تعلم جميع الأطراف المنخرطة في مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا ينوي إنهاء العدوان على الشعب الفلسطيني، بل يستهدف إعادة احتلال القطاع، أو السيطرة الأمنية الكاملة عليه وإخضاعه كحدٍّ أدنى.
ففي مطلع مايو/أيار الماضي، نقلت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية عن مكتب رئيس الوزارء الإسرائيلي ما قالت إنها خطة تهدف إلى التخلّص من الخطر الذي تشكله غزة باعتبارها "معقلًا لإيران.. يُعطل البنية الإقليمية المعتدلة.. وسلاسل التوريد الناشئة من الهند إلى أوروبا".
تستهدف الخطة التي وضعها مجموعة من الخبراء لرئيس وزراء دولة الاحتلال في مرحلتها الأولى التي تنتهي منتصف العام المقبل إنشاء مناطق خالية من حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية، على أن تقوم قوات عربية وفلسطينية بمهمة ضبط الأمن وتنفيذ برنامج لمكافحة التطرف وتوزيع المساعدات الإنسانية في القطاع.
وتستمر المرحلة الثانية من 5 إلى 10 سنوات، تحتفظ إسرائيل خلالها بالمسؤولية الشاملة عن الأمن في غزّة، فيما تتولى الدول العربية مهمة "إعادة التأهيل والإعمار"، ويُسند للإدارة الفلسطينية "تنفيذ برنامج لمكافحة التطرف".
وفي المرحلة الثالثة التي تحتفظ فيها إسرائيل بالعمل ضد "التهديدات الأمنية"، تنتقل السلطة ببطء لحكومة محلية من غزّة أو حكومة فلسطينية موحّدة، على أن يكون ذلك مشروطًا بنجاح "اجتثاث التطرّف وتجريد القطاع من السلاح"، وفي النهاية تنضم السلطة الفلسطينية لاتفاقيات إبراهام.
"لن نقبل.. ولن نتراجع"
لم يكن لتلك الخطة أن تنجح إلا بإعلان الشعب الفلسطيني ومقاومته الاستسلام، تحت وطأة الضربات العنيفة التي يقوم بها جيش الاحتلال. لكن صمود الفلسطينيين واستبسال المقاومة من ناحية، وتمنُّع الدول العربية عن الموافقة على المشاركة في أي ترتيبات لها علاقة باليوم التالي إلا بعد وقف العدوان، أفسدا تنفيذ تلك الخطة وجعلاها حبرًا على ورق. إلا أن ذلك لم يدفع نتنياهو العنيد إلى اليأس، فجعبته لا تخلو من مخططات وسيناريوهات ترمي جميعها إلى إخضاع القطاع بما لا يسمح بأن تعود غزة بؤرة تهديد لأمن إسرائيل.
وعندما تتصاعد الضغوط الداخلية أو الخارجية على نتنياهو، يبدي بعض المرونة ويوافق على إرسال وفود مخابراتية وفنية للمشاركة في الجولات التي تُعقد في عواصم أوروبية أو عربية، لكنه في الوقت ذاته يضع العراقيل التي تحول دون إتمام أي صفقة مهما قدمت المقاومة من تنازلات.
نتنياهو يخرّب المفاوضات عندما يتمسك بفكرة البقاء عسكريًا في المحور
قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بالدخول في جولة التفاوض الأخيرة تحت ضغط أمريكي، إذ دعته الإدارة الأمريكية إلى المشاركة في المباحثات التي دارت بين الدوحة والقاهرة، بهدف "تبريد النار" التي أشعلها باغتياله القيادي العسكري الأبرز في حزب الله فؤاد شكر ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وتفويت فرصة الرد الذي توعدت به إيران وحلفاؤها على تلك الاستهدافات.
تنقلت الوفود بين مصر وقطر، لكن نتنياهو أعلنها صراحة أنه لن يترك القطاع وسيظل جيشه يسيطر على محوري نتساريم وسط القطاع وفيلادلفيا على الحدود المصرية ومعه معبر رفح، رافضًا كل المقترحات التي طرحها الوسطاء ومن بينها نشر قوة دولية على امتداد الشريط الحدودي الضيق بين مصر وغزة.
