خلال الأيام القليلة الماضية، تباينت الآراء حول استقالة طارق عامر، المحافظ السابق للبنك المركزي، وتعيين حسن عبدالله قائمًا بأعماله؛ فهناك من رآها قرارًا صائبًا، بصفته مسؤولًا بشكل مباشر أو غير مباشر عن نقص احتياطي النقد من العملة الصعبة وانخفاض قيمة الجنيه، فيما اعتبر آخرون أن سياسات اقتصادية أخرى كانت السبب في تلك الأزمة، وهو ما لن يؤثر معه بقاء عامر في منصبه من عدمه.
وبعيدًا عن المشاحنات السياسية، لا تعتمد استقلالية البنك المركزي في اتخاذ قراراته بشأن أسعار الفائدة، على استقلاليته عن سياسات الحكومة الاقتصادية، ففي الاقتصاد الدولي ثمة مصطلح بعنوان "الثلاثية المستحيلة"، الذي يقضي في حالة الاقتصاد الصغير والمفتوح (الذي يعتمد على الاستيراد والتصدير وانتقال رؤوس الأموال بشكل كبير في نشاطه الاقتصادي كما هو الحال في الاقتصاد المصري)؛ باستحالة تحقيق ثلاثة أهداف اقتصادية في آن واحد: حرية انتقال رؤوس الأموال، تثبيت سعر العملة، وحرية تحديد معدل الفائدة.
ضمان حرية انتقال رؤوس الأموال مع تثبيت سعر الصرف للعملة المحلية، لا علاقة لها بمدى فقر الدولة أو غناها.
وبشكل مبسط، فإن الدولة التي تسعى لحرية انتقال رؤوس الأموال، وتثبيت سعر العملة لضمان عدم حدوث تقلبات اقتصادية حادة نتيجة تعويم سعر الصرف، لا بد لها من أن تستجيب لتحركات أسعار الفائدة بالخارج، وذلك حتى لا تهرب رؤوس الأموال المراد اجتذابها. وهو ما رأيناه بالفعل في حديث وزير المالية عن هروب الأموال الساخنة مع بداية الأزمة الأخيرة. وعندما قام البنك المركزي برفع معدل الفائدة بعد رفع الفيدرالي الأمريكي الفائدة في شهر مايو/آيار الماضي.
يجب أن ندرك أيضًا أن ضمان حرية انتقال رؤوس الأموال مع تثبيت سعر الصرف للعملة المحلية، لا علاقة لهما بمدى فقر الدولة أو غناها، فعلى سبيل المثال، نرى في دول الخليج ذات أسعار الصرف الثابتة منذ الأزل، أن تحرك الفائدة يكاد يتم بشكل آلي مع حركة نظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية. الفرق في تلك الحالة، أن دول الخليج دول مصدرة لرأس المال وليست مستوردة له، كما هو الحال في الدول الفقيرة، ولذلك تستطيع تثبيت سعر الصرف لأنها تمتلك احتياطات أجنبية ضخمة.
هل يعني ذلك أن لا سبيل لتحقيق الاستقلالية الرأسمالية في ظل الاعتماد على رؤوس الأموال الأجنبية؟
ترى الكثير من نظريات التنمية الاقتصادية، خاصة في خطابات ما بعد الاستعمار، أن الاعتمادية الاقتصادية للدول الأقل دخلًا على الدول الغنية امتداد للإمبريالية في العصر الحديث.
فمن خلال الحفاظ على نظام عالمي اقتصادي يعتمد على تدفق الديون الخارجية من الدول الغنية للدول الأقل دخلًا، تقوم الدول الاستعمارية القديمة بضمان تشغيل الفائض من رأسمالها في دول تظل تكلفة التصنيع أو تصدير المنتجات الخام منها منخفضة. ورغم تمكن بعض الدول التي استعمرت في الماضي من تحقيق نمو عال في الدخل ورفع مستويات المعيشة والاندماج في النظام الاقتصادي العالمي بشروط أكثر عدالة (بوجه خاص في دول شرق وجنوب شرق آسيا، وذلك في معظم الأحيان بالتزامن مع الاعتماد بشكل رئيسي على الادخار المحلي)، فإن معظم دول العالم الأقل دخلًا لا زالت تعاني من دخول ومستويات معيشة منخفضة حتى بعد عشرات السنوات من الاستقلال السياسي والعسكري.
يقترح جايسون هيكل، وهو عالم أنثروبولوجي اقتصادي متخصص في اللا مساواة، أن يتم استخدام النظرية النقدية الحديثة في الدول النامية في محاولة للفكاك من تلك الاعتمادية على رؤوس الأموال الأجنبية. فما هي بالضبط تلك النظرية؟
تمثل النظرية النقدية الحديثة Modern Monetary Theory تحديًا للنظرية النقدية التقليدية التي تحذر من الزيادة المطردة في حجم المال المعروض عن طريق طباعة النقد، حيث تؤدي تلك الأخيرة إلى زيادة مستويات الأسعار في حالة عدم وجود غطاء نقدي من سلع أو ذهب. وعلى النقيض، تفترض النظرية النقدية الحديثة أن زيادة العجز في الموازنة الحكومية، وبالتالي التوسع في الاستدانة، لا يتسببان بالضرورة في زيادة مستويات الأسعار، إذا ما تم استخدام الدين في إحداث نمو حقيقي - أي زيادة حقيقية في حجم السلع والخدمات المنتجة.
تستند تلك النظرية إلى حد كبير على إحدى أهم إسهامات النظريات ما بعد الكينزية (مدرسة للفكر الاقتصادي) التي تتعارض مع النظرية النيوكلاسيكية. فبينما تضع الأخيرة النمو كهدف أساسي للسياسة الاقتصادية، تعتبر نظريات ما بعد الكينزية أن الهدف هو الوصول إلى الإشغال الكامل للطاقة الاقتصادية المتمثلة في عنصري الإنتاج: العمل ورأس المالي، وبذلك القضاء على البطالة وتعطل رأس المال.
وتتوجه النظرية النقدية الحديثة بالأخص إلى الدول المتقدمة ذات عملة عالمية الطلب (كالدولار الأمريكي واليورو) حيث أن نمو الطلب العالمي بشكل عام، ونمو الطلب على السندات الحكومية المُقيمة بتلك العملة، تسمح لتلك الدول بطباعة عملتها دون الحاجة إلى غطاء نقدي مباشر. وبذلك فإن النظرية تخاطب بشكل أساسي دول ذات وزن في أسواق المال العالمية مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان (مع التحفظ فيما يخص تطبيق النظرية في حالة اليورو نظرًا لعدم توحد السياسة المالية لدول منطقته في مقابل سياستها النقدية الموحدة).
اكتسبت النظرية أهميتها في السنوات الأخيرة من تكرر الأزمات المالية العالمية والإقليمية، حيث نادت المؤسسات المالية العالمية بضرورة خفض حجم الدين الداخلي لزيادة الثقة بالاقتصاد وتشجيع الاستثمار، ما يعني في الوقت ذاته انخفاض الانفاق الحكومي وبالتالي زيادة وتيرة الانكماش الاقتصادي، الأمر الذي يخالف توصيات النظرية الحديثة للنقد ويستدعي نموذجها للتطبيق كحل مقترح لتجاوز تلك الأزمات.
كيف تطبق النظرية في الدول النامية؟
الأزمة الاقتصادية الأخيرة طالت معظم دول العالم إن لم يكن جميعها. ولكنها ليست بتعقيد أزمات أخرى من جهة الآليات الاقتصادية، مثل الأزمة المالية العالمية في 2008/ 2009، أو الأزمات المتوقعة بسبب التغير المناخي على سبيل المثال. فالأزمة الحالية في جوهرها الاقتصادي يكمن أساسها في الاضطرابات التي طالت تدفقات سلاسل القيمة وبشكل خاص في الغذاء والطاقة مع تصاعد الصراعات الجيوسياسية. ونظرًا لأهمية هذين القطاعين القصوى لحيوية بقية الاقتصاد، فإن ارتفاع الأسعار العالمي والمحلي لن يهدأ سوى بحدوث انفراجة في تلك الأزمات السياسية ولو جزئيًا، وهو ما حدث مؤخرًا، على الأقل فيما يخص أسعار القمح.
بالنسبة للدول النامية، فإن ارتفاع الأسعار وبالتالي تكلفة الاستهلاك يتشابك مع واقع اعتمادها على رأس المال الأجنبي على النحو الذي ذكرناه، وبالتالي فأزمة الاقتصاد الحقيقية تنتقل إلى الشق المالي من الاقتصاد، وما يتبعه ذلك من حتمية الاستدانة من الدول الغربية ومؤسسات التمويل الدولي لسد الفجوات المالية اللازمة للاستهلاك والاستثمار.
في هذا الصدد، يأتي اقتراح جايسون هيكل لمحاولة الفكاك من تلك الدائرة المفرغة للاستدانة في دول الجنوب النامي. فهو يرى أنه يجب الاعتماد على الدين المحلي بدلًا من الأجنبي لسد الفجوات المالية. وبتطبيق النظرية النقدية الحديثة، فإن توفير رأس المال المحلي من الممكن تحقيقه عن طريق طباعة النقود.
بالطبع سيعتبر الكثيرون هذا الاقتراح ساذجًا لما قد يكون له من نتائج كارثية على مستويات الأسعار وبشكل سريع، ولكن هنا يكمن دور الدولة كما تتبناه النظريات الكنيزية وما بعدها. فاقتراح هيكل ينطوي على ضرورة تعبئة المال المطبوع بواسطة الدولة لسد فجوات الإنتاج وليس للاستهلاك، وبالتالي خلق فاعلين جديدين وقوة شرائية في الأسواق المحلية وتجنب ارتفاع الأسعار كنتيجة حتمية لطبع النقود.
لابد من أن ينفصل الاقتصاد المحلي عن العالمي عن طريق التخلص من الاعتمادية المزمنة على رأس المال الأجنبي لسد فجوات الاستهلاك والاستثمار.
يعترف هيكل بأن تبني سياسات كتلك سيكون له تأثيرات غير محمودة في المدى القصير والمتوسط مثل عدم قدرة الاقتصاد المحلي على توفير بعض السلع والخدمات، ولكنه يرى أنه من الممكن التخفيف من حدة تلك النقلة الهيكلية في الاقتصاد إذا ما تم التنسيق بين دول الجنوب وبعضها، من تلك التي تريد الفكاك من هيمنة الشمال على أسواق المال العالمية.
وتتفق رؤية هيكل في ضرورة هذا التنسيق مع خطابات تفكيك الاستعمار التي تنادي بضرورة القضاء على أشكال الاستعمار الحديث المتمثلة في استمرارية تبعية الجنوب للشمال عن طريق عبء الديون الخارجية الذي لا ينتهي، وتكفي مشاهدة خطاب توما سانكارا، الرئيس السابق والثوري لبوركينا فاسو، الذي اُتهمت فرنسا بالتورط في اغتياله، عام 1987 في قمة منظمة الوحدة الأفريقية لإدراك أهمية الفكاك من الإرث الاستعماري للديون الخارجية وتوحيد الإرادة الشعبية والأنظمة الجنوبية لتحقيق هذا الهدف.
في ذلك الخطاب تحديدًا، يشير سانكارا إلى الآلية التي يضمن بها المستعمر المستحدث السيطرة على الدول الفقيرة، من خلال ما يسمى بالمعونة الفنية، في إشارة واضحة لحزمة السياسات الموصى بها من قبل المؤسسات المالية العالمية التي غالبًا ما تؤدي إلى المزيد من إفقار الشعوب، وبالتالي فإن تضامن دول الجنوب لا غنى عنه في مواجهة تلك الهيمنة المالية من الشمال.
وبينما قد تمثل هذه الوحدة عقبة أمام تحقيق ذلك الهدف، فإن العقبة الأكبر تتمثل فيما يعنيه هذا الفكاك من تبعات تخص الشمال ذاته. فتفكيك الاستعمار ينطوي على تبعات اقتصادية وسياسية خطيرة ومهددة للشمال بشكله الوجودي الحالي، حيث يتم زعزعته من المركز وما ينطوي عليه ذلك من خسائر مادية فادحة.
هذه التهديدات هي بالفعل السبب في ألا يتورع الشمال عن الرجوع لأشكال الاستعمار غير المباشر في العصر الحالي. فكما هو الحال في الماضي من أهداف استعمارية لضمان تدفق الموارد من الجنوب، فالحروب لازالت تحدث بشكل مباشر لتأمين مصادر الطاقة، ومن المتوقع أن تستمر في المستقبل أيضًا بحثًا عن المياه.
ربما لم يكن طارق عامر مسؤول مسؤولية مباشرة عن انخفاض قيمة العملة المصرية، فمدى فعالية السياسات النقدية بالداخل يعتمد بشكل كبير على مدى اندماج الاقتصاد المحلي بالعالمي كمًا وشكلًا. ولكي تصير السياسة النقدية مستقلة بالفعل في اقتصاد صغير ومنفتح على الاقتصاد العالمي، كما هي الحال في مصر ومعظم دول العالم، لابد من أن يستقل الاقتصاد المحلي عن العالمي عن طريق التخلص من الاعتمادية المزمنة على رأس المال الأجنبي لسد فجوات الاستهلاك والاستثمار.
وربما يكون اقتراح هيكل محفوفًا بالشك حول مدى إمكانية تنفيذه عمليًا أو حتى استحالته نتيجة صعوبات التنسيق الدولي بين دول الجنوب والأهم الإرادات السياسية لأنظمة الحكم في الجنوب ومدى توافق الاقتراح مع الحاجة إلى تحقيق استقرار سياسي وعسكري في الكثير من هذه الدول. ولكننا لا ننكر أيضًا أن الاقتراح يمثل تحديًا لمدى جدية خطابات تفكيك الاستعمار، وبخاصة في الشمال، وضرورة انفصال مسارات التنمية في الجنوب عن هوس النمو في الشمال.