للعام العاشر، قرر مجلس الوزراء تأجيل تحصيل ضريبة الأرباح الرأسمالية على الاستثمار في البورصة المصرية حتى العام المقبل. وكانت الحجة، كالمعتاد منذ صدور قانون هذه الضريبة المتعثرة في 2014، هي تجنب الخسائر الفادحة الناجمة عن قلق المستثمرين، إلى جانب تأخّر اللائحة التنفيذية للقانون. في بلدنا، حيث يمكن تمرير أعقد القوانين والتعديلات الدستورية في أزمنة قياسية، يبدو مستغربًا أن تعجز البيروقراطية العتيدة في وزارة المالية طوال عشر سنوات عن إنهاء لائحة تنفيذية لقانون.
ولكنَّ الحقيقة أنَّ حكومتنا التي تبدو كالأسد في مواجهة معارضيها، وتلاحقهم بقبضتها الأمنية، تُظهر للمستثمرين وأصحاب المال وجهًا حنونًا لا نعرفه، في انحياز واضح للأغنياء على حساب الغالبية الكاسحة من المصريين الكادحين، بما فيهم المنتمون للطبقة الوسطى الذين يعانون الزيادات المضطردة في الضرائب بأنواعها.
يقول معارضو تطبيق الضريبة على أرباح البورصة إنَّ أوضاع الاقتصاد لا تزال هشةً بعد سلسلة التخفيضات المتوالية لقيمة العملة المحلية، وذلك على الرغم من التدفقات المالية السخية على البلاد منذ مارس/آذار الماضي. كما يشيرون إلى أنَّ دول الجوار لا تفرض مثل هذه الضريبة، ما سيقلل من تنافسية سوق البورصة المصرية ويدفع بالمستثمرين إلى أسواق أخرى، تحديدًا الإمارات والسعودية.
وينسى أصحاب المصالح هنا أنه لا يمكن مقارنة السوق المصرية الواسعة بأسواق دول الخليج، حتى لو كانت أرباحها أكثر. كما أنَّ الضريبة المقترحة سيدفعها أساسًا المصريون المتعاملون في البورصة، وليس الأجانب الباحثون عن الاستثمار في الأوراق المالية المصرية.
وبالتالي فإنَّ الفشل في تطبيق تلك الضريبة يعني تمييزًا في تحميل أعباء تدهور الاقتصاد، عن طريق استثناء القادرين على الاستثمار في البورصة، مقابل استمرار معاناة الموظفين من أصحاب الدخل الثابت الذين لا يستطيعون الفكاك من الضرائب المقتطعة من دخلهم قبل استلامه.
مشاهدات من قلب الرأسمالية
عندما عَملتُ في الولايات المتحدة مراسلًا صحفيًا، تعرضت لمفاجآت عدة بحكم اختلاف الثقافة والقوانين، كان من ضمنها ما حدث عندما تلقيت البيان السنوي الختامي لحسابي البنكي، لأجد أنَّ البنك حصَّل ضريبة تقدر بنحو 5% على فائدة ضئيلة حصلت عليها من شهادة ادخار كنت أحتفظ بها لديهم.
استغربت من هذا الإجراء، لأن هذه الفوائد في مصر لا تخضع لأي ضريبة. فهي مقابل الاحتفاظ بأموالنا لدى البنك بدلًا من حفظها تحت البلاطة. بل إن الحكومة في مصر تعتبر أن تشجيع المواطنين على الإقبال على فتح الحسابات البنكية إنجاز بحد ذاته، يجب أن تقدم له الحوافز لتحجيم الاقتصاد غير الرسمي.
القضية هنا لا تتعلق بالسعي للانتقام من الأغنياء أو فرض ضرائب غير عادلة عليهم ولكن بتطبيق قواعد الرأسمالية
وعندما أبديت امتعاضي لموظف البنك الأمريكي من تحصيلهم ضريبةً على مبلغ الفائدة الذي لم يتعد عدة مئات من الدولارات، استغرب بدوره من مجرد توقعي أن أحصل على أرباح دون ضرائب. فالمنطق القائم في أعتى الرأسماليات أنَّ الأرباح هي أموال سهلة/easy money، جاءت بلا مخاطرة تقريبًا، بالتالي تستحق أن تفرض عليها الضرائب.
