لقارئ التاريخ متعتان، لذة المعرفة وإدراك أصول العالم المحيط، ولذة الحكاية وصيرورة الزمن وما تفعله في البشر والمعتقدات. وببلوغ النشوة، إن تحققت في أي من المتعتين، يفوز المرء بغلاف من العدمية يحصن قلبه من الصدمات.
والمطالع للتاريخ يرى الدوائر تكرار نفسها، وذات الأخطاء ترتكب، وللأسف، في أغلب الحالات، نفضل التنافس والصراع، بدلًا من منافع التعاون والتبادل والتجارة. وليس هذا التكرار بدافع غباء متأصل في النفس البشرية كما يتوهم البعض، بل لأن شروط الجغرافيا والتاريخ، تساهم في تشكيل أنماط اقتصادية وسياسية تستمر لعقود وربما قرون.
بدايةُ رحلتين..
في يناير 1902 انطلق الأمير الشاب عبد العزيز بن سعود مع ستين رجلًا، أغلبهم من إخوته وشباب العائلة، في رحلة لاستعادة مدينتهم التي سُلبت منهم ونُفوا منها إلى الكويت، حيث عاش غالبية طفولته وشبابه في ظل حماية الأسرة الحاكمة في الكويت.
بستين رجلًا فقط، دخل عبد العزيز الرياض واستعادها من سيطرة أسرة آل رشيد، ليبدأ رحلة طويلة من الحروب لطرد العثمانيين، والمفاوضات لتوحيد البلاد، ليؤسس ما سيعرف بالدولة السعودية الثالثة.
ومِثل عبد العزيز بن سعود، كان فؤاد بن إسماعيل منفيًا مع والده خديوي مصر السابق إسماعيل باشا، حيث عاش مراهقته وشبابه بين الأستانة وإيطاليا، وتلقي العلوم العسكرية وعمل في الجيش الإيطالي وربطته علاقات وثيقة بالعائلة الملكية الإيطالية.
ومثل عبد العزيز، حلمَ فؤاد باستعادة مُلك أسرته أو تأسيس مملكته، وحاول بدعم من إيطاليا دخول ألبانيا على رأس مجموعة صغيرة من المسلمين الألبان، بحجة أصول عائلته الألبانية، وبحجة أنه مسلم وسيلقى حكمه قبولًا من الألبان المسلمين. لكن تحالف الدول الأوروبية أفشل مخططاته وأحلامه، وبدلاً من ألبانيا وقع الاختيار عليه لتنصيبه سلطانًا على مصر في 1917.
مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بسطَ عبد العزيز بن سعود سلطانه ليشمل معظم الأراضي السعودية، اللهم إلا أراضي الحجاز التابعة للشريف حسين. بينما نجح فؤاد في استغلال مطالبات الحركة الوطنية المصرية بالاستقلال والسيادة، وانتزاع المزيد من الصلاحيات لنفسه، وتنصيب نفسه ملكًا على مصر.
نهاية الحرب تبعها الانهيار الحتمي للإمبراطورية العثمانية. وهو ما فتح الباب أمام طموحات الملوك الجدد لوراثة النفوذ العثماني وملء فراغ غياب الخلافة الإسلامية. الشريف حسين يحلم بلقب ملك العرب، والملك فؤاد يرى نفسه خليفة للمسلمين.
أما عبد العزيز بن سعود فكان أكثرهم واقعية. انصب طموحه على الداخل؛ توحيد البلاد، ونشر الأمن والعمران لنقل المجتمع من حال الحركة والتنقل إلى التوطين وتأسيس المدن الصالحة للإقامة، تستلهم مجد الماضي، وتتطلع للمستقبل. وسيظل هذا الشاغل الرئيسي لملوك السعودية المتعاقبين حتى وصلنا إلى مرحلة تأسيس مدن ما بعد الإنسان، المصممة لتناسب حياة الروبوتات والشركات والحسابات البنكية المعفية من الضرائب، وليس البشر.
