فقط ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والحاكم الفعلي لبلاده هو من كان يستطيع أن يجمع في قاعة واحدة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، رأس حربة الغرب في مواجهة روسيا، من ناحية، والرئيس السوري بشار الأسد، العائد للتو إلى جامعة الدول العربية بعد عزلة استمرت 12 سنة، مدينًا بذلك للدعم العسكري الروسي.
ولكن في ذلك التواجد المتناقض واللافت في القمة العربية الأخيرة رسالة أخرى تؤكد أن ابن سلمان جاد في رغبته ترسيخ موقع بلاده، ليس فقط كدولة نفطية شديدة الثراء قادرة بنفوذها المالي على إجبار أقوى منتقديها على الحذر، بما في ذلك الولايات المتحدة، ولكن كذلك كدولة إقليمية رائدة تتولى في المرحلة الحالية قيادة العالم العربي وتحديد بوصلته.
من الناحية العملية، عودة الرئيس السوري المنبوذ دوليًا لم تكن لتتحقق إلا بعد أن نال الضوء الأخضر من المملكة. فدول عربية عدة كانت تضغط دون نجاح في ذلك الاتجاه منذ سنوات، وعلى رأسها الإمارات ومصر والجزائر والعراق ولبنان.
ولكن عاد بشار الأسد ليرفع علامة النصر من جدة، فقط بعد أن أدرك محمد بن سلمان أن بلاده لا يمكن أن تتحول إلى لاعب إقليمي ودولي بارز في وقت يساهم فيه في تصاعد الاضطرابات في المنطقة عبر تصعيد التوتر مع إيران، وخوض حروب بالوكالة في اليمن وسوريا ولبنان والعراق. وتُرجم ذلك التحول عبر قراره المفاجئ بتوقيع اتفاق للتطبيع التدريجي مع طهران في مارس/آذار الماضي.
ولكي يزيد ابن سلمان من تأكيد أن بلاده أصبحت تتبنى مواقف مستقلة لخدمة مصالحها في عالم "متعدد الأقطاب"، كان الوسيط في ذلك الاتفاق غير مسبوق في تاريخ صراعات منطقة الشرق الأوسط: الصين، العدو اللدود والمنافس الأكثر خطورة من وجهة نظر الحليف التاريخي التقليدي للمملكة والضامن لأمنها وتدفق نفطها على مدى عدة عقود؛ الولايات المتحدة.
تحولات سعودية
صحيح أن علاقة ابن سلمان مع الإدارة الديمقراطية في واشنطن هي الأسوأ على الإطلاق بسبب الاتهام الصريح من الرئيس الأمريكي بايدن لولي العهد السعودي بالتورط المباشر في قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، مقابل اتهامات أمريكية مبطنة أن السعودية والإمارات تدخلوا في الانتخابات الأمريكية نهاية عام 2020 بتقديم دعم مالي سخي للمرشح الجمهوري المنافس، ترامب، وربما انتخابات 2024 المقبلة.
ولكن التحولات التي يقوم بها ولي العهد السعودي في الشهور الأخيرة تتجاوز الانتماء الحزبي للإدارة القائمة في أمريكا، وتمثل فصلًا جديدًا في العلاقات الخارجية التقليدية للمملكة، مع استمرار التمسك بالحفاظ على علاقة متميزة مع الولايات المتحدة ولكن على أسس أكثر توازنًا تتجاوز كونها الحليف التابع.
ليس من المتوقع إحراز تقدم سريع في العلاقات بين السعودية وإيران، بسبب الأبعاد المتعددة للخلاف العميق بينهما
ومن هذا المنظور، إذا كانت دعوة ابن سلمان للرئيس بشار الأسد للقمة العربية هدفها إرضاء إيران وروسيا، حليفا دمشق الرئيسيَّين، فإنه سعى أيضًا إلى إرضاء حليفه التاريخي، الولايات المتحدة التي أعلنت معارضتها للقرار العربي بالتطبيع مع النظام في دمشق، عبر استضافة الرئيس الأوكراني زيلينسكي، كضيف غير متوقع وسط حضور من الرؤساء العرب، أغلبه إما يشعر بتعاطف ما مع روسيا لأسباب تاريخية منذ حقبة الاتحاد السوفيتي، أو يرغب في تبني موقف محايد من صراع لا ناقة لنا فيه ولا جمل.
ويحتفظ ابن سلمان بعلاقة متنامية مع الرئيس الروسي بوتين، وتتهمه الولايات المتحدة بدعم موسكو بشكل غير مباشر بسبب رفض زيادة إنتاج المملكة من النفط لينخفض سعره وتضعف قدرات الروس على مواصلة الحرب في أوكرانيا.
ولكنه في الوقت نفسه قدَّم مساعدات لأوكرانيا بقيمة 400 مليون دولار. كما أنهى ابن سلمان سنوات من العداء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أعقاب أزمة مقتل خاشقجي، وعادت الاستثمارات السعودية للتدفق بمليارات الدولارات لدعم الاقتصاد التركي المأزوم.
وليس من المتوقع إحراز تقدم سريع في العلاقات بين السعودية وإيران، بسبب الأبعاد المتعددة للخلاف العميق بينهما، سواء لأسباب الصراع على زعامة الإقليم شديد الأهمية لثرائه بالنفط، أو الأبعاد الطائفية في إطار الصراع الأوسع بين المملكة، التي ترى نفسها قائدة العالم السني، وإيران، التي نصبت نفسها مدافعة عن حقوق الشيعة.
