في أحد أيام نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2006، وبينما تستعد الأرض لاستقبال الشتاء، كان أستاذ الطحالب في قسم النبات بكلية العلوم جامعة طنطا مصطفى الشيخ، متجهًا نحو المطار قاصدًا أقصى الشرق حيث اليابان، في بعثة علمية لمدة ستة أشهر، حين قُدّمت له على متن الطائرة، أنواعًا مختلفة من الوجبات الخفيفة، بينها قطع تُشبه "السمبوسة" أو "المحشي" الذي نعرفه.
كانت الطحالب مكونًا أساسيًا لهذه الوجبة، وهو ما لم يكن غريبًا بالنسبة للأستاذ المتخصص الذي يخبرنا "تخضع الطحالب لعمليات تصنيعية معينة، فيتكوّن ما يُعرف بالنوري nori، الذي يُوضع فيه الجمبري أو أي نوع من الأسماك، بالإضافة إلى الأزر. ويُطوى تمامًا مثل محشي ورق العنب والكرنب"، وصفها بالمحشي الياباني مضيفًا " كانت طيبة المذاق".
المحشي الياباني
المحشي الياباني متعدد الأنواع، نعرفه نحن غالبًا بالسوشي أو الكيمباب. غالبًا ما تكون الأسماك داخل السوشي غير مكتملة الطهي، لكن مكونات الكيمباب تُطهى ويُضاف إليها زيت السمسم، ما يجعلها حلوة المذاق.
وبغض النظر عن طهي المكونات من عدمه، فالمشترك هو استخدام أوراق النوري، وهي أعشاب بحرية، أشهرها نوع من الطحالب الحمراء تُسمى البوريفرا porphyra، تعيش في المياه الباردة الضحلة، وتحتوي على نسبة تتراوح بين 30 إلى 35% من البروتينات، و40 إلى 45% من الكربوهيدرات، فضلًا عن كميات كبيرة من الفيتامينات.
ويوجد قرابة 60 إلى 70 نوعًا من طحلب البوريفرا في أنحاء مختلفة من العالم، وعادةً ما يؤكل مع الأرز. وتظل اليابان أحد أشهر البلدان التي ترتبط بتصنيع وجبات تضم النوري. يعلق الشيخ "كلمة نوري بالأساس يابانية"، لافتًا إلى أن هناك صناعة رائجة في اليابان قائمة على زراعة النوري أو الطحالب، لكن كيف وصلت إلى مائدة الإنسان من الأصل؟
الطحالب غذاء الأقدمين
في زمان لم أكن أنا ولا أنت فيه، قبل 14220 إلى 13980 عامًا، في مكان ما جنوبًا في نطاق تشيلي، التفَّ مجموعة من الأفراد حول موقد، في محاولة لطهي بعض الأعشاب. ربما شاهدوا حيوانًا، فراحوا يطاردونه، أو أخافهم شيء ما فابتعدوا، لكنهم في كل الأحوال، لم يعودوا أبدًا إلى مكانهم عند الموقد، وتركوه على حاله.
مرت آلاف السنين حتى عثر فريق بحثي من جامعة أوسترال في تشيلي على ذلك الموقد وحللوا العينات الموجودة فيه، فوجدوا آثار أعشاب بحرية وطحالب. افترض الباحثون أنّ القدماء كانوا يذهبون إلى الشواطئ للبحث عن الطحالب، وأنهم استخدموها في الطعام والعلاج.
سجل الباحثون ما خلصوا إليه في دراسة منشورة في دورية Science، مايو/ أيار من العام 2008.
ومن الجنوب إلى الشمال، تذكر دراسة أخرى منشورة في دورية Journal of Applied Phycology عام 2017، أنّ شعوب السمشيان، وهم السكان الأصليين لكندا، كانوا يفضل طحلب البيروبيا pyropia أو البوريفرا، ويزرعونه في بداية العام، ثم يحصدونه في شهر مايو.
وتذهب دراسة منشورة في دورية microbial biotechnology في سبتمبر/ أيلول 2017 إلى أنّ أفراد إمبراطورية الآزتيك استخدموا بعض أنواع الطحالب الدقيقة، مثل السبيرولينا بوصفها مكملات غذائية، أثناء سيطرتهم على المكسيك خلال القرن الخامس عشر الميلادي.
الآسيويون يرثون المائدة
يعد تناول الأغذية المعتمدة في تصنيفها على الطحالب جزءًا من الثقافة الآسيوية أكثر من أي منطقة أخرى.
ويُشير تقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في عام 2019، إلى أنّ دول شرق آسيا أنتجت قرابة 39 مليون طن للعام نفسه، وتأتي الصين في مقدمة الدول المستهلكة، تليها إندونيسيا ثم كوريا الجنوبية والفلبين، وبعدهما تأتي كوريا الشمالية واليابان.
لذا كانت رحلة الشيخ إلى اليابان فرصة للإطلاع على تلك الثقافة الخاصة والمرتبطة بمجال دراسته للطحالب، يقول للمنصة "عند دخول أي سوبر ماركت في اليابان، تجد هناك أقسامًا كاملةً مخصصة للطحالب بأنواعها المتعددة"، ويتابع "كذلك المطاعم، النوري هو أكثر الطحالب شيوعًا في الطعام هناك".
لكنَّ الأمر لا يقتصر على اليابان، فالتقرير نفسه يشير إلى أن معدل إنتاج دول الأمريكيتين من الطحالب وصل إلى قرابة 488 ألف طن، في استخدامات متنوعة أبرزها الغذاء. وعلى رأس القائمة كانت تشيلي التي تُنتج ما يزيد عن 426 ألف طن من الطحالب سنويًا، واحتلت المركز السادس عالميًا، ثم بيرو، تليها كندا، ومن بعدها المكسيك وصولًا إلى الولايات المتحدة التي تستهلك 3394 طن.
السبيرولينا طحلب فعال
ومن بين أنواع الطحالب المختلفة التي يستهلكها البشر، يبرز طحلب السبيرولينا spirulina، الذي يملك خصائص قوية مضادة للأكسدة، إضافة إلى مجموعة من الصفات المضادة لظهور الأورام السرطانية، وتعزيز المناعة، ولديه قدرة على التحكم في مستويات السكر في الدم.
يوضح الأستاذ في قسم النباتات "غالبًا ما يُستخدم طحلب السبيرولينا في بلادنا على هيئة أقراص للأغراض العلاجية"، وكذلك الحال بالنسبة لأنواع الطحالب الأخرى.
وينبه الشيخ إلى أنه رغم أهمية السبيرولينا العلاجية، فأن الاهتمام به في الغذاء أولى من الدواء، إذ تتفوق قيمته الغذائية على كثير من النباتات التي تدخل ضمن أنماط الغذاء المعتادة موضحًا أن "الجرام الواحد من السبيرولينا، قادر على خفض نسبة الدهون الثلاثية بنسبة 16%، والكوليسترول بنسبة 10%".
كما يحتوي ذلك الطحلب على نسبة كبيرة من البروتينات، وفيتامين ب، وبعض المعادن مثل الحديد والنحاس وعناصر أخرى مهمة مثل البوتاسيوم.
يتابع الشيخ "يحتوي أيضًا على الفايكوسيانين phycocyanin، الصبغ أزرق اللون المضاد للأكسدة، الذي يملك كثيرًا من الخواص والاستخدامات العلاجية".
الكلوريلا: من الأرض إلى الفضاء
يتسع نطاق استخدام الطحالب مع الوقت، ويُتوقع أن تصل إلى الفضاء ضمن الأطعمة المرشحة لأن تصبح غذاءً لرواده في رحلاتهم الطويلة، وتحديدًا طحلب الكلوريلا، وهو طحلب وحيد الخلية يتمتع بمستويات مرتفعة من القيمة الغذائية، ويضم نسبة تصل إلى 45% من البروتين.
وتشير دراسة منشورة في دورية Frontiers في يوليو/ تموز 2021، إلى إمكانية استخدام هذا الطحلب بالتحديد في هذه المساحة المتنامية، نظرًا للانتاجية العالية التي يتمتع بها، وانخفاض تكلفة إنتاجه، مقارنة بالمواد الغذائية الأخرى، إضافة إلى أن إنماؤه لا يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، بل ويساعد في إنتاج الأكسجين.
وفي مؤشر آخر على اقتراب ذلك الطحلب من الفضاء، خلصت دراسة لوكالة ناسا إلى فاعليته، وقالت في بيانها الصحفي إن تطوير فكرة توظيف الطحالب في غذاء الرواد أحد الأهداف الأساسية التي يمكن التحرّك ناحيتها، خاصة مع إمكانية تطويع الأنظمة البيولوجية والتحكّم فيها بعد بداية الرحلة، بعيدًا عن الأرض.
لماذا لا يستخدم المصريّون الطحالب في غذائهم؟
ربما يكون الفضاء أقرب إلى الطحالب من موائد المصريين رغم منافعها. ويرجع أستاذ علم النباتات ذلك إلى أنها "ثقافة شعب. سنحتاج إلى نشر الوعي بأهمية تناول الطحالب وضمها في النظام الغذائي".
واستشهد بالمشروم قائلًا "عندما ظهر المشروم (فطر عيش الغراب) في البداية لم يُقبل عليه الناس، إنها مسألة وقت".
ويرى الشيخ أن الإنسان إذا أدخل الطحالب كجزء من نظامه الغذائي، سيُقلل الاعتماد على البروتين النباتي والحيواني "قد تساعد على سد فجوة كبيرة فيما يتعلق بمشكلة نقص البروتين التي يعاني منها العالم الآن".
ويؤكد حديثه ما نُشر في دراسة بتاريخ مارس/ آذار 2019، أشارت إلى أنّ الطحالب الدقيقة تُنتج ما بين 4 إلى 15 طنًا من البروتين لكل هكتار سنويًا، بينما ينتج فول الصويا بين 0.6 إلى 1.2 طن لكل هكتار.
لدينا في مصر طحالب بحرية يمكن توظيفها كغذاء، وهي تنبت عند السواحل. يقول الأستاذ في كلية العلوم "لكن استخدامها في الوقت الحالي يقتصر على مساحات البحث العلمي داخل المختبرات فحسب".
ويشير الشيخ إلى أنها ليست في مأمن في ظل التغير المناخي، إذ يؤثر ارتفاع درجات الحرارة بشكل ما على الطحالب عند قيامها بعملية البناء الضوئي.
ويتابع "الساحل الشمالي ومنطقة أبو قير، كانت مليئة بالطحالب في الماضي، أما الآن، تآكلت الشواطئ، وصارت تلك المناطق عامرة بالأعمدة والمباني والقرى السياحية". مشيرًا إلى أنّ هناك عوامل بشرية ساهمت في تقليل كميات الطحالب التي كانت تنمو في تلك المناطق الساحلية.
نحو توظيف الطحالب
ظهر عدد من المشاريع الناشئة التي تستهدف زراعة الطحالب في مصر، خاصة طحلب السبيرولينا، لأهداف تجارية واستهلاكية بالكامل. وهو مؤشر على إمكانية توظيفه مستقبلًا وإن كانت كمية الإنتاج المتوقعة لا تزال متفاوتة، إذ يعتمد ذلك على أكثر من عامل مثل المساحة، والأجهزة المستخدمة، والطاقة اللازمة، وحجم الاستثمار، وغيرها.
يقترح الشيخ استغلال المناطق الجديدة التي تستصلحها الدولة مثل منطقة المغرة "يمكن استغلال الصحراء في هذه المشروعات عبر فتح قنوات لمياه البحر عند الساحل الشمالي؛ فالمياه المالحة توفر البيئة المثالية لنمو الطحالب".
يأمل الشيخ أن يتبنى المستثمرون ورجال الأعمال فكرة إدخال الطحالب في غذاء الإنسان، كما يشير إلى ضرورة نشر الوعي بين الناس عبر وسائل الإعلام، لربما يأتي يوم، ويهتم أحدهم، وتُصبح الطحالب جزءًا من مائدتنا، ووجباتنا في الطائرات بوجه عام، وليست المتجهة إلى اليابان.