من الخلافة إلى الممالك القومية
حاصر السلطان عبد العزيز بن سعود الشريف حسين في جدة، وحاول الملك فؤاد التوسط بينهما. ليس بغرض الصلح بين الغريمين، بل ليقدم نفسه كوريث محتمل للخلافة الإسلامية، ويضمن حيازة الأزهر ورعاية الحرمين الشريفين.
وقف حزب الوفد والحركة الوطنية المصرية ضد طموحات الملك فؤاد، التي رأوا فيها توريطًا لمصر وهدمًا لجهود تأسيس دولة مدنية ذات دستور ينظم شؤونها، ومجالس نيابية منتخبة.
كذلك رفضَ الملك عبد العزيز وساطة الملك فؤاد، وانتهت الحرب النجدية الحجازية في ديسمبر/كانون الأول 1925، بتسليم الهاشميين آخر معاقلهم في جدة، وتنازل الملك علي بن الحسين عن حقه في حكم الحجاز، ليغير عبد العزيز لقبه من سلطان ليصبح ملكًا على الحجاز ونجد.
بدد قيام المملكة السعودية أحلام الملك فؤاد بالخلافة، خصوصًا بعد موقعة المحمل عام 1926. ففي أول موسم للحج بعدما صارت مكة تحت حكم الملك عبد العزيز، وصلت القافلة المصرية تتقدمها فرق الموسيقى العسكرية التي تصحب كتيبة حراسة الحجاج كالعادة. ولكن هاجمهم أتباع جماعة إخوان من أطاع الله، ورموهم بالحجارة والرصاص هاتفين "يا كفار يا مشركين يا عباد العود".
حاول الأمير فيصل التواصل مع الحجاج المصريين وإقناعهم بالتوقف عن استخدام الأبواق لأن الإخوان يعتقدون أنها مزامير الشيطان، وحين جرح ضباط وعساكر مصريين ردت الكتيبة بالمدفعية والأسلحة ووقع ضحايا من الجانبين.
كان وقع حادثة المحمل كبيرًا على المصريين، واستغلها فؤاد للتصعيد مع عبد العزيز. وأصبغت الصحافة والنخبة المصرية كل صفات الشيطنة على المملكة الناشئة. مجلة اللطائف المصورة ستنشر في مارس/آذار 1926 تقريرًا مدعمًا بالصور عن "استئثار ابن السعود بالعمل وتخريب الآثار المقدسة في الحجاز". وحملت صفحات المجلات صورًا لآثار إسلامية لم تعد موجودة، مثل مزار علي بن أبي طالب، وصورتها على أنها هدم وتخريب مقام مولد النبي عليه السلام، هدم مزار وبيت السيدة خديجة.
توسعت بروباجندا الشيطنة من الجانبين. في السعودية صار المصريون مشركين وعبّاد قبور ومعازف، وفي مصر صار الوهابيون والنجديون أعداءً للإسلام يريدون تغيير طقوس الحج، ويهدمون ويخربون الآثار الإسلامية. لكن الحقيقة أن عمليات تخريب الآثار الإسلامية والاعتداء على المحمل وقافلة الحجاج المصريين، كانت من أفعال جماعة الإخوان السلفية المتشددة والمتحالفة مع الملك عبد العزيز.
طه حسين مدافعًا عن الوهابية
في المقابل، دعت قلة من الكتاب والمفكرين إلى النظر إلى المملكة الوهابية بشكل موضوعي، بعيدًا عن العداوات التاريخية بين الأسرة العلوية وآل سعود.
نشر طه حسين عام 1932 ورقته الرائدة الحياة الأدبية في جزيرة العرب، وفيها حاول تقديم قراءة ثقافية للمشهد في شبه الجزيرة بعيدًا عن صراعات النفوذ بين العائلات الحاكمة. وصف طه حسين دعوة محمد بن عبد الوهاب وتحالفه مع حكام الدرعية بأنها دعوة إصلاحية هدفت إلى استعادة الإسلام وتخليصه من شوائب الجاهلة التي طفت على حياة القبائل وسكان شبه الجزيرة.
