"إذا كانت حماس معنية بوقف العنف في قطاع غزة فعليها أن تُلقي السلاح"، هذا بالضبط ما تسعى إليه الإدارة الأمريكية، وعبَّر عنه بشكل واضح ومباشر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن قبل مغادرته تل أبيب بساعات صباح الجمعة الماضي، ليستأنف جيش الاحتلال الإسرائيلي قصف المدنيين في غزة إثر فشل محاولات تمديد الهدنة الإنسانية التي استمرت لسبعة أيام.
بلينكن أعرب في مؤتمر صحفي عقده عقب مشاركته في اجتماع المجلس الحكومي الإسرائيلي المصغر (كابينت الحرب)، عن نيات واشنطن الحقيقية، التي تمثلت في أن تطلق فصائل المقاومة الفلسطينية جميع الأسرى الإسرائيليين لديها وتعلن استسلامها وتلقي سلاحها، حتى ينتهي العدوان وتبدأ غزة مرحلة جديدة وبقيادة جديدة "يجب أن نضمن أن يكون الحكم في غزة مختلفًا عمَّا كان عليه تحت حماس".
لا يمكن فصل زيارة بلينكن إلى تل أبيب ومشاركته في اجتماع الكابينت، عن فشل مفاوضات تمديد الهدنة ليوم جديد وصولًا إلى وقف شامل لإطلاق النار، فالرجل ذهب ليراجع خطط جيش الاحتلال الأخيرة لحماية المدنيين في غزة، ويطلب من وزير الحرب الصهيوني يوآف جالانت أن يجد طريقة لتقليل أعداد الضحايا والانتهاء من العملية العسكرية على القطاع خلال أسابيع "حتى لا تتصاعد الضغوط المحلية والدولية على واشنطن لوضع حد للقتال"، حسبما نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن مصدر مسؤول.
حاملة طائرات أمريكية
رغم ما أثير خلال أسبوع الهدنة عن انخراط الإدارة الأمريكية في مفاوضات وقف الحرب، فإنَّ كلَّ الدلائل تشير إلى أن واشنطن اتفقت مع حكومة نتنياهو على عدم إنهاء المعركة إلا بعد تحقيق هدفين؛ الأول تصفية المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها في غزة، أو على الأقل شل قدرتها العسكرية حتى لا تتمكن من تهديد أمن إسرائيل مجددًا، والثاني نقل مسؤولية حكم القطاع في مرحلة ما بعد حماس إلى إدارة موالية، تخضع مباشرة للتوجهات الأمريكية الإسرائيلية، وتسير على نهج سلطة رام الله.
عرَّض زلزال طوفان الأقصى الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بوضوحٍ للخطر
حماية أمن إسرائيل وضمان بقائها وإضعاف جيرانها، من أهم الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، فالدولة العبرية رأس حربة للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، التي بدونها قد يعاود النظام العربي ترميم شروخه وترتيب أجندته بما يتناسب مع إمكاناته ويحقق مصالح شعوبه، وهو ما سيؤثر بطبيعة الحال في مصالح الغرب الذي لا يزال يتعامل مع دول الإقليم باعتبارها مستعمرات يستحل مواردها ويحلب ثرواتها. هرع المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون إلى المنطقة بعد ساعات من تنفيذ المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى" البطولية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لتقديم يد العون إلى شريكتهم في هزيمتها المُذلَّة، وتوحدوا مع خطابها وبرروا عدوانها وقتلَها للمدنيين، وفتحوا لها مخازن أسلحتهم ونقلوا إليها خبراتهم التكنولوجية والاستخباراتية ولجموا رجالهم في المنطقة لضمان ألَّا تتعدى مواقفهم حدود الشجب والإدانة، ذلك أن دولة الاحتلال تمثل لهم حصان طروادة الذي ينفذون منه إلى أهدافهم بالإقليم.
"إن لم تكن هناك إسرائيل لأوجدناها"، قالها الرئيس الأمريكي جو بايدن عند مغادرته تل أبيب بعد بداية العملية بساعات، أما وزيرا خارجيته ودفاعه فيشاركان في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، باعتبارهما مسؤولَين صهيونيين وليس أمريكيين جاءا لإظهار الدعم.
عندما سُئِل المرشح الرئاسي الأمريكي روبرت كينيدي جونيور عن أسباب دعم حكومات بلاده المتعاقبة اللا محدود لإسرائيل قال إنه "إذا اختفت إسرائيل، فإن روسيا والصين ودول البريكس ستسيطر على 90% من النفط في العالم، وسيكون ذلك كارثيًا على أمن أمريكا".
ووصف كينيدي دولة الاحتلال في مقابلة تلفزيونية أذيعت قبل نحو شهر، بأنها "حصن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط"، وبتعبير آخر قال "إسرائيل تقريبًا أشبه بحاملة طائرات أمريكية في الشرق الأوسط". وأضاف "إنها أقدم حليف لنا، وكانت حليفتنا منذ 75 عامًا. لقد كانت حليفة لنا من حيث التكنولوجيا والتبادل وبناء القبة الحديدية التي دفعنا ثمنًا كبيرًا منها، وعلمتنا بشكل كبير كيفية الدفاع عن أنفسنا في مواجهة صواريخ العدو على أرضنا"، لافتًا إلى أنَّ وجود إسرائيل يمنح بلاده آذانًا وعيونًا في الشرق الأوسط "إنها تمنحنا الاستخبارات، والقدرة على التأثير في شؤون المنطقة".
عرَّض زلزال طوفان الأقصى الاستراتيجية الأمريكية التي تحدث عنها كيندي بوضوح للخطر، فما جرى يومها لم يقتصر على خطف وأسر عدد من الجنود والمستوطنين لمبادلتهم بالأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل، ولم يقف عند حدود فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ولا هز سمعة الجيش الذي لا يقهر، بل إنه فوق كلِّ ذلك هزَّ سمعة الولايات المتحدة ووضع مصالحها العليا أمام تهديد بالغ الخطورة، وعليه فإن مشاركتها في الحرب على غزة محاولة لاستعادة ما سلبه منها رجال المقاومة الذين صاروا حجر عثرة أمام الأهداف الأمريكية.
محاولات إنقاذ السمعة
قبل نحو أسبوعين، نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية تحقيقًا مطولًا تحت عنوان "الانهيار.. ماذا يعني فشل إسرائيل الأمني في مجال التكنولوجيا الفائقة بالنسبة للولايات المتحدة؟"، تناول خطورة تداعيات طوفان الأقصى ليس على دولة الاحتلال فحسب، بل أيضًا على المنظومة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية.
اتُخذ قرار القضاء على المقاومة لأنها كشفت ثغرات المنظومة العسكرية التي تُصدِّرها الولايات المتحدة للعالم
التحقيق تحدث عن سلسلة الجدران والسياجات الإسرائيلية التي يبلغ طولها 40 ميلًا على الحدود مع غزة، وتعج بـ"أجهزة استشعار وأسلحة آلية، كما أنها مدعومة بشبكة استخبارات إلكترونية تراقب كل مكالمة هاتفية ورسالة نصية وبريد إلكتروني في القطاع، ويقف جيش كبير مدرب تدريبًا جيدًا على أهبة الاستعداد بأحدث الأسلحة للرد بسرعة على التهديدات".
"بناء هذه الدفاعات تم بنفس التكنولوجيا التي يستخدمها الجيش الأمريكي للحفاظ على سلامة مواطنيه ومراقبة مصالحه حول العالم، والتي تستخدمها جيوش الناتو لمراقبة الحدود مع روسيا والشرق الأوسط. لذا، فعندما تسلل الآلاف من مقاتلي حماس عبر الدفاعات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر، وقتلوا أكثر من 1200 إسرائيلي، واحتجزوا أكثر من 240 رهينة، فإن ما كان يفترض أنه ميزة تكنولوجية هائلة بدا فجأة معيبًا إلى حد كبير!".
تردد صدى اجتياز تلك المنظومة في قاعات البنتاجون والمؤسسات العسكرية في العديد من البلدان، وشعر الخبراء العسكريون بالقلق "فإذا كان الأمن الإسرائيلي غير قادر على توفير الحماية ضد منظمة ذات تكنولوجيا منخفضة نسبيًا مثل حماس، فما هو الدمار الذي يمكن أن تحدثه روسيا أو الصين أو أي خصم متقدم آخر؟".
إضافة إلى هدف حماية أمن الدولة العبرية باعتبارها "حصن الغرب في المنطقة"، اتخذ المجمع الصناعي العسكري في واشنطن، الصانع الحقيقي للاستراتيجيات الأمريكية، قرارًا بالقضاء على مقاومة غزة، لأنها كشفت ثغرات المنظومة العسكرية والأمنية التي تُصدِّرها الولايات المتحدة للعالم، وأظهرت أن أمريكا وحلفاءها غير قادرين على حماية المشروع الذين يستثمرون فيه منذ 75 عامًا.
عندما فشلت كلٌّ من إسرائيل وأمريكا في تحقيق الهدف في الجولة الأولى من الحرب، وأوضحت أيام الهدنة أنَّ المقاومة لم تتأثر كثيرًا بالعملية التي استمرت أكثر من 45 يومًا، وأخرج رجالها لسانهم لإسرائيل وشركائها وخرجوا من الأنفاق مع الأسرى الأجانب والإسرائيليين وجابوا أحياء وشوارع القطاع.
جُنَّ جنون شركاء العدوان وقرروا استئناف المعركة وإعادة استهداف وقتل المدنيين حتى يلوا ذراع الفصائل ويخضعوها لشروطهم.
في تقرير نشرته يوم الخميس الماضي، قالت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية إن المسؤولين في الولايات المتحدة وإسرائيل يدرسون مقترحات تتعلق بإدارة الحكم في غزة بعد انتهاء الحرب "من بينها إنشاء مناطق خالية من حماس تتم إدارتها من قبل سلطة جديدة وطرد مسلحي الحركة إلى دول أخرى".
وتُبيِّن الصحيفة أنَّ القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين يواجهون تحديًا بشأن كيفية التعامل مع آلاف المسلحين الذين يمثلون أساس قوة الحركة. لمواجهة هذا التحدي، تكشف الصحيفة أن بعض المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين يبحثون فكرة طرد الآلاف من ذوي المستوى الأدنى وسيلةً لتقصير أمد الحرب.
استسلام المقاومة أو طردها من غزة وتكرار ما حدث عام 1982 عندما أُجبر ياسر عرفات ومعه آلاف المقاتلين الفلسطينيين على الفرار من بيروت بعد حصار إسرائيل للعاصمة اللبنانية أكثر من شهرين، صار هو الهدف الأساسي الذي يجب تحقيقه، حتى يتسنى للشركاء إتمام ما تبقى في بنك أهدافهم في فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط.