تمثل الانعطافة في العلاقات المصرية-الإيرانية خطوة أبعد من مجرد كونها استجابة مباشرة وتلقائية لحالة التهدئة في الملفات الإقليمية، حتى إذا كانت تلك الملفات أحد العوامل التي ساهمت في إخفاق تطبيع العلاقات بين البلدين في السابق، ومنها علاقات مصر بالولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي، والارتباطات البراجماتية التي تقارب بين النظام الإيراني وحركتي حماس والجهاد وبعض قوى الإسلام السياسي، في نسختها السنية.
وعلى ضوء التقارب الأخير في أعقاب الاتفاق الثلاثي بين السعودية وإيران برعاية الصين، فإنّ الخلفية التاريخية لمحطات الخلاف والتوافق بين طهران والقاهرة، تكشف عن عدم وجود عداء صريح بين الطرفين، رغم التباين السياسي في مراحل منها حلف بغداد، أو مبدأ أيزنهاور في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، وكذا الحرب العراقية-الإيرانية، في ثمانينات القرن الماضي، بالإضافة إلى تحفظ القاهرة على تدخلات إيران في المنطقة.
إيران متفائلة
ثمّة تفاؤل إيراني بالانفتاح على مصر، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في صحف إيران، التي تتحدث عن قرب افتتاح السفارات بين البلدين، بما يخفف من العزلة الدبلوماسية لطهران، مع الأخذ في الاعتبار أنّ التفاؤل يرافقه لدى الصحف المقربة من التيار الأصولي بإيران نقاشات لافتة حول معوقات التقارب.
تسببت قضية سد النهضة في فجوة في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، فالأخيرة تمانع أيّ تقارب عربي ومصري مع إيران
عنّونت صحيفة كيهان، التي يعين رئيس تحريرها المرشد الإيراني، صفحتها الأولى "لا مشكلة في استئناف العلاقات مع مصر". بل وثمّنت دور عُمان التي تقوم بالوساطة مع القاهرة. وألمحت إلى أهمية تعزيز الوساطة لاشتراك عُمان مع إيران في الممر المائي الاستراتيجي لمضيق هرمز.
بيد أنّ وكالة أنباء فارس، المقربة من الحرس الثوري عرجت على معوقات التقارب مع مصر، واستنتجت بعض المعطيات التي تجعل ثمّة رهانات واقعية مغايرة لسياسة مرنة وبراجماتية، تتمثل في التحولات الجيوستراتيجية بعد الحرب الأوكرانية، وكذا الانسحاب المباغت لواشنطن من أفغانستان، الأمر الذي استدعى مراجعات سياسية جمّة بخصوص دور واشنطن في المنطقة. بالتالي، هناك ضرورة ملحة للانفتاح على حلفاء جدد.
وذكرت وكالة فارس أنه "مع أزمة سد النهضة، تحتاج مصر إلى تحالف مع الولايات المتحدة ومساعدة عسكرية، لكنّها اتخذت خطوات باتجاه تحسين العلاقات مع إيران، حتى وإن كان ذلك يتناقض مع المواقف الأمريكية في المنطقة. وهو أمر لا يبدو سهلًا، لا سيما مع تقارير من مصادر طلبت عدم الكشف عن أسمائها، مفادها أنّ ممثلين أمريكيين سافروا إلى مصر للضغط عليها من أجل عدم تحسين العلاقات مع طهران".
نقاط التقاء
تسببت قضية سد النهضة في حدوث فجوة في العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، فالأخيرة تمانع أيّ تقارب عربي ومصري مع إيران، حسبما توضح وكالة الأنباء الإيرانية، إذ قدمت إسرائيل دعمًا أمنيًا وعسكريًا وماليًا لا يمكن إنكاره لإثيوبيا. وعليه تحتاج مصر إلى حلفاء جدد أكثر من أيّ وقت مضى لدعم موقفها في أزمة السد.
وهنا، ترى طهران إلى جانب المتغيرات الإقليمية والدولية التي ستساهم في بناء علاقات متوازنة وممكنة مع مصر، وجود توافق في بعض القضايا الإقليمية. ففي الأزمة السورية، أكدت مصر على ضرورة الحفاظ على وحدة الجغرافيا السياسية، ورفض كل القوى الميليشياوية المدعومة من الخارج. وصوتت لصالح مشروع القرار الروسي بشأن سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2015.
كما في أزمة اليمن، لم تدعم مصر الحرب على خلفية الحاجة إلى الاستقرار والأمن في البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس.
وساطة عمانية
إذًا، جاءت زيارة سلطان عُمان هيثم بن طارق آل سعيد إلى إيران، في غضون أسبوع من لقائه الرئيس عبد الفتاح السيسي في القاهرة، ضمن الخطوات الإجرائية الساعية لاستئناف العلاقات المصرية-الإيرانية، بينما أكد المرشد الإيراني أنّ "هذه المفاوضات ينبغي متابعتها بجدية حتى الوصول إلى نتائج ملموسة. وفي نهاية المطاف يجب توسيع الاتصالات".
وذكر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لسلطان عُمان أن العلاقات بين بلاده ومصر ترجع إلى ما قبل الثورة الإيرانية، واستمرت في عهد الخميني، غير أنها تعرضت لتوترات، مؤكدًا أن هذه التوترات لم تصل في أي لحظة إلى "مواقف معادية".
تقارب حذر
من جهته، يرى الباحث المختص بالشأن الإيراني الدكتور محمود حمدي أبو القاسم، أنّ ربط الديناميات السياسية المصرية وعلاقاتها الخارجية بالعلاقات مع واشنطن أو الخليج هو "رؤية تبسيطية" قد تؤدي إلى مقاربات غير مكتملة، موضحًا للمنصة، أنّ "إيران الثورة كانت وما تزال أحد العوامل المؤثرة، على نحو مباشر، في موقف الإقليم والعالم منها، بل ومدى الاصطفاف أو الوقوف على النقيض من سياساتها".
يرجح الباحث في الشأن الإيراني أن تعمد مصر إلى "حل وسط" تختبر به مواقف إيران، وتحافظ فيه على علاقاتها مع الخليج والسعودية
ووفق أبو القاسم، فإنّ نهج إيران الثورى والأممّي بخلفيته الإسلامية المؤدلجة والمؤطرة بالبعد المذهبي "الولي الفقيه" تتجلى آثاره في دوائر الأمن القومي المصري، بما في ذلك دوائرها الأفريقية جنوبًا، حيث منابع المياه وأمن الحدود والممرات البحرية في البحر الأحمر، والعلاقة مع الجيران كالسودان، أو الدائرة الفلسطينية التي تلعب إيران دورًا بارزًا في ساحتها، لا سيّما على صعيد العلاقة مع فصائل المقاومة في قطاع غزة. هذا فضلًا عن دور إيران على الصعيد العربي.
وزاد من مخاوف مصر توسعات إيران ومشروعها الإقليمي في مرحلة ما بعد الربيع العربي، والتي خصمت من دورها الإقليمي ومكانتها، بحسب الباحث.
وأضاف أبو القاسم أنه "ربما ليس لدى مصر الهواجس المذهبية لدول الخليج، وذلك بحكم البعد الجغرافي، وطبيعة التركيبة المذهبية المتجانسة في مصر، ومركزية مصر والأزهر الشريف في إطار العالم السنّي. لكن الاعتبارات السابقة تجعل موقف مصر تجاه إيران مشوبا بمزيج من الترقب والحذر. فمصر قوة إقليمية مشرفة على منطقة غرب آسيا، التي يتمدد نفوذ إيران فيها بقوة".
ويرى أن الخروج من حالة القطيعة الراهنة إلى رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، بعد التحولات التي شهدتها المنطقة "بات مطروحًا بقوة"، لا سيّما من جانب إيران التي ترى فرصة لتجاوز الخلافات، وبخاصة مع تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، والإمارات، والبحرين وهم أهم شركاء مصر.
وفيما يخص المحاذير المحتملة تجاه هذا الانفتاح، يقول أبو القاسم إنّه "بينما تريد إيران استغلال الاتفاق مع السعودية كرافعة من أجل إحداث اختراق في علاقاتها مع مصر، فإنّ مصر ما تزال تترقب مدى التزام إيران بسياسة معتدلة. كما أنّ لديها حساباتها فيما يتعلق بعلاقاتها مع الولايات المتحدة ودول الخليج أكبر داعم للاقتصاد المصري المأزوم".
ويرجح الباحث أن تعمد مصر إلى "حل وسط" تختبر به مواقف إيران، وتحافظ فيه على علاقاتها مع الخليج والسعودية، وهو مسار مماثل لما كانت عليه الأمور في فترة حسني مبارك، بعودة العلاقات بواسطة قائم بالأعمال، وعدم رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى السفراء.
ويختتم أبو القاسم بقوله إن "دول الخليج لا ترغب في أن تذهب العلاقات بين إيران ومصر بعيدًا، حيث إنّ تطبيع العلاقات مع إيران خيار تكتيكي أكثر منه خيار استراتيجي، فعوامل المنافسة والصراع ما تزال قائمة، ربما تطلبت ظروف داخلية ودولية على الجانبين تسويّة الخلافات، لكن يتحسب الجميع للعوامل البنيوية والهيكلية الحاكمة للعلاقات، والتي تعزز الصراع أكثر مما تعزز التعاون".