عادت أمريكا لتشغل دور الشيطان في العالم العربي. منذ هجوم 7 أكتوبر على إسرائيل ظهر وتشكَّل هذا الدور مجددًا يومًا بعد يوم. نفس الدور الذي لعبته بريطانيا العظمى من قبل؛ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس في عهدها الاستعماري.
منذ هزيمة 1967 واحتلال إسرائيل لأراضٍ عربية، بدأ هذا الدور الشيطاني في منطقتنا بهذا الوضوح واقترن بحضور إسرائيل.
الآن نحن نلعب مع الشيطان مباشرة، مع هذه النسخة الجديدة من تلك الإمبراطورية الاستعمارية القديمة، بكل صلفها وجبروتها ومظهرها شديد القسوة. فالشيطان، أو ممثل الشر في العالم، نموذج شديد التعقيد ومتعدد الأوجه والأقنعة، أحيانًا يُمثِّل رمز الشر الصافي، فيما الوجه الآخر يرمز للخير الصافي، في أيقونة الخلق في ميثولوجيات العالم القديم.
لذا أمريكا وميلادها كدولة به مسحة من ميلاد عالم جديد، أو تحمل، بكلام عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار في كتابه "أمريكا"، لمحةً من بدايات الحياة "إنه عالم تعفن تمامًا بفعل الثروة (...) ورغم ذلك لا أستطيع أن أمنع نفسي من الإحساس بأن به لمحة من فجر الكون، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنَّ الدنيا بأسرها تواصل الحلم بهذا العالم، رغم أنه يسيطر عليها، ويستغلها فعلًا".*
دور الشيطان الخالد
يبدو أنَّ دور "الشيطان" هو الدور الخالد الذي لا تغيب عنه الشمس، وتفرزه أشكال الحياة التي اخترناها منذ فجر الكون كبشر وجماعات ودول وإمبراطوريات، للعيش وللنمو وتكوين الثروة، وأيضًا والأهم لانتخاب الأقوى.
هناك شعوب وأفراد الآن تسأل بلهفة حقيقية: لماذا يستعمر أحدهم الآخر؟
غالبًا هذا الأقوى له وجه أناني، لا ينظر إلا إلى داخله ككيان منفصل ومتعالٍ. ربما الأنانية نفسها جزء من مفهوم القوة، أو الطموح لها، لحيازة الثروة، أو العكس. فيتحول الشيطان مع الوقت، وتعاقب دورات الحياة والشمس والقمر وتوالي العصور، إلى كيان شره لا يريد سوى التوسع، لتتسع معها نظرته لنفسه، لإرضاء شره الثروة، مع الحفاظ على التوحد الذي يميزه عن الآخرين.
لا يجد هذا الأقوى على مدار التاريخ سوى رغبة التملك والاستئثار بالثروة، فتبدأ أعراض كثيرة لتغذية تلك الرغبة، مثل الاستعمار والاحتلال والاحتكار والاستغلال والطبقية والتمييز، أكثر من مفاهيم التعاون والمشاركة، إلا في أحواز وجيتوهات عالمية قليلة للغاية، هامشية في الأغلب، أغلبها بصبغة أيديولوجية يسارية في العصر الحديث، أو بصبغة دينية قديمًا وحديثًا.
الحاجة إلى أسئلة الأطفال
هل بإمكاننا تخيُّل مسار التاريخ دون هذه الإمبراطوريات؟ علينا العودة إلى أسئلة الأطفال، حتى وإن لم نتلقَّ إجابة، ففكرة التاريخ لم تنتهِ بعد؛ لا يزال مفتوحًا ولا شك، ينتظر إجابات جديدة.
من المهم جدًا أن نكون أطفالًا أحيانًا ونحن نطرح أسئلتنا، لأنها ستصبح خالية من النضح الذي يشكل تسليمًا بتنازلات وانحرافات عدة طالت مبادئ الحياة الأساسية، أهمها المساواة، وسؤال العدالة: القوة أم الحق؟
هناك شعوب وأفراد تسأل الآن بلهفة حقيقية، مستعيدة تاريخ الإنسان على الأرض، عندما تشاهد آلاف القتلى على الهواء مباشرة: لماذا يستعمر أحدهم الآخر؛ دولة تستعمر أخرى، وجنس يستعمر آخر، ولون يستعمر بقية الألوان؟
على الرغم من صغر حجم ووزن ذلك الصوت المتسائل، فإنه يشكل دومًا الوجه الآخر من أيقونة الحياة، وصراعها الأبدي بين الخير والشر، بين الظلم والعدل.
القدر النافذ
أصبحت أمريكا تلعب أيضًا دور "القدر"، كونها ملتصقة أكثر بمصالحها الذاتية، وبقانونها الداخلي الذي وضعته لنفسها، للحفاظ على تفوقها وسيطرتها دون اعتبار أيِّ نظرة أخرى، ولأن "الآخر" في هذا العالم لا يزال يحلم بها، فلن تجد من يلعب الدور المضاد، خاصة بعد تفكك الكتلة الشرقية. صبغت أمريكا العالم بصبغتها.
حتى ولو كان لعبها لدور القدر النافذ يحمل خطأً في الحساب، ولن يصبَّ في صالح من سيقع عليه الاختيار ليكون الضحية، كما حدث في فيتنام، ثم أفغانستان والعراق، وغيرها وغيرها، فإن القدر سيُنفَّذ بكلِّ تكاليفه ومضاعفاته التي ستدفعها تلك الشعوب، بالرغم من أنَّ نجاح ثورتها، كما تشير الفيلسوفة حنا أرندت في كتابها "في الثورة"، كان قائمًا على الحوار الديمقراطي بين جميع ممثلي المستعمرات الأمريكية الثلاثة عشر التي امتلكت نوعًا خاصًا من الحكم الذاتي، وساهمت في استقلال أمريكا، وإعلان الولايات المتحدة ضد رغبة الإمبراطورية البريطانية.
لذا عاشت أمريكا بالمخيلة في مكان بينيٍّ مزدوج؛ كونها رأسمالية شيطانية محتكرة ومغتصبة، وكونها الحلم، أو أهم تجربة وجود وميلاد لدولة حديثة متعددة الأوجه والأقنعة. أصبحت لها أبعاد ميتافيزيقية أكبر من وجودها الظاهر، الذي كان يُشكل دعوة دائمة لحل لغز تلك الظاهرة المركبة والمتعددة، فأصبحت بعيدة عن تصنيفها كدولة صاحبة أيديولوجية سياسية واضحة، أو دينية واضحة، أو شيطانية واضحة.
الواقع المفرط
ربما نشط ذلك الدور الشيطاني الصافي لأمريكا بداية من حرب فيتنام. ثم تأكد، مع صعود موجات التحرر في العالم في الستينيات.
ولكن مع الثمانينيات، وسيطرة القيم الاستهلاكية في العالم، بدأ الوجه الشيطاني يتخفَّى وراء أقنعة جديدة، بسيطرة سياسات الاستهلاك وأساطير العولمة والكونية والمتعة الخالصة، والنمط الجديد من "الاقتصاد غير المرئي المصاحب للموجة الثالثة من الثورات" بتعبير عالم الاقتصاد الأمريكي ألفين توفلر في كتابه "الموجة الثالثة".
فبعد موجتي الثورة الزراعية والثورة الصناعية الممتدة حتى سبعينيات القرن الماضي، جاءت الثورة المعلوماتية، أو المجتمع ما بعد الصناعي، وصاحب كلَّ ذلك تحول في بنية تفكير الفرد والجماعة، وطرق الإنتاج التي تعتمد على المعلومات.
والمعلومات كما تصنع الحقيقة، تصنع أيضًا بتقنيات الميديا الجديدة الوهم والسيطرة، وهو ما يسميه جان بودريار في "أمريكا" بـ"الواقع المفرط" الذي يصنعه الإعلام. واقع تمت معالجته "بحيث يكون أكثر واقعية من الواقع الحقيقي. وما يحدث بعدها هو عملية توليد نماذج لاتحتفظ بأصل، ولا تحيل إلى واقع حقيقي".
