في سن الثامنة عشر، ذهب ماثيو ووكر لدراسة الطب في مركز كوين بإنجلترا، لكنه اكتشف هناك أن الطب ليس ما يبحث عنه. يقول في كتابه الأهم لماذا ننام/why we sleep، الصادر عام 2017، "بدا (الطب) أكثر اهتمامًا بالإجابات، في حين كانت الأسئلة هي ما يسحرني ويأسر لبي".
يمكننا القول، بناء على رحلة ووكر في المجال البحثي، أن أغلب الأسئلة التي أغوته كانت ترتبط بالنوم، لماذا ننام؟ ومتى يجب أن ننام؟ وكم المدة الكافية للنوم؟ أحدثت إجابات هذه الأسئلة تغيرًا كبيرًا، على يده، في مجال البحث العلمي المهتم بذلك الفعل الحيوي.
ما يقدمه كتاب النوم؟
منذ صفحات الكتاب الأولى، يتجاوز ووكر فكرة أن النوم فعل خامل، متتبعًا أنماط نوم أسلافنا من القردة والحيوانات، مؤكدًا أهمية نظرية التطور في حياتنا. كما يجعل النومَ في كتابه سلاحًا يتوجب أن نمتلكه لنحيا حياة سعيدة آمنة، موجهًا نقده للمجتمعات الحديثة فيما يتعلق بطرق تعاملها مع ذلك العنصر الأساسي في الحياة.
الساعات المفقودة من النوم لا يمكن تعويضها بأي شكل
يولي الكاتب اهتمامًا كبيرًا بدحض الأكاذيب التي تنشرها صحافة المجتمعات الصناعية حول مدة النوم الكافية، وفكرة أن نقص ساعة واحدة، أو ساعتين حتى، من إجمالي ساعات النوم لن يكون ذا تأثير مطلقًا على الإنسان، موضحًا أن هذه الأكاذيب هدفها الأساسي زيادة الإنتاج فحسب، وأنها تضر أكثر مما تفيد، بما تُحدثه من تغيرات في الحمض النووي للإنسان، وإضعاف للمناعة، بل والإصابة بالسرطان.
ليس شيئًا واحدًا
في عام 1952، أحدث العالمان يوجين آسرنسكي/Eugene Aserinsky وناثانييل كليتمان/ Nathaniel Kleitman، من جامعة شيكاجو، ثورةً في مجال أبحاث النوم عبر استخدام الكترودات، أي أقطاب كهربائية، موصولة بثلاث مناطق، بهدف قياس جودة النوم، عبر رصد نشاط الموجات الدماغية، تحديدًا تلك المتعلقة به، وأيضًا عبر قياس المستويات المختلفة لنسبة الأكسجين في الدم، ونبضات القلب، والتنفس.
اكتشف العالمان أن النوم ليس شيئًا واحدًا متجانسًا، ولا مرحلة يدخل فيها الإنسان ثم يخرج منها، بل ينقسم إلى فترات، تتميّز كل واحدة عن الأخرى. فهناك مرحلة حركة العين السريعة، أسفل الجفنين المسدلين، تصاحبها دائمًا موجات دماغية نشطة، تكاد تتطابق مع الموجات المرصودة في أدمغة المستيقظين، أطلق عليها مرحلة Rapid Eye Movement (REM)، وهناك مرحلة تنعدم فيها تلك الحركة، وتحمل اسم "انعدام حركة العين السريعة" NREM.
ومع تطوُّر مساحات البحث العلمي، اكتشفنا أن نوم حركة العين السريعة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما نسميه "الحلم"، فأغلب الأحلام التي نراها خلال نومنا تحدث هناك.
ومع مرور الوقت، ازداد ما نعرفه عن الأدوار التي تلعبها هاتين المرحلتين من النوم في حياة البشر، وجودة ما يحظون به من نوم، وهي أدوار تجعل من النوم فِعلًا نشطًا ومؤثرًا، وأن غياب أي من النوعين قد يؤثر على حياتنا بالسلب، وأننا لا نستطيع بسهولة تعويض ذلك الفقد.
لم يصل ووكر وزملاؤه إلى نظرية حول أهمية تراتب هذين النوعين، لكنهم وضعوا بعض الأفكار المبدئية حول أن تتابع هاتين المرحلتين، سيساعد في تنظيم الخلايا العصبية ومساعدتها على لعب دورها، بمعنى آخر أن ذلك الشكل المتناغم يحمينا من أي خللٍ قد يُنتج لحنا ناقصًا في عملية تنظيم الخلايا العصبية.
عملية نمطية
يسهم هذا التناغم في الحفاظ على الصحة العقلية والجسدية، وهو يبدأ من منطقة تحمل اسم المهاد/hypothalamus، وهي المسؤولة عن صد الإدراك الحسي، أي عندما يشعر الإنسان بالنعاس.