كما ليس من المتوقع أن التطبيع التدريجي للعلاقات بينهما سينعكس بشكل فوري على الحروب القائمة بالوكالة بين البلدين، وعلى رأسها سوريا. ومع ذلك، فالرسالة الأهم التي أراد ولي العهد السعودي تأكيدها هي أن السعودية ستكون بوابة تسوية الصراعات في المنطقة.
وهذا الأمر ينطبق على الحرب الدائرة في سوريا، والسعي لإنهاء الحرب الكارثية في اليمن، وكذلك انتخاب رئيس جديد للبنان، تمامًا كما ينطبق على الحرب التي تجاوزت الشهر في السودان، حيث تستضيف السعودية منذ أسبوعين مباحثات مباشرة بين الطرفين المتقاتلين، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد دقلو، الشهير بحميدتي، بالاشتراك مع الولايات المتحدة الأمريكية.
لم يكن من المعروف تاريخيًا أن السعودية لها مصالح مباشرة في السودان، أو دور في حل أزماته المتواصلة، ولكن "السعودية الجديدة" بقيادة ابن سلمان شاءت أن تؤكد دورها الجديد في المنطقة عبر تبني هذا الملف.
وأين مصر؟
رغم أن مصر هي الجارة الشمالية للسودان، وتربط البلدين علاقات تاريخية ومصالح استراتيجية عدة، وكانت الأكثر استقبالًا للاجئين الأشقاء من السودان منذ اندلاع الحرب هناك في 15 أبريل/نيسان، فإن القاهرة قبلت بالدور السعودي رغم بوادر تحفظات ظاهرة ومكتومة بين البلدين.
ذلك القبول يأتي ببساطة بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها مصر، والاحتياج العاجل لتجديد الودائع السعودية المودعة منذ سنوات في البنك المركزي، وكذلك الحاجة لضخ استثمارات سعودية جديدة عبر شراء شركات مطروحة للبيع لتوفير العملة الصعبة الضرورية لسداد الديون وفوائدها ولاستيراد مواد أساسية عديدة.
لم تكن مصر وحدها التي حرصت على حفظ الود مع المملكة رغم التحفظات على التحولات الجارية في سياستها الخارجية. أمير قطر، تميم بن حمد، تخلى بدروه عن تحفظه على عودة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الجامعة العربية في إطار سعيه لاستعادة الدفء في العلاقات مع ابن سلمان بعد سنوات القطيعة والحصار للدوحة.
المملكة تسلمت في المرحلة الحالية زعامة العالم العربي
ولكن الأمير الشاب اكتفى بحضور جزء صغير من الجلسة الافتتاحية والتقاط الصور مع محمد بن سلمان ثم سافر عائدا لبلاده دون إلقاء كلمة، وذلك كيلا يضطر للاستماع لكلمة بشار الأسد. ووصف الأمير القطري توقفه السريع في جدة بأنه "زيارة مودة" لشقيقه ولي العهد السعودي.
هذا التدفق في دعم ولي العهد السعودي لتسلم زعامة العالم العربي لم يكن له سوى استثناءات قليلة، أهمها غياب رئيس الإمارات محمد بن زايد عن القمة التي لم تستمر سوى لساعات قليلة. فابن زايد له طموحاته المعروفة في لعب دور محوري في المنطقة العربية، والتدخل بشكل مباشر في معظم مناطق الصراعات الساخنة، بما فيها سوريا واليمن، وليبيا، والسودان بجانب تقديم الدعم القوي للرئيس عبد الفتاح السيسي منذ توليه منصبه عام 2014.
وعزز غياب ابن زايد، بزعم ارتباطه المسبق بجولة أوروبية، من تقارير عدة أشارت إلى خلافات متنامية بين الرياض وأبو ظبي، رغم التحالف والتنسيق الذي كان قائمًا بينهما حتى وقت قريب. وكما غاب ابن زايد عن القمة العربية الأخيرة، كان ابن سلمان غائبًا بدوره عن قمة مصغرة دعا لها الرئيس الإماراتي مطلع العام في أبو ظبي وحضرها الرئيس عبد الفتاح السيسي وأمير قطر والعاهل الأردني.
وإذا كانت هذه التقارير صحيحة، فالموقف الرسمي المصري سيكون صعبًا، فالقاهرة تحتاج الدعم الإماراتي من الناحية الاقتصادية، تمامًا كما تحتاج السعودي.
وأخيرًا غاب عن القمة رئيس الدورة السابقة، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الذي لم ترتبط بلاده بعلاقات تاريخية ودية مع المملكة السعودية، المعروفة بأنها أكثر قربًا من الجارة المغرب بكل ما بين البلدين من خلافات عميقة على رأسها رفض الجزائر الإقرار بسيطرة الرباط على الصحراء الغربية ودعمها لجبهة البوليساريو التي تطالب باستقلال الإقليم.
كما أشارت تقارير جزائرية إلى امتعاض النظام الرسمي من عدم دعوة الجزائر كرئيس للقمة لحضور الاجتماعات العربية المصغرة التي مهدت الطريق أمام استعادة النظام السوري لعضوته المجمدة في جامعة الدول العربية.
ولكن هذه الغيابات المحدودة لم تؤثر على الصورة التي رغب ولي العهد السعودي في نقلها للعالم الخارجي، وهي أن المملكة تسلمت في المرحلة الحالية زعامة العالم العربي، وبغض النظر عن احتمال تحقيق تقدم سريع في كافة ملفات الصراع الساخنة التي قرر ابن سلمان تولي الدور القيادي لتسويتها.