ربما هذا ما يفسر الإحساس بالزيف والاصطناع اللذين يميزان أمريكا وظواهرها. وربما هي إحدى صور الشيطنة المرتبطة بالتقدم التقني، وخلق حالة من الزيف بدون مرجع لإثباته.
الوجه الخيِّر لأمريكا
كنت شاهدًا على هذا التبدل من وجه الشيطان الإمبريالي إلى وجه الخير الصافي، عقب خفوت شعبية اليسار في العالم وفي مصر، وبعد حرب أكتوبر 73. ربما في أوقات سيطرة الأيديولوجيات، السياسية أو الدينية، يظهر الوجه الشيطاني لأمريكا، وفي غيابها، يعود الوجه الخيِّر للظهور.
لا أنسى زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لمصر عام 1974. عندما ذهب إلى الإسكندرية. كنت أحد تلاميذ المدارس الذين اصطفُّوا في الشوارع لاستقباله بعربته المكشوفة عند محطة سيدي جابر.
كانت هناك رغبة عارمة لدى الآلاف المؤلفة، على الأرض وفوق الأشجار والعمارات وأعمدة الإضاءة، في رؤية ذلك الوجه الجديد لسيد العالم، بالرغم من أننا كنا مثخنين بآثار حرب أكتوبر، ولا زلنا نحمل، كشعب وثقافة، أيديولوجية مقاومة للغرب الاستعماري الذي ناصر إسرائيل وحاول إنقاذها في تلك الحرب. ولكن يبدو أنَّ لا وعي الشعوب كان يتشكَّل تحت تأثير ظواهر أخرى.
المساواة وأصولها الأمريكية
هذه الديناميكية التي تُسيِّر كلَّ هذه المطالب "الشريرة"، وحتى على فترات تاريخية طويلة، ليست بسيطة، بل مُركَّبة وتعمل ليل نهار. يتشابك بداخلها أكثر من أسلوب للعيش، وبالتالي بجانب احتكارها وسائل تلبية رغباتها، تأخذ معها رغبات خيِّرة لتُغذِّي بها تلك الآلة الأخلاقية المنيعة، التي تقف وراء كل ذلك "الشر" الذي تستبطنه داخلها.
وربما يكون وراءَها أيضًا، في لا وعيها، مزروعٌ ذلك الخير الذي اتَّخذ أساليب معقدة ليحافظ على نفسه، كما حدث في بداية استقلال أمريكا وإقرار مبادئ الحرية والمساواة التي صاغها الآباء المؤسسون، ثم تحوَّل إلى الوجه الآخر الشرير.
تتحدث حنا أرندت في كتابها عن حضور فكرة المساواة في توزيع الثروة بين المستعمرات الثلاث عشرة أثناء احتلالها من بريطانيا "إنَّ الحياة على الأرض يمكن أن تنعم بالوفرة بدلًا من أن تُلغى بالندرة النزيرة، هو تشكك جرى قبل العهد الثوري، وهو أمريكي الأصل، فقد ترعرع خلال تجربة الاستعمار الأمريكية".
"ويمكن القول بشكل رمزي إن المسرح قد أُعدَّ للثورات بالمعنى الحديث، القائل بالتغيير الكامل للمجتمع، وذلك عندما كتب جون آدمز قبل عقد من اندلاع الثورة الأمريكية، قائلًا: أرى أنَّ استيطان واستقرار أمريكا هو بمثابة فاتحة لمخطط عظيم بعناية إلهية وذلك لتنوير الجاهلين، ولانعتاق المستعبدين من البشر في أرجاء الأرض كلها".
وفي مكان آخر تضيف "إن أمريكا قد أضحت رمزًا إلى مجتمع لا فقر فيه، قبل أن يكتشف العصر الحديث، بتطوره التقني الفريد، وسائل إلغاء ذلك الشقاء المهين الناجم عن الحاجة المحض التي كانت تعتبر دائمًا أزلية".
