نشرت نيويورك تايمز هذا المقال للباحث المتخصص في العلاقات الإسلامية اليهودية سيث أنزيسكا، بمناسبة مرور أربعين عامًا على توقيع الإتفاقيات الأولية لمعاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.
خلال الأسبوع الماضي؛ أحيا المصريون والإسرائيليون ذكرى مرور أربعين عامًا على معاهدات "كامب ديفيد". تلك المعاهدات التي قادت إلى أول اتفاقية سلام بين إسرائيل وأي دولة عربية. من خلال هذا الاتفاق استطاعت مصر استعادة شبه جزيرة سيناء التي خسرتها في حرب 1967، بينما تخلصت إسرائيل من التهديد العسكري لجارتها الواقعة في الجنوب الغربي، وانتزعت اعترافًا غاليًا بوجودها وشرعيتها في الشرق الأوسط.
وبلا شك يشعر الأمريكيون بالفخر في هذه الذكرى، إذ يستعيدون دورهم في التوسُّط في المفاوضات التي قادت لتلك المعاهدات، والتي لا تزال تعتبر هي الإنجاز الدبلوماسي الأبرز لإدارة الرئيس الأسبق جيمي كارتر.
إلا أنه بالنسبة للفلسطينيين؛ تمثل هذه الذكرى، تذكِرَة مؤلمة للعزل والحرمان السياسي. ورغم أن "كامب ديفيد" ولدت من رغبة صادقة لدى كارتر لتحديد مصيرهم؛ إلا أنها تسببت في تعجيز تطلعاتهم من أجل إقامة الدولة الفلسطينية وتركتهم تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة، وجرَّدتهم من حقوقهم الأساسية كحرية الحركة.
خلال بحثي في الوثائق المفرج عنها مؤخرًا في القدس ولندن وعبر الولايات المتحدة؛ وجدت كيف أن جهود مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل في هذا الوقت جعلت اتفاق السلام المصري الإسرائيلي يأتي على حساب الفلسطينيين وحقهم في تقرير المصير. كانت هذه فرصة ضائعة خلقت المسار نحو الركود السياسي الذي يعانيه الشرق الأوسط اليوم.
لم يستهدف السيد كارتر أبدًا اتفاق سلام مستقل بين مصر وإسرائيل؛ فقد كان أول رئيس أمريكي يدعو بوضوح إلى "وطن" فلسطيني في وقت مبكر من فترة رئاسته، وبدأ في تطوير خطط لتحقيق حل شامل بين إسرائيل وجيرانها العرب.
أعدت إدارته مسودة سرية ترتكز على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها عام 1967، وفصل وضع القدس والنص على حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين هُجِّروا في 1948. كان هذا ترديد مبكر لما اصطلح على تسميته لاحقًا بحل الدولتين.
وبينما تم تقليص ما يتعلق بفلسطين في مصطلح "وطن"، والذي يرجح أنه كان سيتبع الأردن عوضًا عن وجود دولة فلسطينية مستقلة، إلا أن رؤية كارتر - حال تنفيذها- كانت ستقود في النهاية إلى سيادة كاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة.
حتى هذه النقطة، عارض كارتر بقوة التوسع الإسرائيلي في المنطقة التي ستشهد - وفق تصوره- قيام وطن فلسطيني، ونصح كارتر بمحادثات مباشرة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت تتحول في هذا الوقت من الصراع المسلح إلى تبني منهج المفاوضات والدبلوماسية.
موقف كارتر أثار حفيظة إسرائيل ومؤيديها الأشد إخلاصًا في الداخل الأمريكي. لكن الطرح نفسه أثار تأييدًا وتعاطفًا من القادة العرب، خاصة الرئيس أنور السادات الذي كان مدافعًا عن حقوق الفلسطينيين، والذي أراد أن يستعيد الأراضي المصرية، وينقل بلده من التحالف مع الاتحاد السوفيتي إلى التحالف مع الولايات المتحدة.
وبينما كان السادات متحمسًا في البداية لمساندة خطط كارتر في إحياء المؤتمر الإقليمي للسلام؛ إلا أن نفاذ صبره من الانقسامات العربية والمراوغات الإسرائيلية في المفاوضات، قادت إلى قراره الأحادي بزيارة القدس عام 1977 في محاولة لإحياء المحادثات. ومن خلال خطوته هذه؛ خاصم السادات العالم العربي في خطوة غير محسوبة لكنها دفعت في اتجاه إمكانية الوصول لاتفاق سلام ضيق وثنائي بين دولته وإسرائيل.
في هذا الوقت، عندما بدا أن الشرق الأوسط بات مستعدًا أخيرًا لتسوية إقليمية وإنهاء حرب استمرت لثلاثة عقود وحل الوضع الذي يعانيه مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين؛ كان لدى مناحم بيجن، رئيس الوزراء اليميني الجديد- وقتها- خطط أخرى. بالتوازي عطّل الزعيمان (بيجن والسادات) انفراجة كبيرة كادت تتأسس على المسودة الأمريكية للاتفاقية.
خطة إسرائيل الخفية
دافع بيجن طويلا عن استحالة قيام دولة فلسطينية. من المعروف أنه كان يردد دومًا حديثه عن أهمية "يهودا والسامرة" بالنسبة لليهود، مستخدمًا المصطلحات التوراتية للدلالة على منطقة الضفة الغربية. بعد انتخابه لمنصبه في مايو/ ايار 1977، ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي من حزب الليكود اليميني؛ أعلن بيجن أنه سيشجع "الاستيطان الحضري والقروي على أرض الوطن".
كانت سيناء قصة أخرى. استحوذت إسرائيل على شبه الجزيرة من مصر في 1967، ورغم أنها كان تمثل حاجزًا استراتيجيًا مهمًا؛ لم يكن لها ذلك البريق الديني الذي تحوزه الضفة الغربية. بيجن أشار في وقت مبكر إلى استعداده لسحب جانب كبير من القوات الإسرائيلية في شبه جزيرة سيناء كجزء من اتفاق السلام مع مصر؛ لكن الضفة الغربية وقطاع غزة لم يكونا ابدًا جزءًا من هذه المفاوضات.
"مبادئ السلام" تلك أعلنت بلا مواربة في زيارة بيجن الأولى للبيت الأبيض "فيما يتعلق بيهودا والسامرة وقطاع غزة؛ فموقفنا هو أننا لن نضعهم تحت أي حكم أو سيادة أجنبية"، هكذا قال بيجن كما ورد في الوثائق الإسرائيلية المفرج عنها مؤخرًا.
اعتقدت أمريكا أنها قادرة على حل هذه الصدامات في وجهات النظر بين قادة المنطقة، عبر الفصل بين الموقف الإسرائيلي المبدئي والنتيجة النهائية للتفاوض بين بيجن والسادات في نهاية 1977 وخلال 1978. لم تتحسب أمريكا لقيام الزعيم المصري باستبعاد المطالب الفلسطينية من على طاولة المفاوضات.
طرح بيجن أفكاره الخاصة التي يعرض فيها لاختلافه مع الأفكار الأمريكية المطروحة، ولخص رؤيته لما أسماه "الدور الوطني للفلسطينيين العرب من سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة". وبدلا من السماح للفلسطينيين باختيار مصيرهم بشكل جماعي؛ ستحتفظ إسرائيل بالأراضي التي استولت عليها في 1967 مع الوعد بالسماح للسلطات المحلية بانتخاب مسؤولين عرب لقيادة القرارات الخاصة بتلك المناطق فيما يتعلق بالتجارة والتعليم والصحة والنقل.
قدم بيجن أفكاره حول حكم الفلسطينيين لأنفسهم بلغة حانية، لكن تلك الأفكار نفسها كانت تحمل إلغاءً قاطعًا لحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
المفاوضات بين كارتر والسادات وبيجن استغرقت 13 يومًا في مؤتمر ممتد، انتهى إلى توقيع معاهدات كامب ديفيد في 17 سبتمبر 1978. ورغم أن المذكرات التحضيرية التي كتبها الأمريكان أوضحت بجلاء رغبتهم في أن تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية وغزة ووقف أنشطة الاستيطان؛ إلا أن المذكرات انتهت إلى تبني الرؤية الضيقة لبيجن في أن يتركز اتفاق السلام على مصر وحدها.
الوثائق المفرج عنها حديثًا ترسم لنا كيف استطع رئيس الوزراء الإسرائيلي ببراعة سياسية مذهلة أن يفصل القضية الفلسطينية عن العملية الكلية [للسلام والتفاوض]، دون اعتراض يذكر من السادات ومع الفهم الكامل من كارتر للنتيجة الظالمة الناجمة عن ذلك؛ لقد سخّر الوفد الإسرائيلي متاهات وألاعيب قانونية ضد قضية الفلسطينيين وقللوا من الحد الزمني الخاص بوقف أنشطة الاستيطان. أي إشارة لحق تقرير المصير تم استبعادها، قرار الأمم المتحدة 242 الذي طالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في 1967، لم يتم تطبيقه على "كافة جبهات الصراع" ولم يكن هناك أي تراجع عن ادعاءات إسرائيل بسيادتها على القدس.