أرباح البورصة ليست أموالًا سهلةً، فالأسهم التي تصعد اليوم ستهبط غدًا، لكنَّ المنطق الرأسمالي يظل قائمًا، فلا أرباح دون ضرائب. أما إذا حققت المضاربة في البورصة خسائر، فهذه نتيجة طبيعية للمخاطرة برأس المال، ويبقى الأمل قائمًا في أن تستعيد البورصة عافيتها ويعود المستثمر لجني الأرباح.
وعلى عكس ما هو قائم في مصر، فإن النظام الاقتصادي في الولايات المتحدة لا يقوم على تشجيع الادخار بل العكس، من أجل إنعاش عجلة الاقتصاد وتحقيق الأرباح للشركات والمستثمرين. ولذلك فإن الاستثناء هو رفع قيمة الفائدة، ما يعد مؤشرًا سلبيًا يدل على ارتفاع نسبة التضخم، فيما الأصل أن تبقى قيمة الفائدة منخفضة ليتمكن المواطنون من الإنفاق على أوجه أخرى، تحديدًا شراء المنازل أو السيارات أو السلع المعمرة.
أوجه الإنفاق هذه لن تكون متاحةً لو كانت معدلات الفائدة مرتفعة في بلد يعتمد معظم المستهلكين فيه على بطاقات الائتمان والقروض البنكية. وبجانب الملايين من المواطنين، فإن الشركات لن تحصل على قروض أو تستثمر في مشاريع جديدة لو كانت نسبة الفائدة مرتفعة.
وبالمنطق البسيط، ما مبرر اتخاذ أي مخاطرة واستثمار الأموال في أي مشروع، بما في ذلك التداول في البورصة، لو كانت البنوك ستدر عليك دخلًا ثابتًا من فوائد الشهادات والأوعية الادخارية المختلفة من دون دفع أي ضرائب من أي نوع؟
على مدى سنوات طويلة، استقرت نسبة الفائدة على الدولار الأمريكي عند معدل صفر تقريبًا، ولم يلجأ الاحتياطي المركزي الأمريكي إلى الزيادة التدريجية في معدلات الفائدة حتى بلغت مستواها الحالي عند نحو 5% إلا بعد جائحة كورونا واندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.
وتعتبر قدرة الاحتياطي المركزي الأمريكي على تخفيض نسبة الفائدة بمثابة دليل على استعادة صحة الاقتصاد وتحفيز المستثمرين والمدخرين على إخراج أموالهم من البنوك والعودة للاستثمار في البورصات والأوعية الادخارية الأخرى.
لذلك، يتطلع المستثمرون بكل قوة إلى بدء الخفض التدريجي لمعدلات الفائدة في الولايات المتحدة ويعتبرون أن ذلك سيكون من دلائل انتعاش الاقتصاد. أما في مصر، فنعتبر أن تخفيض نسبة الفائدة على المدخرات في البنوك أو التفكير في فرض ضريبة على أرباح الشهادات، مهما كانت صغيرة، وكذلك تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على المتعاملين في البورصة، بمثابة الكارثة لملايين المدخرين الذين تآكلت قيمة أموالهم مع التخفيض المتواصل للعملة المحلية.
القضية هنا لا تتعلق بالسعي للانتقام من الأغنياء أو فرض ضرائب غير عادلة عليهم، لكن بتطبيق قواعد الرأسمالية نفسها التي تقضي بألَّا أرباح دون ضرائب، إلى جانب العدالة في توزيع أعباء تحمل الأزمة الاقتصادية التي يبدو أننا سنعيش في ظلها لسنوات، في ضوء التصاعد المفزع في حجم الديون الخارجية، ولكن حكومتنا وحتى الآن مستمرة في سياسة دغدغة الأغنياء والقسوة على الفقراء.