخبراء حائرين عن السبب في مقتله، هل كان هذا نتيجة خطأ غريب ومهمل من شرطي صغير؟ أم قُبِض على ريجيني بين مجموعة من الناس اعتبروا مشبوهين بشكل عام؟ أم هل تم استهدافه بشكل محدد؟ ولو كان الأمر كذلك، فما سبب ذلك؟
قال رافاييلي ماركيتي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة لويس في روما، أن التفاصيل التي ظهرت حتى الآن تشير بوضوح إلى تورط المخابرات أو الأمن، ولكن من الصعب فهم سبب استهداف مواطن إيطالي، خاصة مع توقع الجلبة التي ستنتج عن ذلك.
يشير هذا إلى "خطأ فادح" أو من الممكن أن نقول صدع بداخل الأمن الوطني تحت قيادة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي حصل على السلطة بعد انقلاب عام 2013 الذي عزل الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي، الرئيس المنتخب ديمقراطيا.
قالت مارينا كالكولي، الأكاديمية بهيئة فولبرايت بجامعة جورج واشنطن التي عملت كباحثة في مصر وسوريا، إنه سواء كانت الحكومة هي مرتكبة الجريمة أو لا، يظل هناك لوم على الحكومة: "لأن هذا لا يمكن أن يحدث في سياق لا يكون فيه القتل غير القانوني أمرا يوميا".
أضافت كالكولي: "قضية جوليو غريبة لأنه كما يبدو كان معتقلا لأيام، من الممكن أن يكون قُبض عليه واُعتقل وعُذب وسط الهستريا المعادية للأجانب وللباحثين وربما تخطوا الحدود ولم يستطيعوا التوقف. لا يمكن أن تخلي سبيل أجنبي تعرض للتعذيب ببساطة، لأن هذا يكشف للعالم ما الذي تفعله بداخل سجونك".
تحولت القضية إلى أزمة دبلوماسية بين البلدين الذين تربط بينهما علاقات عميقة في الاقتصاد والأعمال والدفاع. ولكن لا يوجد دليل، بخلاف بعض التصريحات، على أن إيطاليا تعد نفسها لتضغط بشكل حقيقي على مصر.
وُجدت جثة ريجيني في الوقت التي كانت فيه وزيرة التنمية الاقتصادية الإيطالية فيدريكا جويدي في القاهرة في وفد يضم قادة أعمال إيطاليين، من ضمنهم رؤساء شركات طاقة إيطاليا. قطع الوفد زيارته فورا بعد ظهور جثة ريجيني.
أكثر علاقة أعمال مهمة بين إيطاليا ومصر تتركز في مجموعة إيني للطاقة التي تدعمها الدولة، التي أعلنت العام الماضي اكتشاف حقل غاز طبيعي ضخم في مصر. أعلنت "إيني" خطة تنمية للموقع، وتباهت بأن الصفقة ستسد احتياج مصر من الغاز لعقود.
ربما يكون الشيء الأكثر أهمية هو أن إيطاليا ستعتمد على دعم مصر السياسي في حالة إمكانية التدخل العسكري في ليبيا.
بعض الناس بداخل وزارة الخارجية المصرية، الذي تحدثوا بشرط أن يظلوا مجهولين وصفوا الإيطاليين على أنهم "يسعون للدماء... إنهم يريدون تسمية شخص بعينه وفضحه".
في إيطاليا، تركزت الأسئلة عن سبب اعتبار ريجيني كمصدر تهديد. من كل الجهات كان ريجيني رجلا موهوبا، كان يتحدث خمس لغات: الإيطالية والإنجليزية والأسبانية والعربية والألمانية- وكان كاتبا جيدا ويعمل بجد.
يقول صديقه باز زارات: "كانت اهتماماته واسعة: كان خبيرا في الشرق الأوسط مثلما كان في أمريكا اللاتينية. كان شخصا ودودا ومهذبا وكريما على المستوى الإنساني. قدراته في التواصل جعلت منه دبلوماسيا بالطبيعة، يبني الجسور بين الثقافات. كنت أعتقد دوما أن سيصير شخصا معروفا وسيجعل بلده فخورا به".
في اليوم الذي فُقِد فيه، قيل إنه كان في طريقه لمقابلة صديق يدعى جينارو جيرفازيو، وهو محاضر في قسم العلوم السياسية في الجامعة البريطانية في القاهرة، وكان من المقرر أن تتم المقابلة في مطعم بالقرب من ميدان التحرير. رفض جيرفازيو الحديث إلى الجارديان.
تقول المحامية راجية عمران: "شخص مثله، يتحدث الإيطالية ويتكلم عن مشكلات مثل هذه يلفت النظر. نحن نعيش مناخا معاديا للأجانب، من المرعب رؤية الناس الذي يأتون إلى مصر يُعاملون بهذه الطريقة"، تشير عمران إلى المناخ المتنامي المتشكك من الزوار الأجانب في مصر، هذا الذي ينتج عنه اتهامات لهم بالتجسس أو تنمية مشاعر معارضة للحكومة.