المذكرة الإسرائيلية كانت مرجعًا للنسخة الأخيرة من الاتفاقية، حيث أحيلت المطالب الفلسطينية للتفاوض حولها في اتفاق منفصل "إطار عمل للسلام في الشرق الأوسط" مبني على خطة بيجن للسيادة. قدم من خلاله اتفاق انتقالي لحكم ذاتي محدود في الضفة الغربية وقطاع غزة دون تحديد لتفاصيل النظام والسيطرة على الحدود والسيادة السياسية. مذكرة "اتفاقية إطار العمل لوضع اتفاق سلام نهائي بين مصر وإسرائيل" مهدت لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية التي وقعت بعد 6 أشهر من هذا التاريخ. لقد صار السعي لإقرار السلام مع مصر وسيلة لتجنب السلام مع الفلسطينيين.
أدرك العديدون ان مؤتمر كامب ديفيد سيسمح لحكومة بيجن بإحكام القبضة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة، هؤلاء عارضوا بقوة خضوع السادات. محمد كامل وزير الخارجية المصري قاطع احتفالية التوقيع واستقال من منصبه. منظمة التحرير الفلسطينية أعلنت رفضها الكامل للمعاهدات بمجرد توقيعها، وحذرت من "مؤامرة شاملة" ضد الحقوق الفلسطينية.
ياسر عرفات – الزعيم الفلسطيني وقتها- وصف فكرة السيادة المحدودة التي عرضتها إسرائيل على الفلسطينيين بأنها "لا تتعدي إدارة شبكة المجاري".
بمجرد إقرار الاتفاقية في 1979، "محادثات السيادة الفلسطينية" بدأت بين ممثلين لمصر وإسرائيل والولايات المتحدة بدعوى الاتفاق على الحكم الذاتي الفلسطيني. هذه المباحثات تم التخللي عنها عشية حرب لبنان 1982 (الاجتياح الإسرائيلي). لكنها صارت رغم ذلك أساسًا بنيت عليه سلطة محدودة للحكم الذاتي لدى الفلسطينيين. ومسوداتها تم تبنيها كمرجعية لظهور سلطة الحكم الفلسطينية عقب توقيع اتفاقية أوسلو 1993، من خلال وضع شروط تجعل من تلك السلطة تسيِّر الأمور اليومية بالكاد، ودون تعريف واضح للحدود التي تقع عليها سيادة تلك السلطة بالإضافة لاستمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي. أما احتمالات الاستقلال والسيادة الكاملة للفلسطينيين فقد تم القضاء عليها تقريبًا.
حيرة كارتر
بعد تضحيته برأس مال سياسي كبير في الشرق الأوسط، كان كارتر محبطًا بشدة من فشل جهوده الأوسع على الجبهة الفلسطينية "لا أعرف كيف سيتمكنون من الاستمرار كسلطة احتلال تحرم الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية الأساسية، ولا أعرف كيف سيتمكنون من استيعاب 3 ملايين عربي إضافيين في إسرائيل دون أن يتحول اليهود لأقلية في بلدهم". قال كارتر هذا خلال لقائه الأخير بالسفير الإسرائيلي في واشنطن "لقد أظهر بيجن شجاعة في التخللي عن سيناء. لكنه فعل ذلك كي يحتفظ بالضفة الغربية".
بعد أربعة عقود، لا تزال كلمات كارتر دقيقة. السعي الفلسطيني لحق تقرير المصير لا يزال غير متحقق. وفي تهيئتها الطريق نحو أوسلو؛ مكَّنت كامب ديفيد إسرائيل من فرض رؤيتها التي تمنح بعض الإمكانات إلى سلطة فلسطينية منقوصة السيادة، تساعد إسرائيل في إدارة الاحتلال.
دون دولة مستقلة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، يواجه الفلسطينيون جهودًا إسرائيلية متجددة لهدم أية إمكانية لإقامة سيادة ذات معنى. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شجع على إقامة "دولة منقوصة". نفتالي بينيت السياسي الإسرائيلي البارز ووزير التعليم في الحكومة الحالية، نادي بـ"ممارسة الحكم الذاتي المعتمد على المنشطات" في الضفة الغربية، مُحددًا غياه بـ "حكم ذاتي يركز على سلطات محددة في إدارة المياه والصرف الصحي والكهرباء والبنية التحتية وما إلى ذلك". صدى صوت مناحم بيجن واضح، هذه المرة بدعم نشط من الحكومة الأمريكية. وبينما يتم إحياء ذكرى فاتحة الانطلاق التي قادت لإقرار السلام المصري الإسرائيلي؛ علينا أن نتذكر كذلك الميراث المؤسف لكامب ديفيد: خطوة محورية في تثبيت حالة اللادولة الفلسطينية.
اقرأ أيضًا: مستوطنات سيناء: لعبة بيجن وديان لتجنب الحديث عن مستقبل فلسطين
واقرأ كذلك: السادات يريد الأرض.. وباقي القضايا: "أوافق على أي شيء يا صديقي كارتر"
سيث أنزيسكا مُحاضر في العلاقات الإسلامية اليهودية في كولدج أوف لندن ومؤلف "منع فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو"