يتفق معظم المؤرخين على أنَّ الثورة الصناعية التي انطلقت من بريطانيا منتصف القرن السابع عشر ثم تسيّدت أوروبا لاحقًا، شكّلت نقطة تحول كبرى في التاريخ، مع تزايد استخدام الآلة على نطاق واسع لزيادة كمية وجودة المنتجات، إلى أن حلَّت شيئًا فشيئًا محل نمط الإنتاج اليدوي الذي كان سائدًا قبلها.
بالطبع كان لاختراع العديد من الآلات دور مهم في هذه الثورة، لكنَّ أهمها هو المحرك البخاري الذي اخترعه عام 1764 المهندس الأسكتلندي جيمس وات (1736 - 1819).
لم يقدّم وات أوَّل محرك بخاري، بل الأكفأ. ونعجب من قلة معرفة مُخترعي تلك الآلات بقوانين الفيزياء التي تحكم عمل آلاتهم، لأنَّ هذه القوانين ستُكتشف بعد زمنهم بنحو مائة عام! مع قلة هذه المعرفة، واجه المهندسون حينها أسئلة تتعلق بكيفية زيادة كفاءتها، وما إذا كان ممكنًا أن تصل بها إلى 100%؟
لذلك حاول العلماء عبر دراسات عدة فك شفرة فيزياء المحركات البخارية، المتعلقة بأيِّ محرك بإمكانه تحويل الطاقة من صورة إلى أخرى.
كوَّنت تلك الدراسات ما نُطلق عليه اليوم اسم الديناميكا الحرارية، التي قادتنا لفهم العديد من الأنظمة الحرارية خصوصًا محركات البخار، ومهَّدت لاختراع محركات السولار والبنزين وأجهزة التبريد بأنواعها، فكان لها أثر واضح في استمرار الثورة الصناعية وتطورها. بل وبعد ذلك بعقود، أسهمت في تعميق فهمنا لفيزياء الذرات والجزيئات (الفيزياء الكمية).
بدأت أبحاث ذلك العلم بدراسة نظرية قدمها الرياضي والفيزيائي الفرنسي جوزيف فورييه (1768-1830) الذي كان حاكمًا لمدينة أسوان خلال الحملة الفرنسية على مصر. فورييه أوُّل من صاغ قانون انتقال الحرارة، باكتشافه أنَّ كمية الحرارة المنتقلة من جزء إلى آخر في وسطٍ مادي تتناسب مع فرق درجات الحرارة بين جزئي ذلك الوسط.
هل حقًا الطاقة باقية؟
ظهرت الأبحاث التجريبية والنظرية المتعلقة بالظواهر الحرارية بوضوح في عشرينيات القرن التاسع عشر. وبعدها بثلاثة عقود، بدأ الفيزيائيون يتفقون على مجموعة القوانين التأسيسية لذلك العلم، ومن أهمها القانونان الأول والثاني للديناميكا الحرارية.
صاغ الفيزيائي الألماني هلمهولتز القانون الأول، الذي نصَّ على أنَّ "طاقة النظام (جسم أو مجموعة من الأجسام) يمكن أن تظهر كشغل (أي عملية دفع جسم ما بقوة لمسافة معينة) يقوم به النظام أو كطاقة حرارية يعطيها النظام لجسم خارجه".
ما ينص القانون الأول على بقائه هو "الطاقة"، لا "الطاقة الحركية"
دعنا نعطي مثالاً على ذلك بأسطوانة معدنية بداخلها غاز درجة حرارته عالية. عندما تلمس تلك الأسطوانة واحدة أخرى درجة حرارتها أقل، فإن كمية من الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد، فيقلُّ محتوى طاقة الأسطوانة.
لكن هناك طريقة أخرى للتخلص من بعض طاقتها إذا كان هناك مكبس قابل للحركة في طرفها العلوي، حينئذٍ ونتيجة للضغط المتولد عن الحرارة يتحرك المكبس لأعلى، فيتمدد الغاز داخل الأسطوانة التي ستبرد نتيجة لذلك.
