لم ينزل اللبنانيون إلى الشارع باندفاع وعفوية للاحتجاج على تقصير الطبقة الحاكمة في مسؤولياتها منذ سنة 2015. حينها؛ نزل المواطنون في مختلف المناطق اللبنانية بتظاهرات واعتصامات وسط أزمة تراكم نفايات عجزت الحكومة عن تلافيها وحلّها.
كالعادة، استغلّت بعض الأحزاب السياسية التقليدية تلك التظاهرات فتبنّاها البعض ضد خصومهم في الحكم وتنصّل منها مَن كانوا في الحكم وحاولوا تشويهها من خلال تجريدها من هويتها الاحتجاجية الشعبية الجامعة، واتهام المحتجّين بشتّى أنواع الاتهامات.
لكن، وبعيدًا عن السياسة وخنادقها، كانت أقدام المواطنين تطأ الشارع بعد غياب طويل والعيون تتلاقى مجددًا مذهولة بالاندفاع والحماس وحجم الغضب الموحّد عند كل الناس تجاه المسؤولين "كلّهم".
عاد الناس إلى همومهم الحياتية اليومية بعد إيجاد حلّ مؤقت للنفايات. غرقنا في مشاكلنا "الصغيرة" الثقيلة وكانت المصاعب المعيشية تزداد سنة بعد سنة ترافق معها تصعيد في اللهجة الرسمية تجاه المواطنين. لهجة عدائية ضد المطالبين بأبسط حقوقهم وعنصرية ضد اللاجئين السوريين وفوقية ضد كلّ من ساهم النظام بإفقارهم وطحنهم.
بلغ الخطاب السياسي اللبناني وقاحة لم نشهدها سابقًا، ولا حتى في عزّ الحرب الأهلية خلال حكم الميليشيات، ووصل أداء المسؤولين حدًّا مستفزًا من التهرّب من واجباتهم وهتك حقوق المواطنين.
يُكشَف عن مجموعة أطبّاء وصيادلة يبيعون أدوية سرطان فاسدة للمرضى؛ لكن لا يُطالون إذ هم محسوبون على جهة سياسية نافذة. تغرق طرقات لبنان والمنازل بفيضانات مياه الأمطار؛ فيجاهر الوزير والمسؤولون عن إدارة الأزمات والإغاثة بتقصيرهم في الحدّ من الخسائر ولا يحاسَبون. يكشف صحفي عن قضية فساد ضخمة في أحد المرافق العامة؛ يُساءَل الصحفي قضائيًا لا المتورطون في الرشاوى والفساد. تصل نسبة البطالة حدًّا مرعبًا؛ فيلوم المسؤولون تدفق اللاجئين السوريين ولا يطرحون أي خطط بديلة.
تنشر الصحف مبالغ ثروات النواب والوزراء وفضائح مخصصاتهمم المالية الضخمة وقضايا نهب الأموال العامة؛ فلا يحرّك القضاء ساكنًا. قضاء محكوم بالتبعية السياسية وقوانين أحوال شخصية تخضع لمحاكم روحية دينية تكبّل المواطنين في مختلف أمورهم "المدنية" الشخصية.
سموم في الأكل ولحوم فاسدة وتلاعب بأسعار الدواء وبتواريخ صلاحيتها، مياه مجارير في الأنهر، بلطجة أمنية عند كلّ فرصة سانحة للاستقواء على غير المدعومين سياسيًا وتقصير قضائي فادح.
ثم، بعد الوقاحة في الخطاب والأداء السياسي؛ جاء القمع.
خلال العامين الماضيين، في ظلّ حكم ميشال عون كرئيس للجمهورية، وهو قائد سابق للجيش ومشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، استُدعي عدد من المواطنين للتحقيق لمجرّد كتابة بوست على فيسبوك أو نشر تغريدة تنتقد أحد المسؤولين أو تعبّر عن حالة غضب ما، في ظل فشل نيابي وحكومي مستمر بتحقيق كل الوعود التي انتُخبوا على أساسها.
ضاق كلّ شيء حولنا كثيرًا وتردّت كل أوضاعنا بشكل متسارع: فُرضت سياسات تقشّف بسبب أزمة مالية يرزح تحتها اقتصاد مترنّح مديون كان يهرب على مدى سنوات عديدة من تسديد دينه العام (وصل إلى 74.5 مليار دولار، ما يوازي 151% من إجمالي الناتج المحلي بنهاية 2018، بحسب تقدير البنك الدولي)، يهرب من السداد عبر الاستدانة من المصارف وأصحاب الأموال.
ماذا فعلت "الدولة" اللبنانية لاستدراك الانحدار الاقتصادي الكارثي هذا؟ فرضت المزيد من الضرائب على المواطنين واقتطعت من مستحقات الموظفين ورواتبهم وتركت الساحة مفتوحة أمام التجار والمصارف للتلاعب بأسعار صرف الليرة وبأسعار السلع حتى الأساسية منها.
ولتكتمل التراجيديا "الفينيقية" هبّت رياح حارقة على لبنان قبل أسبوع وقضت النيران على مساحات حرجية خضراء واسعة، وسط فضيحة عجز السلطات المعنية عن احتواء الكارثة وتقاعس رهيب عن الاستعداد لها مسبقًا، كان الأمر ممكنًا إن حذّرت الأرصاد الجوية مبكرًا. كالعادة، مرّت الكارثة وسقط قتيل فيها ولم يحاسَب أي من المسؤولين عن تعريض حياة المواطنين للموت وعن مسؤولية فقدان مساحات شجرية ضخمة.
ماذا أيضًا؟ بعد النيران والرماد، جاء موعد انعقاد جلسة جديدة لمجلس الوزراء تقرر فيها اتخاذ إجراءات تقشفية جديدة بفرض رسوم على مكالمات الواتساب ووضع رسم إضافي على السجائر وزيادة الضرائب على الكماليات والبحث في إمكانية فرض رسوم جديدة على المشتقات النفطية ورفع الضريبة على القيمة المضافة.
لم تكن الجلسات الوزارية قد اختُتمت بعد، لكن الناس ملأت الشوارع من دون الحاجة حتى للاطلاع على بيان الحكومة النهائي. الكلّ بات على يقين بأن أي إجراء ستتخذه الحكومة لن يكون لصالح المواطنين بل سيتحمّلون هم وحدهم أعباء تسديد فواتير الدين العام وسدّ العجز في ميزانية الدولة وتمويل الإنفاق الحكومي وتسديد رواتب من يقومون بنهبهم يوميًا.
لم ينتظر أحدٌ هذه المرّة دعوة من حزبه أو تياره السياسي للتحرّك، ولم يتداعوا حتى على مواقع التواصل الإلكتروني، خرجوا من منازلهم مدفوعين بغضب عارم وحقد مُراكَم على كامل الطبقة السياسية الحاكمة. تظاهرة مركزية في وسط العاصمة بيروت تبعتها تظاهرات في المناطق، في بلدات الشمال والجنوب والبقاع. الصرخات تلقائية واحدة "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"يسقط يسقط حكم الأزعر".
أسقط الغضب العارم العفوي كلّ الصبغات الطائفية التي كانت تسمم تحرّكات المواطنين اللبنانيين معظم الأحيان. نزل المتحزّبون وغير المتحزّبين، هامش الأعمار واسع، مراهقين وشباب وكبار في السنّ، كلّ الفئات معنيّة وكل المناطق مشارِكة، والمشاركون صبّوا غضبهم على من أهملهم واغتصب حقوقهم لعقود من الزمن. لم يسلم أي رمز سياسي من دعوات الإسقاط واللعنات، لم يوفّر المحتجون أحدًا هذه المرّة إلا ورددوا له هتافًا يعرّيه وشعارًا مُذلّاً سيلتصق به حتى آخر يوم في حياته.
المطالب: إسقاط الحكومة، والتخلص من النظام الطائفي، وإزالة سلطة المصارف عن النظام الاقتصادي، وتفعيل القطاعات الاقتصادية الأساسية كالزراعة والصناعة، ومحاسبة الفاسدين، ومحاكمة المسؤولين عن هدر المال العام، وإلغاء الضرائب المفروضة على الفقراء وفرضها على أصحاب الدخل المرتفع، وتحصيل الدولة حقوقها من المعتدين على الأملاك العامة والمستفيدين من المنظومة الفاسدة التي تنخر إداراتها، ومحاكمات عادلة للموقوفين في السجون، وصولًا إلى رغبة أحد المحتجين الذي كان يصرخ كل 5 دقائق في إحدى تظاهرات بيروت "بدي إتجوّز".
قد تبدو مروحة المطالب واسعة جدًا وأحيانًا سوريالية لكن الأوضاع كانت قد وصلت أصلًا، إلى مكان لا ينفع فيه إلا تدمير الهيكل بكامله والبدء ببناء كل شيء من الصفر.
تراجعت الحكومة عن ضريبة الواتساب في اليوم الأول للتظاهرات، لكن الناس بقوا في الساحات. خرج وزير الخارجية جبران باسيل وهو رئيس تيار شعبي واسع وصاحب الأغلبية الحاكم وأغلبية الشتائم في التظاهرات أيضًا، حاول الانضمام إلى الثورة بوعود وخطاب باهت لكن الناس رفضت كل كلمة قالها.
وجّه رئيس الحكومة سعد الحريري كلمة للشعب، لكن الشعب رفع له الإصبع. أمين حزب الله حسن نصر الله أعلن عدم المشاركة في التحرّك الشعبي فضمّه المتظاهرون إلى لائحة المغضوب عليهم. أعلن رئيس حزب يميني لبناني استقالة وزرائه من الحكومة، لكن المتظاهرين أداروا له ظهورهم. حاول أحد النواب السابقين الانضمام إلى المتظاهرين في طرابلس، شمال لبنان، لكنه طُرد منها.
واجه المتظاهرون العزّل خلال اليومين الماضيين في بيروت وطرابلس شمالًا، وصور جنوبًا قمع قوات الأمن التابعة للدولة ورصاص البلطجية التابعين للأحزاب الميليشياوية المسيطرة، خصوصًا ميليشيا حركة أمل في جنوب لبنان.
ولليوم الرابع، الساحات لم تتعب بعد، والغضب لم يهدأ، والهتاف الواحد المتصاعد يصرّ: ثورة.. ثورة.. ثورة.