وضع نتنياهو برفضه كل الحلول الأمريكية والمصرية المقترحة "العقدة في المنشار"، وهدفه غير المعلن إفساد جولة المباحثات الأخيرة. فهو يعلم تمامًا أنَّ لا حماس ولا القاهرة ستقبل بوجود قوات إسرائيلية في محور فيلادلفيا، تمنع الهواء عن رئة المقاومة، وتخرق اتفاقية السلام وملاحقها الأمنية واتفاق المعابر مع مصر.
"لن نقبل بوجود ولو جندي إسرائيلي واحد على محور فيلادلفيا أو معبر رفح وهذا موقف حاسم لا يمكن التراجع عنه حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد مباشر بين مصر وإسرائيل"، هكذا عبَّر مصدر مصري مسؤول لكاتب هذه السطور عن موقف القاهرة من هذه القضية، لافتًا إلى أن مصر قد تقبل المشاركة مع دول عربية أخرى في ترتيبات اليوم التالي شريطة توقف العدوان.
نتنياهو يعطِّل.. والكل يعرف
"محور فيلادلفيا هو الخدعة الكبرى التي يتمسك بها نتنياهو منذ قيام دولة إسرائيل"، هكذا وصف اللواء يسحاق بريك أحد كبار قادة ألوية الاحتياط في الجيش الإسرائيلي مراوغة نتنياهو الأخيرة، لافتًا إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يسعى إلى خداع الجمهور عندما يعتبر السيطرة على المحور "إنجازًا كبيرًا لا يمكن الاستغناء عنه".
بريك قال في تصريحاته للقناة الثانية عشرة الإسرائيلية إن "الجيش موجود على المحور فوق الأرض، لكنه وفي الأعماق، يوجد العديد من الأنفاق التي تقع على عمق 50 مترًا تحت الأرض ولا يستطيع الجيش الوصول إليها".
ويعتبر اللواء الإسرائيلي أن نتنياهو يخرّب المفاوضات عندما يتمسك بفكرة البقاء عسكريًا في المحور، موضحًا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يتمسك بهذه القضية "حتى لا تنتهي الحرب في قطاع غزة لأن نهايتها تعني نهاية مستقبله السياسي".
في هذا السياق، كتب رئيس تحرير صحيفة هاآرتس الإسرائيلية ألوف بن تحليلًا يوم الأربعاء الماضي، لفت فيه إلى أن "غاية إسرائيل احتلال متواصل لقطاع غزة، أو مثلما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي مرارًا منذ بداية الحرب، سيطرة أمنية إسرائيلية".
وبرأي بن، فإن "السيطرة على محور فيلادلفيا وعلى طول حدود القطاع تسمح لإسرائيل بتطويقه من جهاته البرية الثلاث وعزله عن مصر"، فيما تسمح السيطرة على محور نيتساريم الذي يقسم شمال القطاع عن جنوبه من المنتصف، بتحديد أعداد النازحين الذين سيعودون من جنوب القطاع إلى مناطقهم في الشمال، الذي بقي فيه عدد قليل من السكان ومنازل وبنية تحتية مدمرة.
ويرى بن أن "جنوب غزة سيبقى لحماس، وستضطر الحركة إلى الاهتمام بالسكان الذين يفتقرون لكل شيء، مسجونين تحت حصار إسرائيلي، خصوصًا بعد أن يفقد المجتمع الدولي اهتمامه بهذه القصة وينتقل إلى أزمات أخرى (في العالم)".
وتوقع بن أن "نتنياهو يقدِّر أنه بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية سيتلاشى تأثير المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين على السياسة الأمريكية، حتى لو فازت كامالا هاريس. أما إذا عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإن نتنياهو يتوقع أن يمنحه المزيد من الحرية".
وخلص بِن إلى أن نتنياهو كرر خلال اجتماع حكومته الأسبوع الماضي شعاره الانتخابي من عام 1996 ضد اتفاقيات أوسلو، "مفاوضات وليس تنازلات"، وهذا يعني بالعبرية أن المنطقة المحتلة "لا تُعاد، ولا حتى بضغوط دولية"؛ وفي الجولة الحالية، و"لا حتى مقابل رجاء المخطوفين وعائلاتهم.. هذا هو هدف حربه".
مخططات نتنياهو مكشوفة لجميع الأطراف، وهدفه معلن، فكيف ستتعامل المقاومة.. وماذا سيفعل الوسطاء؟