على الضفة الخارجية من سور سجن طرة تبحث عالمة الرياضيات الستينية عن بقعة ظل تحميها من الشمس، تمضي الساعات الطويلة في حوارات جانبية مع أسر المسجونين ومعرفة قصصهم وتقديم الدعم لمن يحتاجه منهم، يدخلون لرؤية ذويهم ويخرجون ويذهبون إلى بيوتهم ويتناولون غداءهم وينامون بينما هي تنتظر، هي تأتي يوميا منذ أسابيع لا لتدخل إلى ابنها ولا ليخرج إليها، فقط تنتظر خطابًا بخط يده تتأكد منه أنه مازال حيًا.
على الضفة الداخلية من السور يبحث المهندس الأربعيني عن بقعة ضوء تساعده في تحديد الوقت، فهو ممنوع من ارتداء الساعة التي دخلت ضمن قائمة طويلة من الممنوعات تمتد من الكتب والمجلات إلى التوابل والبهارات، يعرف أن أمه بالخارج وأنها لن تغادر قبل أن تطمئن، وبقدر إشفاقه عليها من البقاء لهذه الفترات الطويلة فوق رمال صحراء طرة وتحت شمسها، بقدر ارتياحه لفكرة وجودها على أقل مسافة ممكنة منه.
"قولوا لليلى سويف تاخد عزايا" هذه الجملة المقبضة أوصلها محامي علاء عبد الفتاح إلى أمه لتبدأ من بعدها رحلات حج يومية إلى سجن طرة بحثا عن كلمة تروي ظمأها، تعلم أن علاء الذي مر سابقًا بعشرات الاختبارات، وقضى في السجن خلال السنوات العشر الأخيرة أضعاف ما قضى خارجه، لم يلمح أبدًا إلى نيته في الانتحار كما يفعل الآن، تعرف أيضًا أنه ليس من النوع الذي يهدد بما لا يفعل ولا يكذب ليكسب التعاطف، فهو يكره أن يكون مثيرًا للتعاطف أصلًا، لذلك فما دام قال فقد فكّر، وما دام فكّر فقد يفعل.
تلقت ليلى رسالة من علاء بعد ساعات من رسالته الأولى، قال فيها إنها كانت لحظة غضب نتجت عن فقدانه الأمل في الخروج من هذا السجن، وجدد فيها وعده لأمه بأن يبقى على قيد الحياة حتى يدفنها ويأخذ عزاءها بنفسه وليس العكس، لكن هذه الرسالة المقتضبة لم تكن كافية لتطمئن ليلى، تريد أدلة أخرى على أنه عاد قويًأ ومؤمنًا، كما كان دومًا، بأن كل هذا المر سيمر، تريد تذكيره بأن خالد يستحق أيامًا أخرى يقضيها معه ليعوضه بها عن سنوات الغياب.
يبتسم "التنين البمبي"، كما يناديه أصدقاؤه داخل الزنزانة، يراهن نفسه أن ليلى بالخارج، ولذلك كتب خطابًا جديدًا ليكون جاهزًا حين يأتي الضابط في طلبه، اليوم أو غدًا أو بعد شهر، أمه ويعرفها، لن تتوقف عن المجيء قبل أن تحصل عليه، وبقدر ما يشعر بالذنب لأنه أتعبها ولأنه ليس بجانبها، يشعر بالفخر لأن له أمًا مثل ليلى، أرضعته وشقيقتيه قوّة في الحق تثير الدهشة، تدفعهم إلى المقاومة في لحظات الخوف، وتقودهم إلى اليقين في لحظات الشك، وتصلب عودهم حين تنهكهم كثرة الضربات.
يدفع علاء ثمن كونه الرمز الأشهر لثورة مهزومة، كلما أراد المنتصرون لرايات نصرهم أن ترتفع أكثر.. حبسوه.
علاقة فريدة تلك التي تجمع ليلى وعلاء.
هو بالنسبة لنا الناشط السياسي وسجين كل العصور، نتذكره أحيانًا وننساه كثيرًا ونعود لنتذكره عندما يحدث تطور ما يمسه ونعود لننساه، هو بالنسبة إليها الابن الأكبر الذي تفتقده في كل تفاصيل حياتها، حين تذهب إلى الطبيب، حين تزور قبر والده، حين ترتفع درجة حرارة ابنه ليلًا، حين يؤذن المغرب في أول أيام شهر رمضان، حين تدرك أنها لا تمتلك رفاهية تقبيل جبينه ككل أم.
هي بالنسبة لنا الأستاذة الجامعية والناشطة الحقوقية والأكاديمية، أرملة المناضل الحقوقي البارز أحمد سيف، هي بالنسبة إليه الأم التي أورثته كعكة حجرية ومحبة تخترق الزنازين، التي تمر السنوات خلف بعضها دون أن ينفرد بها ليلًا فيشتكي أحزانه ومخاوفه ويشركها في أحلامه وأمانيه، التي يطرق باب بيتها كلما ضاقت به الأرض.
كل التفاصيل الصغيرة التي تعيشها ملايين الأسر بشكل عفوي يوميًا، تصبح أحلامًا عزيزة في هذه الأسرة. اختاروا هذا الطريق منذ عقود ويدفعون ثمن ذلك بشجاعة، كلما كلمت ليلى عن علاء تحدثَت في نفس الجملة عن زملائه في السجن وعن المجهولين الذين يعيشون ظروفًا أسوأ، كلما راهنوا على نفاد صبرها من افتراش الأرض أمام السجن نفد صبرهم أولًا بينما هي تحتفظ بنفس ابتسامتها الساحرة، تناضل من أجل علاء ومعه الجميع، تتحدث حتى عن ظروف حبس السجناء الجنائيين الذين يتعالى كثيرون حتى عن ذكرهم، تصطحب شقيقتها وابنتيها إلى بوابات السجن يوميًا في بدايات وباء كورونا للمطالبة بحق الأهالي في الاطمئنان على سلامة ذويهم بالداخل، تنتصر أحيانا وتتعثر أحيانًا لكنها لا تتوقف.
يومًا ما سينتهي كل ذلك، أو هكذا نتمنى، سيجلس علاء مع ليلى في شرفة المنزل وستطيح كرة سددها خالد بصينية الشاي، ستتهافت دور النشر على نشر الرسائل المتبادلة بينهما كتأريخ لتلك المرحلة، وسيكون نضالهما معًا، من أجل بعضهما ومن أجل الجميع، حكاية تُروى، وستقتنع أمهات أخريات أن الخوف على الأبناء لا يعني دفعهم للصمت، وأن الصمت أحيانًا يُهلك أكثر من الكلام.