لاحظ هلمهولتز أيضًا أنَّ بإمكان النظام استخدام هاتين الطريقتين في زيادة طاقته. من ناحية أخرى، القانون الأول للديناميكا الحرارية هو أيضًا قانون بقاء الطاقة، أي أنَّ الطاقة تتحول من صورة إلى أخرى، لكنها لا تنفد ولا تُستحدث من العدم!
قد يتوقف القارئ للحظات غير مقتنع بما قيل، وعارضًا السيناريو الآتي: عندما أدفع كرة معدنية على أرضية ما فتجري بسرعة عالية (طاقة حركية كبيرة) في البداية تسير لمسافة ما، لكنها ستتوقف تمامًا بعد ذلك! فأين ذهبت تلك الطاقة؟ ألم تختفِ للأبد؟
أجيبُ: ما ينص القانون الأول على بقائه هو "الطاقة"، لا "الطاقة الحركية". سوف تتحول تلك الأخيرة تدريجيًا، نتيجة احتكاك الكرة مع الأرض، إلى صورة أخرى وهي الطاقة الحرارية التي ستُوزع بين الكرة والأرض، حيث سترتفع درجة حرارة كلٍّ منهما.
كذلك يؤكد القانون أنَّ كمية الحرارة المولَّدة في الكرة والأرض، ستكون مساويةً تمامًا للطاقة الحركية الابتدائية للكرة، أي أنَّ الطاقة بالفعل باقية، أو ثابتة لنظام ما.
تأملات كارنو
في عام 1824 قدم الفيزيائي الفرنسي سادي كارنو (1796 - 1832) دراسة مهمة بعنوان "تأملات في القوة الدافعة للنار/Reflexsions sur la puissance motrice du feu"، درس فيها كفاءة تلك المحركات في تحويل الطاقة الحرارية إلى طاقة حركية أو شغل لتحريك عربة أو رفع ثقل.
أوضح كارنو أنَّ الشغل يحدث عندما تنتقل كمية من الحرارة من جسم ساخن إلى آخر بارد. لو عدنا لمثال الأسطوانة المعدنية ذات المكبس، في درجة حرارة الغرفة يكون المكبس على ارتفاع معين، حيث تتساوى قوة الضغط داخلها مع وزن المكبس.
بذلك أجاب سادي كارنو عن سؤال الكفاءة السابق، لكنه لم يفسر فيزيائيًا تلك الإجابة، بمعنىً آخر، هل هناك قانون ما يمنعنا من صنع محرك بكفاءة 100%؟ في الحقيقة لم يمهل القدر كارنو ليكمل ما بدأه من دراسات، فتوفي بالكوليرا وعمره 36 عامًا. لكن لنفهم أكثر نتائج تجاربه وأبحاثه، لا بد أن نقدم قانونًا آخر، وهو القانون الثاني الذي يحوي بين طياته مفهوم الإنتروبي، أحد أهم المفاهيم في الفيزياء.
الإنتروبي يجيب سؤال الكفاءة
كان القانون الأول بالفعل ذا فائدة كبيرة في تتبع وحساب قيمة الطاقة وتحوُّلها من صورة لأخرى، لكنه لم يستطع الإجابة عن كثير من الأسئلة المهمة، ومنها سؤال كفاءة المحركات السابق مثلًا.
صاغ القانون الثاني للديناميكا الحرارية الرياضي والفيزيائي الإنجليزي اللورد كلفن (وليام طومسون 1824 - 1907) عام 1852، كذلك كان أول من استخدم مصطلح "الديناميكا الحرارية".
ينص القانون الثاني على أنه "في العمليات الحرارية لأي نظام مغلق (لا يتفاعل مع أي شيء خارجه) تزداد قيمة الإنتروبي لذلك النظام". أي أنَّ القانون الثاني يقدم لنا كمية فيزيائية جديدة وهي الإنتروبي، تساعدنا في فهم تغيرات الأنظمة الحرارية وطريقة عملها من خلال معرفتنا لحقيقة أنها دائمًا متزايدة.
لكن ما هي تلك الكمية وكيف نفهمها؟ الإنتروبي تقيس مدى العشوائية أو عدم التنظيم في المادة، فكلَّما زاد عدم التنظيم أو العشوائية في المادة زادت الإنتروبي. مثلاً لو كانت لدينا الكمية نفسها من البخار والماء عند نفس درجة الحرارة والضغط في حاويتين مختلفتين، لكان للبخار قيمة أكبر للإنتروبي، لأنَّ به فوضى أكبر، إذ أنَّ المسافات بين جزيئات الغاز أكبر من تلك التي بين جزيئات السائل، ما يسمح بحركةٍ وتخبِّطٍ وعدمِ انتظامٍ أعلى!
كذلك لو وضعنا كمية الغاز نفسها في اسطوانتين لهما الحجم ذاته، وكانت درجة حرارة إحداهما أعلى من الأخرى، ستكون قيمة الإنتروبي للأسطوانة الساخنة أكبر، لأنَّ الحرارة تزيد من طاقة حركة الجزيئات، ما يجعلها تتحرك بعشوائية أكثر، فتكون قيمة الإنتروبي أكبر.
لكن ما علاقة الإنتروبي بكفاءة المحركات؟ تُحوِّل المحركات الحرارة إلى شغل، وعندما يُحوِّل محرك كمية معينة من الحرارة إلى شغل، يَضيع قدر منها في زيادة الإنتروبي (التي لا بد أن تزيد طبقًا للقانون الثاني) فلا تتحول كلُّ الحرارة إلى شغل، وبذلك ستكون كفاءة ذلك المحرك أقل من 100% دائمًا.
يرى العديد من العلماء في اكتشاف الإنتروبي بالذات، أهمية خاصة
أهمية تلك الحقيقة تكمن في أننا لا نستطيع صنع آلة دائمة الحركة لا تستهلك أي طاقة! دعنا نحاول تصور مثل هذه الآلة المكوَّنة من جزأين؛ الأول يُحوِّل الحرارة إلى حركة بكفاءة 100%، فنأخذها للجزء الثاني الذي يحول الحركة لحرارة بكفاءة 100%، وهكذا ستظل تعمل الآلة إلى الأبد دون استهلاك أيِّ طاقة أو وقود!
مثل تلك الآلات دُرست في الماضي كثيرًا، ونسميها "آلات دائمة الحركة"، بالطبع لا يمكن صنعها لأنها تتكوَّن من آلتين تعملان بكفاءة 100% وهو أمر غير ممكن.
هذه المبادئ الأساسية للديناميكا الحرارية، التي أعجب كثيرًا عندما أرى العديد من المخترعين الصغار والكبار يظهرون في وسائل الإعلام باختراعات مختلفة لمحركات جديدة من حين إلى آخر، وهم لا يعرفون عن تلك الأساسيات شيئًا.
بالطبع معظم إن لم تكن كلُّ تلك المُخترعات الجديدة، يمكن تصنيفها كأنواع مختلفة من المحركات دائمة الحركة التي ذكرناها! فتجد مقاطع فيديو على اليوتيوب تحت عنوان "محرك دائم" أو "توليد طاقة بدون وقود" وجميعها آلات حُسِم أمرُها منذ أكثر من مائتي عام، على أنها محض وهم!
نعم، فسرت الديناميكا الحرارية عددًا ضخمًا من الظواهر الحرارية من خلال مفاهيم بسيطة، مثل درجة الحرارة والضغط وكمية الحرارة والإنتروبي، ما كان له كبير الأثر على التطور الصناعي والاقتصادي في أوروبا في القرون الثلاثة السابقة، لكن سيبقى أهم إنجازين لها قانون بقاء الطاقة وتوحيد صورها المختلفة من طاقة حركية وحرارية وكيميائية، وكذلك اكتشاف مفهوم الإنتروبي.
ويرى العديد من العلماء في اكتشاف الإنتروبي بالذات، أهمية خاصة، لآثاره في الكثير من مجالات العلوم والهندسة المختلفة مثل علم الاتصالات، نظرية المعلومات، فيزياء الحالة المكثفة، فيزياء الطاقة العالية، فيزياء الثقوب السوداء، وغيرها.