غالبا آخر ما كانت تتمناه الصديقة والزميلة الراحلة شيرين أبو عاقلة هو أن يرى العالم جسدها ممددًا في تابوت يلفه علم فلسطين في "المقاطعة" برام الله حيث مقر الرئاسة الفلسطينية. كانت ستود أن تبقى واقفة على قدميها تمسك الميكرفون وتنقل للعالم، بصوتها الخفيض ووجهها الذي تغلفه مسحة حزن، معاناة الشعب الفلسطيني، وكيف أن الموت هناك على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي يقع على مسافة قريبة جدًا كل يوم.
والدي رحمه الله الذي عمل صحفيًا وتعلمت منه المهنة، كان يذكرني دائمًا قبل كل مهمة صحفية أقوم بها وتبدو فيها معالم الخطورة النسبية أن "الصحفي الباقي على قيد الحياة أفضل من الصحفي الميت. فالصحفي الحي سيواصل مهمة نقل الحقيقة للناس". لذلك أتصور أن شيرين كانت ستود أن تبقى على قيد الحياة، لكي تنقل الحقيقة للعالم عبر شاشة القناة التي جعلت اسمها وصورتها معروفين في كل بيت تقريبًا في العالم العربي. فالعمل صحفية ومراسلة تلفزيونية بالنسبة لشيرين لم يكن مجرد مهنة تتقاضى مقابلها راتبًا شهريًا، بل مهمة وطنية تُمثِّل فيها شعبًا يعيش في ظل احتلال عنصري بغيض، يكون الموت المستهتر فيه احتمالًا قائمًا كل يوم.
شيرين لم تكن مستهترة ولم تقم بمخاطرات تدرك أنها قد تودي بحياتها، وذلك كي تتمكن من مواصلة مهمتها الصعبة في نقل الحقيقة، بل كانت تدرك غالبًا رسالة أبي دون أن تسمعها منه مباشرة. ولكن هكذا هو الاحتلال الذي لا يعتبر حياة الفلسطيني أمرًا يشغل البال من الأساس. فالقتل يومي وبدم بارد، ولن يلاحق أحد جنديًا أو ضابطًا إسرائيليًا قناصًا استهدف بكل دقة رأس الشهيدة شيرين وأصابها إصابة مباشرة قتلتها على الفور. لم تشفع لها كلمة صحافة Press المكتوبة بحروف كبيرة على السترة الواقية من الرصاص التي كانت ترتديها وكذلك الخوذة. هو إعدام بدم بارد من دون شك.
رأيت شيرين كما الملايين من العرب مع بدء انطلاق قناة الجزيرة في عام 1996. الشعبية الطاغية للقناة عند انطلاقها كان السبب فيها تغطيتها لفلسطين وانتفاضة الأقصى في العام 2000 وفي كل الحروب اللاحقة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة. الحرب في عالم الإعلام تدور في جزء منها حول التحكم في نقل الصورة. الجزيرة كسرت احتكار الغرب للصورة الصادرة من فلسطين، كما كسرت الصورة التي كان تحرص الأنظمة الشمولية العربية على بثها عبر قنوات تلفزيونية رسمية خشبية لا يصدقها أحد.
أصبح لفلسطين، عبر شيرين أبو عاقلة وزملائها، صوت وصور يتناقلها العالم، وبدأت قطاعات من الرأي العام العالمي تدرك معنى الاحتلال ولماذا يقاوم الفلسطينيون إسرائيل. هم ليسوا إرهابيين فقط كما اعتاد العالم أن يسمع لعقود في الإعلام الغربي الذي تهيمن عليه السردية الإسرائيلية عن جزيرة التحضر التي تقع في بحر من الأعداء العرب المتوحشين الراغبين في محوها من الوجود. بل يتعرض الفلسطينيون، بالصوت والصورة، لتكسير العظام من جنود مدججين بالسلاح، والقتل بدم بارد برصاص حي، وحواجز مهينة وعنصرية في كل شارع وطريق، وهدم للمنازل، هذا عدا أطنان المتفجرات والقنابل التي تتساقط على مباني غزة في سلسلة حروب تقتل المئات دون توقف.
كان هذا هو الحال حتى إبريل/ نيسان 2002 عندما كلفت من رئيس تحرير الأهرام ويكلي أستاذي الراحل حسني جندي بالذهاب لرام الله، لتغطية هجوم إسرائيلي موسع كانت تقوم به قوات الاحتلال للمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية. لم تكن المرة الأولى التي أذهب فيها لتغطية مهمة صحفية في فلسطين، فلن أنسى أبدًا يوم صاحبت موكب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في عودته للمرة الأولى لقطاع غزة في 1994. شهدت مشاعر شعب يفرح بالحرية بما ظن أنه نهاية للاحتلال الإسرائيلي البغيض.