هذا هو المبدأ في المساواة الذي تأسس عليه الدستور الأمريكي وتلك الإمبراطورية الجديدة، حتى قبل أن تستقلَّ وتعلن انفصالها عن بريطانيا العظمى. ويمكننا الآن، بعد مرور أكثر من قرنين، معاينة التحولات الجذرية لذلك الدور الخيِّر!
وجه قديم للمعاناة
ربما لأنَّ القضية الفلسطينية لا يزال لها وجه قديم، بل شديد القِدَم، في شكل معاناتها واحتلالها ونقاء الظلم الواقع عليها، فقد استدعت كلَّ ميكانيزمات القوة والكذب السياسي والتضليل التي اختفت من أسواق العالم الحديث، فأعادتها أمريكا، وعادت معها لتشغل هذا المكان القديم للشر، في منطقتنا، وربما في العالم.
حياة المستعمِر جزء من حياة المستعمَر، مثل تقارب الشر بالخير والخير بالشر، ضمن ثنائيات الخلق
بالتأكيد هناك تجربة كبيرة تحيط بممارسات هذه الإمبراطورية الأمريكية، ولكنَّ هذا التوسع في القوة والسيطرة جاء بالطبع على حساب إلغاء الندرة العادلة من الحياة، في شكل علاقتها ببقية دول العالم، كأنَّ نظرية القوة ومسار الظلم هما سبيل البقاء الوحيد لهذا الوجه الاستعماري.
ربما لم يعد هناك وقت أو مكان لتمثلاتٍ أو أدوارٍ جديدة أو تحولات لهذا الدور الشرير، فقد استقر في الخانة الأخيرة بعد دوران كرة الروليت.
تفاهمات بعد حرب غزة
ربما بعد حرب غزة سنحتاج لعقد صلح وتفاهمات جديدة بين الشرق المستَعمر والغرب الاستعماري، بشقيه، القديم والحديث. تفاهمات لن تتوقف فقط على الصيغ القديمة، لأنَّ هناك علاقة جديدة أفرزتها حرب غزة المزلزلة التي استدعت كلَّ مخزون الوعي الجمعي المظلوم والمقهور.
أول هذه التفاهمات أن حياة المستعمِر جزء من حياة المستعمَر، مثل تقارب الشر بالخير والخير بالشر ضمن ثنائيات الخلق، لذا التفجير والانقسام الذي يحدث الآن في غزة، يحدث في عمق الجسم العالمي، وليس هناك حدود تحمي هذا الشكل السافر من الاستعمار.
دم صافٍ
يعود السؤال مرة أخرى، لماذا حدث هذا؟ نسائل أجدادنا هل فرَّطتم في الحياة ومنحتموها لغيركم ليستعبدكم؟ ربما الثروة سارت في طريق خاطئ، وكان بالإمكان وجود عالم آخر أفضل، ولكن على الأقل هذا الطريق الاستعماري الخاطئ أوصلنا إلى نهايات إنسانية فاجعة. ربما نبدأ من عصر ما بعد الإنسان والإنسانية، وليس عصر ما بعد الاستعمار، كما تُروِّج النظريات الأمريكية الآن.
الرحلة الإنسانية على الأرض كانت تُواجه دائمًا بتعقيدات في الاختيارات، ودائمًا كنا ننظر للخلف لنرى مكان الخطأ المشترك. ولكن حاليًا لا يمكن أن نغيَّر شيئًا، ربما لأنَّ هناك قوة انحدار وسيولة أكبر من أي مراجعة.
ربما ما يمكننا القيام به هو أن نؤخر لحظة الانفجار الكبرى. لا أعرف شكل هذا الانفجار المتوقع. هل سيكون هادئًا مثل الحرب الباردة واستجابتنا له معدومة كما يحدث الآن؟ فالذي يحدث الآن في غزة هو جزء من تراكمات الماضي الذي لا يزال يشع، وقسوته أنه غير قابل للترميز، لذا سيظل موجهًا ومُشعًّا، ومتجاوزًا أيَّ خطوط صاغها التقدم الحديث، أو احتياطات وحواجز عصور ما بعد الإنسان.
إنه دم صافٍ بريء.