ووجه نقدًا شديد اللهجة للحروب المصرية والتركية ضد شبه الجزيرة العربية قائلًا، "ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب، وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو جدًا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول".
ويكمل صاحب في الشعر الجاهلي، الذي قضى حياته متبحرًا في تاريخ شبه الجزيرة وآدابها القديمة والمعاصرة:
"فبينما كان الترك والمصريون يحاربون الوهابيين، كان أنصار القديم من علماء العراق... يردون على هذا المذهب ويكفرون أصحابه. وكان الوهابيون يناضلون عن مذهبهم...
وكان أولئك وهؤلاء ينشرون الرسائل والكتب التي يجمعونها، كما أخذوا ينشرون الكتب القديمة التي يُرجع إليها في التماس الأدلة والبراهين. وكذلك عادت الحياة القوية إلى مذهب أحمد بن حنبل الذي تبعه النجديون، ونُشِرت كتب ورسائل كثيرة لابن تيمية وابن القيم...
وليس من شك عندي في أن هذه الحركة نفسها قد أيقظت أهل اليمن أيضًا، فنهضوا يدفعون عن مذهبهم الزيدي؛ ينشرون كتبهم القديمة ويؤلفون كتبًا جديدة في الفقه والتوحيد والحديث، وما زالت مطابع القاهرة إلى الآن تطبع الكتب المختلفة لحساب الوهابيين من أهل نجد والزيديين من أهل اليمن".
رأى طه حسين في ظهور المملكة الوهابية فرصة عظيمة لإحياء حركة الترجمة والنشر وإعادة قراءة القديم ونقده. ورأى بابًا للحوار يوقظ الحضارة العربية النائمة تحت السرير، ويعيد الاعتبار إلى التنوع الثقافي الذي اعتبره دليل غنى ووقود لمحرك التقدم.
ورغم إدراكه لطبيعة المشهد السياسي وصراعاته، لكنه أكد على مسؤولية المثقفين والكتاب في مصر وأرض نجد والحجاز على التواصل والقراءة والكتابة، وإثراء العربية وآدابها، وأن يكون التواصل الأدبي والثقافي قائمًا بغض النظر عن التقلبات السياسية.
صفحة جديدة
سعت الحكومة الوفدية المنتخبة برئاسة سعد زغلول لمد أواصر الصداقة مع المملكة، نكاية في الملك فؤاد واعترافًا بالرباط التاريخي والجغرافي الأبدى بين المملكتين. بل واستضافت نجل الملك عبد العزيز الأمير سعود أثناء زيارته إلى مصر لإجراء عملية جراحية في عينيه.
مجلة اللطائف المصورة، التي كانت منذ شهور تصف ابن سعود بمخرب الآثار الإسلامية، غطت الزيارة وأفردت الصفحات طوال ثلاثة أشهر لنشر صور الأمير الشاب الذي أصبغت عليه صفات الكرم والشجاعة والحصافة وغيره من أوصاف وسياسات التفخيم المعتادة في الصحافة المصرية في تعاملها مع الأسر الحاكمة في الخليج.
لكن بخروج الوفد من الحكم، أشهر الملك أسلحته الثقيلة وانقطع حتى التمثيل الدبلوماسي بين المملكتين.
وعلى هذا ستسير الأمور بين البلدين، حيث تنافس الحكام على النفوذ الإقليمي، يدفعهم إلى تأجيج الخلافات الثقافية ورفض التنوع، وفرض صور نمطية موحدة عن الذات القومية تُشيطن الآخر وتعاديه، وتخلق الاغتراب بين واقع الفرد وتصورات حكامه عن هويته.
فحقيقة الأمر أن موقعة المحمل لم تكن خلاف هوياتي أو ديني حول حرمة المعازف، بل لأن مصر حافظت، ومنذ عهد صلاح الدين، على حق تاريخي في إرسال المحمل ورعاية حجاج بيت الله؛ وهذه الأمانة تحتاج جيشًا يحميها. وفي كل موسم حج كان الحجاج يسيرون مع كتيبة مدججة بالمدافع والأسلحة، التي لم تكن متاحة حتى داخل السعودية. كما أن الكتيبة وقافلة الحجاج تتصل بأشراف مكة وتمدهم بالدعم، وهو ما رأته المملكة الناشئة تهديدًا لاستقلالها وسيادتها.
سلطة خدمة الحرمين
كان صلاح الدين الأيوبي أول من حمل لقب خادم الحرمين الشريفين. فشرعية صلاح الدين وحروبه الصليبية نهضت بالأساس على حماية وتأمين الحجاج من اعتداءات الصليبيين. واستمر حكام مصر المتعاقبين في اعتبار الأمر جزءًا أصيلًا من مهام السيادة.
ستعود مصر إلى إرسال الكسوة بعد اتفاقية جبل الرضوى عام 1936، وسيستمر الأمر على هذا الحال حتى انقطاع إرسال المحمل عام 1961، إثر احتدام الخلافات التي تطورت إلى مواجهة عسكرية بين عبد الناصر وفيصل في اليمن.
خدمة الحرمين لم تكن ورقة ضغط ونفوذ سياسي يتصارع عليها حكام البلدين. فمع بدايات القرن العشرين، وقبل موقعة المحمل في 1926، كان هناك أوقاف مخصصة للإنفاق على خدمة الحرمين والحجاج، وخياطة كسوة الكعبة التي بدأت منذ عهد عمر بن الخطاب بالقماش القباطي، نسبة إلى أقباط مصر، وتحولت إلى مشروع اقتصادي يعمل فيه طوال العام مئات الحرفيين والمهنيين.
وبعد الحج تعود الكسوة القديمة إلى مصر لتقطع وتوزع على بيوت أعيان وأمراء مصر للبركة والتفاخر. لكن كل هذا انتهى بعد موقعة المحمل، ومعه انتهى الحج كما عرفه المسلمون طوال قرون.
فالمثبت تاريخيًا أنه منذ القرن السادس الهجري كان في الحرم المكي أربع مقامات مذهبية، وأحيانًا أكثر. فكل مذهب من المذاهب السنة الأربعة كان له مقام وإمام، وأحيانًا كان يضاف مقام للزيدية. بل وكان من حق أي جماعة إقامة صلاتها، والصلاة الواحدة يؤذن لها وتقام أربع مرات.
كان الحرم المكي مفتوحًا دائمًا لكل طوائف وجماعات المسلمين، وهو مكان للقاء والاحتفاء بهذا التنوع. وليس كما الآن مكان يلتقي فيه ملايين المسلمين ليسمعوا إمام واحد يقرأ خطبة مكتوبة في ورقة على الكمبيوتر وموافق عليها من جهاز الرقابة التابع لحكومة، لها سلطة تحديد ما هو الحج وكيف يمكن للمسلمين تأديته.
فمع قيام المملكة، أبطل التنوع داخل الحرم المكي، وصارت الصلاة والإمامة واحدة، بحجة أن وجود المقامات وتعدد الصلوات بدعة. وكأن المسلمون وفقهاء السنة الأربعة عاشوا قرونًا يحجون خطأ حتى أتت جماعة إخوان من أطاعوا الله والدولة السعودية الثالثة لتنقذهم من الضلال وتقيم الإسلام والحج الصحيح.
لكن ها نحن نرى إسلامًا سنيًا جديدًا ينهض في السعودية، و"مزامير الشيطان" تعلو في أرجاء المملكة، ومحمد منير يغني مستحضرًا روح أندلس يوسف شاهين"علي صوتك بالغنا". فسبحان الله، فكل خطابات الهوية والخصوصية الدينية والقومية والبدعة والضلالة إذًا لم تكن إلا مناورة سياسية لترسيخ المُلك وتوريثه، ربما بقليل من الإفراط في التأويل لم تكن إلا نتاج حادثة المحمل عام 1926.