قبل يوم واحد فقط من انتهاء مهمتي، قام فدائي فلسطيني بتفجير نفسه في فندق إسرائيلي وقتل 22 شخصًا. ولم تكد تمضي ساعات حتى أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، أرييل شارون، بغزو واحتلال رام الله وصولًا إلى مقر "المقاطعة" التي كانت مبنىً صغيرًا في ذلك الوقت، يقيم فيه ويعمل الراحل ياسر عرفات. غطيتُ حروبًا من قبل في العراق وأفغانستان. رأيتُ صواريخ عابرةً للبحار والقارات تطير وتسقط على أماكن بعيدة نعرف لاحقًا كصحفيين أنها مقر وزارة أو مخزن سلاح أو حتى ملجأ يضم مدنيين.
أما في رام الله فكان الأمر مختلفًا تمامًا. كنت أفتح شباك الفندق الذي أقيم فيه مع صحفيين آخرين فأشاهد دبابات ضخمة تتقدم لتحطم كل ما تجده أمامها، بما في ذلك السيارات المتوقفة على جوانب الطرق. لم أفهم لماذا كانت تصعد الدبابة فوق السيارة وتمضي للأمام والخلف حتى يستوي هيكلها بالأرض تقريبًا. وعرفت معنى الجملة التقليدية "تساقط الرصاص كزخات المطر". لماذا يطلق جنود الاحتلال النار على مواسير المياه في الشارع وأعمدة الإنارة وواجهات المحلات؟ وما كل هذه الطائرات التي تحلق في السماء وتقصف مبانٍ بعيدة وقريبة؟ نعم الأرض كانت تهتز من التفجيرات. يطلق فلسطيني عدة طلقات نارية من شباك بناية ناحية جنود الاحتلال، فترد الدبابة بقذيقة مباشرة تحدث ثقبًا هائلًا في المبنى، من المؤكد قُتل المسلح الفلسطيني وكل المدنيين من حوله.
وسط كل هذه الظروف، رأيت شيرين تدخل الفندق الذي كان يقيم فيه الصحفيون وحاصره جنود الاحتلال من كل الجهات. لا أعرف كيف تمكنت من الدخول، ولكنني كنت في قمة السعادة أن أراها شخصيًا للمرة الأولى بعد سنوات من متابعتها على الشاشة. ها هو إذن صوت فلسطين. توجهت لها مرحبًا ومبديًا تقديري وإعجابي كصحفي مصري بكل ما تقوم به، فردت بودٍّ لتبدأ بعدها صداقة امتدت سنوات حتى وفاتها؛ 20 عامًا تقريبًا.
بعد يوم من احتلال رام الله، أخطرنا ضابط في جيش الاحتلال بفرض حظر تجول في المدينة وأنه من غير المسموح لنا كصحفيين الخروج من الفندق. قال إن المتاح الآن هو مغادرتنا جميعًا، وأن من سيقرر البقاء سيكون حبيس الفندق. ولكي يؤكد لنا جيش الاحتلال أنه يعني ما يقول، تم إطلاق زخات من الرصاص على صحفيين اثنين حاولا الخروج من الفندق لتفقد المدينة. رحل غالبية الصحفيين الغربيين بناء على توجيهات سفاراتهم، ولم يتبقَّ سوى عدد قليل من الصحفيين، ومنهم طبعًا شيرين أبو عاقلة، لنتحدث أكثر ونقترب أكثر كصديقين وزميلين.
مع مرور الوقت وأيام الحبس التي بلغت عشرة أيام متواصلة، أصبح لدي ما يكفي من جرأة لكي أقول لشيرين رأيي بصراحة في تغطيتها التلفزيونية. قلت لها: يا شيرين أنت صحفية رائعة وتنقلين كل ما نحتاج من معلومات وتحليلات ويزيد، ولكن لماذا تبدين دائمًا حزينة عندما تظهرين على الشاشة في نهاية تقريرك أو في المقابلات الحية؟ وكان ردها "ولك يا خالد وعلى شو بدي ابتسم. احنا هون ما بنغطي غير الهم والغم والموت". لم يكن لديَّ أي رد، ولكن أعتقد أنه مع الوقت اقتنعت شيرين أن تبدو معالم وجهها محايدة على الأقل أثناء التغطية الصحفية، خاصة وأنها في شخصيتها الحقيقة بعيدًا عن الكاميرا تمتلك ضحكة رائعة وتحب المزاح وتبادل النكات. فرغم كل "الهم والغم والموت"، لا بد أن تستطيع الضحك عند نقطة ما، حتى لو ضحكت على نفسك وعلى تصرفات غبية قد تقوم بها.
أخيرًا عرفنا من وسائل الإعلام أن مبعوثًا أمريكيًا سيصل إلى رام الله وتل أبيب لإقناع شارون بفك حصار عرفات في المقاطعة. وبهذه المناسبة، تم إخطارنا في الفندق بأنه سيتم رفع حظر التجول لمدة أربع ساعات فقط تتزامن مع زيارة المبعوث الأمريكي أنتوني زيني حسب ما أتذكر. لم تفكر شيرين ولو للحظة في مغادرة الفندق والعودة لمنزل أسرتها في القدس المحتلة، بل سارعت باصطحابي إلى مستشفى رام الله لنتفقد القتلى والمصابين.
كل الدمار الذي شهدته في المدينة لم يعادل الصدمة التي شعرت بها في المستشفى. لقد امتلأت المشرحة الصغيرة بجثث القتلى. كانت أول مرة تقريبًا أدخل مشرحة. الأدراج في الثلاجة التي يفترض أن يحمل كل منها جثة، احتوى الواحد منها جثتين في وضع متقابل. كانت الجثث بملابسها التي توفت بها ممدة على الأرض بعد أن امتلأت كل الأدراج. هل أنا في فيلم رعب؟ لا في رام الله بصحبة شيرين أبو عاقلة.
قرر الفلسطينيون سريعًا إحضار بلدوزر لحفر حفرة كبيرة في جراچ المستشفى لدفن الشهداء مؤقتًا، إلى أن يتسنى في وقت لاحق دفنهم بشكل لائق، ولتفريغ المشرحة الممتلئة.
تخليت عن مهمتي الصحفية، وقررت أن أعمل حانوتيًا مع الزملاء الفلسطينيين. نحمل الشهداء من المشرحة إلى الحفرة. صلينا سريعًا وبدأ البلدوزر مجددًا في ردم التراب على الحفرة. لم تبكِ شيرين، ولم أبكِ أيضًا، ولم نكن بحاجة للبكاء. فالحزن يحفر خطوطه على الوجوه لتصبح معالمه دائمة، ولكنني عرفت لماذا تبدو شيرين حزينة في أغلب الأحيان.
قبل سفري لرام الله، كان لديَّ طالبة فلسطينية ثورية في الجامعة أخبرتها أنني سأتوجه للمدينة التي وُلِدَت بها. قالت لي إنها لا تريد تعاطفًا عبر الكلمات، ولكنها تريد "أن يختلط الدم العربي بالدم الفلسطيني". بدا الكلام حالمًا طبعًا، ولكن هكذا هو حالنا جميعا ونحن في سن الشباب. بعد دفن الشهداء في رام الله تذكرت حديث طالبتي فحكيته لشيرين، وطلبت منها أن تساعدني أن أتبرع بالدم للجرحى الذين امتلأت بهم المستشفى. رحم الله امرئ عرف قدر نفسه. لا أستطيع القتال ولم أحمل سلاحًا في حياتي، ولكن لا بأس من التبرع بالدم، فيختلط بذلك الدم العربي بالدم الفلسطيني كما أوصتني تلميذتي.
وضع الأطباء الإبر في ذراعي، وبدأ ضخ الدم، ولكن الأمر استغرق الكثير من الوقت ولم يمتلئ الكيس تمامًا. اقتربت شيرين من السرير الذي كنت ممددًا فوقه ومازحتني قائلة "مش عم بتاكل منيح يا خالد. يعني لازم كل يوم فول الصبح؟" ضحكنا وسعدت جدًا لرؤية ابتسامة صافية صادقة لشيرين ابو عاقلة.
تعددت اللقاءات بعد ذلك مع شيرين في مصر والولايات المتحدة والدوحة حيث عملت أنا أيضًا مراسلًا للجزيرة على مدى أربع سنوات من مقر الأمم المتحدة في نيويورك. وفي كل مرة نلتقي نتذكر حكايات رام الله وتقابلني بوجه ضاحك بشوش قائلة "هيك منيح؟ ولا بدك الوج الحزين؟" لأ طبعًا يا شيرين، كنت أود أن أراكِ ضاحكةً دائمًا، تواصلين مهمتك الصعبة في نقل حقيقة ما يجري في فلسطين. ولكنه الاحتلال الذي قتلك بدم بارد وانت تقومين بعملك كما كل يوم، بتجردٍّ وإخلاص لا مثيل لهما.