هل مشروعات البنية الأساسية السبب في أزمة الديون؟
قبل أيام أعلنت شركة أوراسكوم للإنشاءات عن فوز التحالف الذي تقوده بعقد إنشاء مترو جديد للإسكندرية، وهو مشروع طموح يهدف لإدخال هذا النمط من النقل العام؛ بديلًا عن السيارات وأشكال النقل الأخرى التي تتسبب في حرق الوقود الملوث للبيئة.
لكن هذا النمط من المشروعات يتطلب تمويلًا بالنقد الأجنبي، ولذلك تدخلت جهات مثل الوكالة الفرنسية، بتقديم قرض بربع مليار يورو لتغطية تكاليف المترو الجديد، ما يمثل عبئًا جديد على دولة تعاني نقصًا في النقد الأجنبي لدرجة أثرت سلبًا في قدرة القطاع الخاص على النمو.
هل تساهم مشروعات البنية الأساسية فعلًا في تضخم الدين الخارجي، إلى الدرجة التي قادت البلاد لأزمة ضعف إتاحة النقد الأجنبي، والتي تلقي بثقلها على الاقتصاد بأكلمه؟
نسعى لتتبع قروض البنية الأساسية خلال العقد الأخير، ورصد أبرز الجهات التي قدمت التمويلات، وإلى أي مدى ساهمت في مفاقمة الدين الخارجي لمصر.
قروض مؤسسات التنمية
لا يضع البنك المركزي تصنيفًا للقروض الخارجية بحسب المجال الذي ستنفق عليه هذه الأموال، لكنه يعرض بيانات الديون بناء على طبيعة الجهة المقرضة، وتُعد المؤسسات متعددة الجنسية من أبرز الجهات التي تقدم الديون لمصر.
تشمل المؤسسات المتعددة الجنسية التي تقدم تمويلًا لمصر جهات مثل؛ البنك الدولي، أو بنك الاستثمار الأوروبي أو صندوق النقد العربي، وهي جهات تستهدف بالأساس تقديم تمويلات ميسرة للبلدان النامية للإنفاق على أوجه التنمية، ومن أبرزها تمويل مشروعات البنية الأساسية.
شهدت السنوات بين 2017 - 2020 طفرة في نمو قروض المؤسسات متعددة الجنسيات، مدفوعة بالعديد من مشروعات البنية الأساسية التي تبناها هؤلاء المانحين.
إذا نظرنا لقائمة مشروعات بنك الاستثمار الأوروبي على سبيل المثال، وهو ثالث أكبر مقرض من المؤسسات متعددة الجنسية، تمثل مشروعات النقل والطاقة النمط المهيمن على التمويل الوارد منه، ولا تزاحمه سوى برامج تمويل المشروعات الصغيرة.
كذلك يتحدث البنك الأوروبي لإعادة الإعمار عن أن النصيب الأكبر من تمويلاته في مصر يذهب للبنية الأساسية، يأتي بعدها ما يتم تقديمه للمؤسسات المالية في مصر، ثم تمويل أنشطة الصناعة والزراعة والتجارة.
وفي المجمل تمثل قروض المؤسسات متعددة الجنسيات أكثر من ثلث الدين الخارجي لمصر، وهو أكبر نصيب ضمن قطاعات الدائنين.
هذا بجانب قروض البنية الأساسية التي تأتي لنا من مؤسسات تمويل تتبع لجنسية بلد واحد، والمثال الأبرز على ذلك هو الصين، التي قدمت بنوكًا تابعة لها تمويلات لإنشاءات عقارية وفي مجال النقل بمصر، وهي أكبر بلد يمنح قروضًا خارجية لمصر في الوقت الراهن، مقارنة بترتيبها رقم 8 في قائمة الدول المقرضة لمصر عام 2014.
ما أسباب التوسع في تمويل البنية الأساسية؟
خلال السنوات الذهبية لنمو تمويلات المؤسسات متعددة الجنسيات، كانت هناك عوامل عدة تؤهل مصر لاستقبال قروض أكبر من البنية الأساسية.
من أبرزها أن مصر تعد من أكبر العملاء لبعض هذه المؤسسات، وبالتالي فهناك فرص كبيرة للتوسع في التمويل مع طرح الدولة لحزم متنوعة من مشروعات البنية التحتية، على سبيل المثال تعد مصر ثاني أكبر عميل للبنك الأوروبي لإعادة الإعمار، وثاني أكبر عميل لبنك الاستثمار الأوروبي، خارج الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، استطاعت جهات مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار أن تنمي محفظتها بسرعة كبيرة في مصر، من 151 مليون يورو في 2013، إلى 1.3 مليار يورو.
نمنحكم القروض لصالح شركاتنا
وعلى مستوى الدول المنفردة، كان هناك دافع للبنوك المانحة لمشروعات البنية الأساسية، وهو تشغيل شركات كل دولة في هذه المشروعات.
بدت هذه العلاقة واضحة في حالة التمويل الصيني، مثل تمويل بنوك صينية لمشروعات إنشاء أبراج في العاصمة الجديدة، تنفذها شركات صينية أيضًا، أو تمويل بنك الصادرات والواردت الصيني لمشروع قطار يربط العاشر من رمضان بالعاصمة الجديدة وتنفذه شركة صينية، أو الاتفاق المبدئي على تمويل بنك صيني لمشروع محطة عتاقة للطاقة والذي ستنفذه شركة صينية أيضًا.
لا يقتصر الأمر على الصين، فقد مولت بنوك ألمانية مثل دويتش بنك مشروعات في قطاع الطاقة تنفذها سيمنس الألمانية، ودعمت بريطانيا اتفاق القرض الممول لمشروع المونوريل مع استيراد القطار من نفس البلد، وتتوسع فرنسا في تمويل مشروعات النقل التي كثيرًا ما تفز بفرص تنفيذها شركات فرنسية.
الخط الثالث لمترو الأنفاق أحد أبرز الأمثلة على ذلك، الذي ساهمت الوكالة الفرنسية للتنمية في تمويل توسعاته، وشاركت فينسي وبويج الفرنسيتين في أعمال إنشاء أكثر من مرحلة منه.
نماذج تمويل فرنسي لمشروعات تشارك في تنفيذها
الجهات الفرنسية المساهمة في التنفيذ | الجهات الفرنسية المساهمة في التمويل | اسم المشروع |
---|---|---|
ألستوم الفرنسية | الحكومة الفرنسية | استيراد 55 عربة قطار مكيفة |
كولاس ريل التابعة لبويج الفرنسية | الوكالة الفرنسية للتنمية | مشروع مترو الإسكندرية أبوقير |
سيسترا الفرنسية (عقد تصميم وإشراف) | الوكالة الفرنسية للتنمية | إعادة تأهيل ترام الرمل |
المصدر: تشريعات مصرية وإفصاح الشركات
انخفاض أسعار الفائدة
لا تتاح تفاصيل كل عقود التمويل، لكن بعضًا من المنشور منها يشير إلى انخفاض الفائدة في الفترة التي شهدت النمو القوي لقروض البنية الأساسية.
على سبيل المثال تذكر القوانين الصادرة باتفاقيات قروض كل من بنك الاستثمار الأوروبي، والوكالة الفرنسية للتنمية أن هذه التمويلات يتم تسعير الفائدة عليها بناء على سعر اليوريبور، والذي يعبّر عن سعر العائد الذي تتعامل به البنوك الأوروبية فيما بينها، والذي شهد انخفاضًا قويًا خلال الفترة بين 2014- 2022، قبل أن يرتفع بقوة متأثرًا بارتفاع الفائدة الأمريكية في هذا العام.
مشروعات مثيرة للجدل
العديد من مشروعات البنية الأساسية التي أُطلقت خلال السنوات الأخيرة، كانت بهدف إنشاء شبكة جديدة للنقل أكثر رفاهية من الشبكة الموجودة حاليًا، وعلى الأرجح لن تكون أسعارها في متناول الشرائح الدنيا من الدخل، وقد أثارت هذه المشروعات جدلًا مجتمعيًا حول ضرورة التوسع فيها، وما تساهم فيه من ضغط على الدين الخارجي.
ولم يقتصر دعم هذه المشروعات على البنوك التجارية، ولكن بعض المؤسسات قدمت المنح تحت اسم دعم التنمية في مصر.
على سبيل المثال ساهم بنك جي بي مورجان، وهو مؤسسة تجارية، في تمويل مشروع المونوريل، وفي نفس الوقت ساهم البنك الإسلامي للتنمية في تمويل القطار الكهربائي فائق السرعة، الذي يربط العين السخنة بالساحل الشمالي، بدعوى أنه يساهم في توفير وسيلة نقل مستدامة.
احتياجات تنموية لا خلاف عليها
لا يمكننا اعتبار أن كل تمويلات البنية الأساسية تذهب لمشروعات تستهدف خدمات أكثر رفاهية، بل إن العديد منها تتعلق بخدمات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، مثل مياه الشرب والصرف في مناطق غير حضرية أو تعزيز الطاقة الكهربية داخل وخارج العاصمة.
يتضح هذا النمط من القائمة التالية لبعض المشروعات الكبرى للصندوق العربية للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، أحد أكبر المقرضين لمصر.
قائمة ببعض مشروعات البنية الأساسية التي يمولها الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي
اسم المشروع | سنة القرض |
---|---|
محطة غرب القاهرة للطاقة الكهربائية | 2014 |
تحويل محطة السادس من أكتوبر للكهرباء إلى نظام الدورة المركبة | 2015 |
الصرف الصحي للمناطق المجاورة لمصرف الرهاوي | 2015 |
محطة دمنهور للطاقة بنظام الدورة المركبة | 2015 |
مياه الشرب وتنمية النظام الزراعي في سيناء | 2016 |
تطوير شبكة توزيع الكهرباء (المرحلة الأولى) | 2017 |
تطوير شبكة توزيع الكهرباء (المرحلة الثانية) | 2018 |
إنشاء نظام مياه في مصرف بحر البقر | 2019 |
المصدر: التقرير السنوي للصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لعام 2022
يعكس احتياجنا الدائم لهذه القروض الخارجية مشكلة هيكلية تتعلق بضعف الإيرادات الدولارية في مقابل احتياجاتنا التنموية، بجانب ضعف تكنولوجيا التصنيع التي قد تجعلنا في حاجة لقروض بالعملة الصعبة من أجل استيراد مكونات بعض المرافق.
الانتقال لمرحلة القروض الاستهلاكية
بدأت أزمة الديون الخارجية لمصر في التفاقم منذ عام 2022، مع اتجاه الولايات المتحدة لرفع أسعار الفائدة لديها بشكل متسارع ما زاد من تكلفة الديون العالمية، مع صدمة تضخمية في أسعار السلع بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
وسبق هذه الأزمة أيضًا ضغوط "كورونا"، لذا بناء على هذه التراكمات كانت الدولة المصرية تتوسع في اللجوء لأنماط من القروض الدولية التي تستهدف بالأساس سد الحاجة الاستهلاكية للبلاد.
بغض النظر عن الاختلاف حول ديون البنية الأساسية ودورها في مفاقمة الدين الخارجي، لكن على الأقل لها أثر تنموي في المدى الطويل، في المقابل فإن الديون الاستهلاكية هي التزامات طويلة لمعالجة مشكلات مؤقتة.
يتضح التحول نحو الديون الاستهلاكية في تغير ترتيب أكبر المانحين لمصر من المؤسسات متعددة الجنسيات، بحيث أصبح صندوق النقد على رأس تلك القائمة، بسبب القروض التي تهدف لسد حاجة عاجلة في احتياجات ميزان المدفوعات.
كذلك لجأت مصر في هذه الفترة إلى مضاعفة قروضها من البنك الإسلامي للتنمية، من 3 إلى 6 مليارات دولار بهدف تيسير استيراد القمح، وهو نمط مشابه للقروض التي يمولها البنك الإفريقي للاستيراد والتصدير، الذي يحتل مكانة متميزة أيضًا بين كبار الدائنين.
باختصار، ساهمت قروض البنية الأساسية في تضخيم الدين الخارجي لمصر. يتضح ذلك في بيانات قروض المؤسسات متعددة الجنسية أو الاتفاقات مع الدول منفردة.
وكانت هناك عوامل عدة تدفع نحو هذا الإقبال القوي على هذه التمويلات، منها انخفاض أسعار الفائدة أو رغبة الجهات المناحة في إتاحة مجال لشركاتها للعمل في مصر.
ومع ارتفاع الفائدة عالميًا، دخل الدين الخارجي في حالة من الجمود، ما جعل من التزامات ديون البنية الأساسية السابقة عبئًا على الاقتصاد، إذ أن أقساط وفوائد هذه الديون تستنزف جانبًا مهمًا من احتياجات البلاد الدولارية، بجانب ما تستنزفه قروض التجارة الاستهلاكية، والتي ليس لها أي أثر تنموي على المدى الطويل.