النوم لأقل من 8 ساعات يسبب على المدى البعيد ضعفًا في الجهاز المناعي وقد يؤدي إلى الإصابة بأمراض تهدد الحياة
تحدث عملية النوم في المخ بصورة نمطية تمامًا، وأي خلل في أي من مراحلها قد يدمر الخلايا العصبية، ما يؤدي إلى مضاعفات خطيرة قد تصل في النهاية إلى الوفاة. وأي خلل يؤثر على الصحة العقلية قبل الجسدية، فالنوم إذن لا يحمي جسد الإنسان فقط، بل يحمي عقله كذلك، "فيما يتعلق بالذاكرة، يعني هذا أن النوم ليس مثل المصرف. لا يمكنك مراكمة الدين أملًا في تسديده بعد فترة من الزمن. فإما أن تنام حتى يجري تثبيت الذاكرة، وإما لن يحدث ذلك أبدًا" مثلما يقول في الطبعة العربية من الكتاب، التي ترجمها الحارث النبهان.
دائن لا يقبل السداد
يظن البعض أن بالإمكان تعويض النقص في ساعات النوم أثناء أيام العمل عن طريق النوم لفترات أطول في عطلات نهاية الأسبوع. لكن أبحاث ووكر وفريقه تثبت أن الساعات المفقودة لا يمكن تعويضها بأي شكل، وأن هذه ليست الطريقة التي يعمل بها الجسم البشري، فالنوم حسب ووكر، دائن لا يقبل السداد.
وفي كتابه يحاول ووكر توضيح ضرر الخطابات التي تحفز على النوم لأقل من ثماني ساعات، وتنتشر كالنار في الهشيم، مُركزًا على أن قلة النوم تسبب صورة من صور الاكتئاب على المدى القريب، وضعفًا في الجهاز المناعي على المدى البعيد، وقد تؤدي إلى الإصابة بأمراض تهدد الحياة مثل السرطان.
البطء لا يعني قلة الإنتاج ولا تدهور جودته، بل أن السرعة ليست دليلًا على الجودة من الأصل
في واحد من مقاطع الكتاب الطريفة، يصف ووكر النوم وكأنه مُنتج سحري يُعرض الجميع عنه، غير مدركين ما يحمله من فوائد هائلة. فهو يزيد من قوة احتمال الإنسان، ويمنحه ذاكرة حديدية، ويزيد قوته الجنسية، ويمنع الإصابة بكثير من الأمراض، وكأنك بتعاطي هذا الدواء قد خُلقت من جديد.
لكن رغم كل ذلك، يُعرض الجميع عنه، مفضلين ساعة أو ساعتي استيقاظ زيادة لإتمام المهام. بينما في الحقيقة، يفوق الضرر الناتج عن ذلك الوصف، ويدمر أجسادنا شيئًا فشيئًا.
في مديح الفعل الخامل
مؤخرًا، يتجه الباحثون في مجال علاج السرطان إلى دراسة أسباب حدوثه، سواء بيئية أو وراثية. واحدة من تلك المحاولات كانت لـديفيد جوزل/David Gozal، وفريقه من الباحثين، مطلع عام 2014.
يربط هذا البحث بين النوم المتقطع وقلة النوم ونمو الأورام السرطانية، إذ يؤدي عدم نيل قسط كافٍ من النوم إلى خفض نشاط إحدى الخلايا البلعمية التي يطلق عليها اسم "m1"، ويحفز نشاط الخلايا البلعمية الثانية "m2"، ما يُسرّع من نمو الخلايا السرطانية.
ومن هنا يبدو أن الخدعة التي تصدرها لنا كثير من المجتمعات الصناعية بشأن تقليل ساعات النوم لزيادة الإنتاج، تضر صحتنا على المدى البعيد، وتؤثر على جودة الإنتاج كذلك.
في كتابه في مديح البطء/In praise of slow، يحكي الصحفي كارل أونوريه/Carl Honoré أنه حاول في مرة أن يقرأ قصص ما قبل النوم لطفله، وفي هذه المرة بالتحديد استخدم كارل إيقاع حكي سريع، ليفاجأ بعدها أن طفله يبدي تذمرًا، ويخبره أنه لن يستمتع بالقصة لو حكاها بهذه السرعة.
يفكر كارل أن البطء لا يعني قلة الإنتاج، ولا تدهور جودته، بل أن السرعة ليست دليلًا على الجودة من الأصل. فهم كارل المسألة جيدًا وأدرك فضيلة البطء التي غيرت حياته.
ربما ما نحتاجه اليوم هو أن نفهم فضيلة النوم والتمهل، وأننا لسنا آلات، ونحتاج إلى النوم ليس لأنه فعل خامل، بل لأنه فعل نشط، يغير عالمنا ويمنحنا صحة أفضل، ويمنحنا حياة أقل عرضة للآلام والأمراض، ولذلك فعلينا ألا نتعامل معه باستخفاف أبدًا.