ذكر مصدر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ثلاثة أسماء درسوا العلاقات العمالية في مصر – هذا الموضوع الحساس – وانتهى بهم الأمر إلى أن اعتقلوا ورُحّلوا، ومُنعوا من دخول مصر مجددا منذ عام 2011.
علّق نشطاء الأسبوع الماضي لافتة في مبنى للجامعة الأمريكية تقول: "مقتل جوليو ليس حادثا منعزلا. فقاعة الجامعة الأمريكية لن تحميك".
وفقا لمكتب رئيس النيابة بالجيزة، بدأ التحقيق في اختفاء ريجيني يوم 27 يناير تقريبا، ولكن وفقا لحسام نصار، مدير النيابة في الجيزة، فلم يتم فحص شقة ريجيني إلا بعد اكتشاف جثته بحوالي خمسة أيام.
ينحصر التحقيق المصري حتى الآن في استجواب أصدقاء ريجيني، وفي حالة واحدة على الأقل لم يحضر محام أثناء الاستجواب
قال وزير الداخلية في بيان له يوم الأربعاء: "المعطيات والمعلومات المتوافرة تطرح جميع الاحتمالات ومن بينها الشبهة الجنائية أو الرغبة في الانتقام لدوافع شخصية، خاصة وأن الإيطالي المذكور يتمتع بعلاقات متعددة بمحيط محل إقامته ودراسته".
رئيس نياية الجيزة أحمد ناجي قال في وقت مبكر أن البحث سيتركز على الناس الذين عرفهم ريجيني في القاهرة. قال ناجي: "التحقيقات ما زالت تحاول معرفة من الذي كان يتعامل معه في الوقت الذي كان فيه هنا، ومن كانوا أصدقاؤه، وإذا كانت لديه مشكلات مع أي شخص، ومَن آخر شخص اتصل به، وآخر شخص قابله".
مثل هذه التخقيقات التي تدور حول حياة ريجيني وعلاقاته الشخصية، زادت من الشك في كون اتصالاته بنشطاء منغمسين في الحركة العمالية هي ما جعلته مستهدفا، وزادت أيضا من الضغط على أصدقائه المقربين لتجنب الحديث إلى الإعلام، إذ جعلهم هذا يخافون على أمنهم الشخصي.
بيان وزارة الداخلية المصرية لم يذكر تورط الأمن الوطني باعتباره من ضمن الاحتمالات، وأوضح ناجي ونصّار أنه ليس من المرجح استجواب عناصر الشرطة أو الأمن كمشتبه بهم في اختفاء ريجيني أو مقتله.
قال ناجي: "شهادات الشرطة والأمن الوطني ستتم، ولكننا لسنا في هذه المرحلة بعد". بينما قال إن التحقيقات تتبع ما سيقود إلى أصدقاء ريجيني: "لا يوجد وقت محدد لمعرفة موعد المرحلة التالية.
قال نصّار: "استجواب أي شرطي لن يكون مثل استجواب المشتبه بهم، ولكن لمعرفة وطلب معلومات عن قضية ريجيني". ورفض التعليق عن إذا كان ريجيني تعرض للمراقبة قبل وفاته.
من المتوقع أن الأمن الوطني بنفسه سيقوم بمهم تحديد قائمة المشتبه بهم، ما يجعل من غير المرجح أن يتم استجواب شرطي أو ضابط أمن في القضية.
يقول نائب وزير العدل والخبير الجنائي: "نرسل تقاريرنا إلى المحققين، يعمل المحققون من خلال الأجهزة الأمنية وتحدد تحقيقاتهم مَن المتسبب في الجريمة. ما نقوم به هو أن نزودهم بالأدلة التقنية في القضية".
مثله مثل المسؤولين الآخرين، رفض الشامي التعليق بشكل مباشر على التقارير التي تقول بتعذيب ريجيني.
يقول الشامي: "جريمة القتل مختلفة عن الجرائم الأخرى، يمكن للص أن تكون لديه طريقة معينة في السرقة على سبيل المثال. ولكن هناك آلاف الطرق لقتل شخص ما"، وأضاف أن طبيعة الإصابات لن تُستخدم لتحديد مَن الذي ارتكب الجريمة. يقول: "بعض الإصابات يمكن أن تُظهِر طبيعة الجريمة، ولكن لا يمكن أن تكشف من الذي قام بارتكابها".
مجموعات المجتمع المدني ليس لديها أمل كبير في إجراء تحقيق عادل. يقول حسين بيومي من المفوضية المصرية للحقوق والحريات: "سيتم التحقيق في القضية، ولكن من غير المرجح أن تلاحق الحكومة شخصا من داخلها".