"رماح"، فتى في الحادية عشرة يعمل ما يقرب من 8 ساعات في الزراعة بقرية العرين قبلي، محافظة المنيا، تحسبه حين تراه في السابعة من عمره لضآلة حجمه، ربما سوء التغذية مع العمل الشاق السبب.
هجر رماح المدرسة في الصف الثاني الابتدائي، في الوقت الذي كان من المفترض أن تنحفر الحروف في عقله الصغير ، لذا لم يتعلم القراءة ولا الكتابة. أجبرته الحياة والظروف الاقتصادية على ترك القلم ليمسك الفأس، تلك التي سقطت على قدمه اليسرى لتفقده إصبعين.
يقول رماح لـ المنصة "أمي قالتلي وأنا 6 سنين أنت بقيت راجل مش المفروض أبوك يصرف عليك تاني أنت مش عيل، روح اشتغل بدل اللعب الفاضي والعلام"، في اليوم التالي اصطحبه والده ليساعده في الزراعة ورعي الماشية.
لكنّ جميلة، الفتاة التي تبلغ من العمر 13 سنة، لم تستسلم أمام الظروف نفسها، تحايلت عليها بقوة إرادتها، وواجهت رفض عائلتها استكمال تعليمها، بحجة الزواج مرة وتكلفة التعليم مرة أخرى.
تعمل جميلة، التي وصلت للصف السادس الابتدائي، في الإجازة لتأمين مصاريف مدرستها. 10 ساعات تقضيها في العمل بالحقول بزيادة ساعتين عن أقرانها، لتعوض الوقت الذي تقضيه في المدرسة.
تقول جميلة لـ المنصة "لما قلت لابويا إني عايزه أفضل في المدرسة، قالي إني وإخواتي كتير عليه، هيعلم مين ولا مين فينا، حتى لما خلص من حمل إخواتي الكبار اللي بيشتغلوا باليومية في الأرض، مارضيش يدفعلي عشان أكمل في المدرسة".
رغم صغر سنها، مثلت فكرة زواجها المنتظر عقبة دائمة في طريق تعليمها "أمي كانت بتقول كلها سنتين تلاته وتتجوزي ويكون ليكي بيت وعيال وماتعرفيش تركزي مع التعليم، ومصيرك في الآخر تسيبيه من التعب، فسيبيه من دلوقتي"، تقول جميلة.
لم يكن أمامها سوى البحث عن عمل لتدبير مصاريف تعليمها، ثم "اتحايلت عليهم بحجة إني لسه صغيرة على الجواز ، وإني همشي شوية في الدراسة وهتجوز بعدها، بس على الأقل أعرف أقرا وأكتب".
خارج الفصول
كانت وزارة التربية والتعليم أصدرت قرارًا الخميس 11 يناير/كانون الثاني الماضي، بتشكيل فرق لمعالجة التسرب من التعليم بكافة المديريات التعليمية، تتكون من أخصائي اجتماعي وآخر نفسي ومسؤول من شؤون الطلبة ومسؤول من المشاركة المجتمعية ومسؤول من النظم والمعلومات، ويعمل الفريق بكل إدارة تحت إشراف وكيلها.
وحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، بلغت أعداد المتسربين من التعليم بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية على مستوى الجمهورية 150 ألف طالب خلال عام 2020/2021 منهم 28 ألفًا بالمرحلة الابتدائية، و121 ألفًا خلال المرحلة الإعدادية، رغم انخفاض أعداد المتسربين في دول الشرق الأوسط.
الفتيان الأعلى تسربًا من التعليم في المرحلة الابتدائية بينما الفتيات الأعلى في الإعدادية
وهو ما دفع بالحكومة إلى محاولة إدخال تعديلات على قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981، بحيث توقع غرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تزيد عن 1000 جنيه على ولي الأمر، غير أن البرلمان رفض المشروع باعتباره يلقي المزيد من الالتزامات المادية على عاتق الأهالي.
لكن عبد الحكيم محمد وكيل إدارة ملوي التعليمية بمحافظة المنيا يعتبر أن "القوانين المحلية والمواثيق المصدق عليها ما هي إلا وهم، لا يتم العمل به إلا قليلًا"، متذكرًا محاولته عمل محضر لولي أمر بسبب انقطاع ابنه عن الدراسة ليكتشف أن الغرامة تبلغ قيمتها 11 جنيهًا.
يفسر عبد الحكيم لـ المنصة الدافع وراء ترك الأطفال للمدارس بقوله "التعليم معناه باب رزق واتقفل، وباب الرزق ده هو الطفل اللي بيشتغل وبيعمل دخل". ويضيف "العيال بتشتغل حتى اللي بيروحوا المدرسة. مفيش طريقة تانية. وعشان كده مثلًا في قرية بني سعيد مش هتلاقي تلاميذ في الفصول في شهر 3 تحديدًا عشان ده موسم حصاد التوم، والعيل بياخد 30 جنيه يومية".
وهو ما تؤكده الأرقام، فالفتيان هم الأعلى تسربًا من التعليم في المرحلة الابتدائية، بينما الفتيات الأعلى تسربًا في الإعدادية، وهو ما يعكس مدى قسوة الظروف الاقتصادية، إذ تلجأ الأسر لتشغيل الأبناء تحت ضغط الحاجة، فيتحول هؤلاء الأطفال إلى مصدر دخل، أما بخصوص زيادة تسرب الفتيات في المرحلة الإعدادية فيعكس لجوء الكثير من الأسر الفقيرة إلى تزويج الفتيات مبكرًا للتخلص من أعبائها الاقتصادية.
قرارات غير صارمة
يرى إمام زكي مدير التعليم الإعدادي بإدارة ملوى التعليمية، في المنيا، أن قرارات وزارة التعليم الأخيرة غير مجدية، يقول لـ المنصة متسائلًا "ما الفائدة من تشكيل لجنة أخرى خارج المدارس وغير متصلة بأرض الواقع، تنحصر كل مهمتها في عمل تقارير من المدارس، لتظل هذه الحلول مجرد حبر على ورق؟".
المشكلة ليست في القوانين بل في تطبيقها بشكل يضمن فاعليتها
ويتفق دكتور مجدي حمزة الخبير التعليمي والتربوي مع الرؤية نفسها "الحل هنا مش إني أعمل قرارات ولجان، كل الوزراء عملوا دا قبل كده فين الاختلاف؟"، يقول لـ المنصة.
الحل في المدرسة
يقترح إمام زكي أن يتولى المهمة الأخصائيون الموجودون في المدارس لتوعية الأهالي، يقول "التواصل الفردي هيكون أكثر فاعلية لأن كل حالة لها ظروفها لإقناعهم باستمرار أولادهم في المدارس". ويضيف "ثم تفعيل القوانين مش تغييرها، احنا عندنا قوانين شاملة وكافية ولكن المشكلة في تفعيلها والمراقبة على تطبيقها، وبالتالي لو الفرق دي شغلتها الشاغلة التأكد من تطبيق القوانين هيكون أفيد".
ويطرح زكي "الحل الواقعي هنا يكون على مستويين، الأول في التواصل مع إدارة المدرسة وإعدادها وتوعيتها بالمشاكل الموجودة، والثاني توعية أولياء الأمور من خلال المدارس ويكون بالاحتكاك على أرض الواقع".
وهو ما يؤكده الدكتور مجدي حمزة "التقارير المقدمة غير واقعية لأنها تقوم على أوراق، وليس لها تأثير لحل المشكلة، وحتى الاعتماد على المنظمات الميدانية في حل هذه المشاكل، أغلبهم بيهتموا يلموا تبرعات، وبعدها بلح"، يقصد لا أثر.
يظل حال جميلة كما هو؛ تعمل في الإجازات لجني بعض الجنيهات لتحقق حلمها في أن تصبح محامية "أنا عارفة إن الوظيفة دي بترجع حق الناس، أنا كمان عايزه أرجع حق الناس، أبويا وأمي بيقولوا إني واهمة وعيّلة، بس أنا كبيرة وباخد بالي من دروسي ومدرستي وشغلي في الأرض، حتى لو بتعب فيه وبكون عايزه أروح ألعب آخر الليل ولا الصبح حتى ومش بعرف".
أما رماح فيعرف أنه سيكبر ليصبح مثل أبيه،"أنا معرفش المفروض أكون إيه غير كدا". تخلى رماح عن التعليم والمدارس والطفولة، فهل تساعده لجان الوزارة في العودة إليها يومًا ما؟