"عدت من الموت"؛ يلخص أيمن محمد بهذه الكلمات خروجه من سجن صيدنايا، أكثر السجون شهرةً ورعبًا في سوريا، بعد تحريره على يد فصائل المعارضة المسلحة عقب هروب بشار الأسد وسيطرة الفصائل على دمشق.
أيمن الذي ينحدر من القنيطرة جنوب سوريا عاد للدنيا مرة أخرى بعد 12 عامًا من الاعتقال في "المسلخ البشري"، إذ ألقي القبض عليه في 2012.
يسترجع ابن القنيطرة لـ المنصة تفاصيل حياته قبل دخوله سجن الأسد "كنت أعيش حياة بسيطة لم أكن معارضًا أو ناشطًا، فقط مواطن عادي أمارس حياتي ككل السوريين وأترقب الثورة السورية، اعتُقلت دون سابق إنذار في دمشق".
المسلخ للجميع
كان أيمن في سوق الحميدية يشتري بعض الاحتياجات لزوجته من المحلات الدمشقية "دار حوار بيني وبين أحد الزبائن، وتطرقت إلى التقصير الحكومي وضرورة تلبية مطالب الناس".
لم يتوقع أن يسحبه زبانية الأسد خلال دقائق قليلة من وسط السوق "جاءت دورية مدججة بالسلاح حاصروا المكان تخيلت أنني لست المقصود في هذه الحفلة الأمنية، لكن للأسف أخذوني وضربوني أمام الناس، قام أحدهم بوضع البارودة في رأسي وهو يقول سنريك كيف تحسن أوضاع البلاد أيها الإسرائيلي".
وجد أيمن نفسه داخل سجن صيدنايا الواقع على بعد 30 كيلومترًا شمال دمشق الذي أسمته منظمة العفو الدولية المسلخ البشري، هناك يصبح المعتقلون مجرد أرقام تنتظر مصيرًا مأساويًا.
وفقًا لتقرير العفو الدولية، الصادر في عام 2017، يُعتقد أن حوالي 13 ألف شخص أُعدموا فيه منذ عام 2011. كما نفذ رجال المسلخ إعدامات جماعية ودورية، مع اعتماد إجراءات سرية ومحاكمات صورية.
نسمع صوت منصة الإعدام فنعلم أن الموت أخذ شخصًا آخر
حكم نظام الأسد، السوريين، بالحديد وبالنار، فكان مصير وسيم مصطفى، البالغ من العمر 44 عامًا، هو الآخر، الاعتقال الذي استمر خمس سنوات في صيدنايا حتى جاءت لحظة التحرير.
وسيم كان يعمل في أحد محلات الكمبيوتر في سوق البحصة وسط دمشق، و"اعتقلوني فجأة لمجرد أن أحد الزبائن حمّل بعض المقاطع المعارضة من المحل عبر الإنترنت"، كما يسرد لـ المنصة.
لم تفرّق سجون الأسد بين الطوائف والتيارات السياسية في سوريا؛ يحكي أيمن عن رفاق المسلخ "كان معي الكثير من السوريين من مختلف المناطق والانتماءات، علمانيون، إسلاميون، مدنيون، سياسيون، وعسكريون منشقون. صيدنايا جمع الكل، لكنه محا هويتنا جميعًا وحولنا لأجساد تنتظر الفناء".
أن تموت كل يوم
تفاصيل سجن صيدنايا، كما وثقتها شهادتا أيمن ووسيم لـ المنصة لا يفارقها شبح الموت. "مع فجر كل يوم، كانوا يدخلون المهاجع وينادون أسماءنا"، يروي أيمن الذي لا تفارق ذاكرته لحظات الرعب اليومية "كنا بجانب بعضنا البعض ولا نسمع الأسماء بسبب الخوف. كانوا يسحبون المعتقلين إلى الإعدام، وغالبًا ما يحدث ذلك قبل الإفطار في أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء".
مكان الإعدام لا يبتعد كثيرًا عن العنابر والزنازين، لذا فالموت لم يكن شبحًا يخطف رفقاء السجن فحسب، بل كان يقتحم حواس السجناء الذين يترقبون "من التالي؟".
يحكي أيمن "كنا نسمع صوت منصة الإعدام بوضوح، فنعلم أن الموت أخذ شخصًا. نبكي بلا صوت، حتى البكاء كان صعبًا". يعلم المعتقلون أن الإعدام ليس النهاية، إذ يستكمل الجسد الميت مساره في المسلخة "ينقلون الجثث إلى غرفة تُسمى غرفة الملح وتُترك لمدة ثلاثة أيام مغطاة بالملح، ثم تُرمى في مكان مجهول مع رقم مكتوب على الجبين".
كان مسلخًا يفرم أجسادنا كل يوم بلا رحمة.. فقط ألم لا ينتهي
في صيدنايا لم يكن الإعدام أقسى ما يلقاه السجين، بل ربما يتمناه للهروب من "التعذيب والقتل البطيء. كنا نتمنى الموت أحيانًا، لكنه لم يكن يأتي"، يتذكر أيمن سوء الطعام والأمراض التي تنتشر بين المعتقلين مثل النار "كان كل يوم يمر علينا وكأنه عام. متنا أكثر من مرة من أنواع التعذيب المختلفة التي تعرضنا لها كأننا فئران تجارب يتفنن الجلاد بتعذيبنا وهو يغني أو يشتم أمهاتنا".
"آلة قتل يومية"، عاش أيمن سنوات اعتقاله تحت مقصلتها، "لم يكن هذا مجرد سجن. كان مسلخًا يفرم مسامات أجسامنا كل يوم. لم تكن هناك رحمة، فقط ألم لا ينتهي".
الخوف رفيقًا
"في لحظة اتغير كل شي"، قبلها غاب عن أيمن ومن معه في المسلخ كل أمل ولم يكن هناك أي أفق للخروج من مقبرة الأسد، حتى أتى الفرج وحان وقت التحرر، "كنا نائمين عندما سمعنا أصوات إطلاق نار، لم نكن نعرف التاريخ أو حتى اليوم"، يستعيد الأوقات الأخيرة في صيدنايا.
سمع المعتقلون التكبيرات فتظاهروا بالنوم خوفًا من الإعدام
لم يكن من السهل التخلي عن الخوف الذي رافق السجناء، فقد ظل مسيطرًا عليهم حتى في لحظة التحرير "سمعنا طلقات النار والتكبيرات وكنا خائفين من الكاميرات التي تراقبنا، فتظاهرنا بالنوم، تخيل الخوف الذي في داخلنا".
خشي أيمن ورفاقه من مجرد التعبير عن مشاعرهم في هذه اللحظة أو الإفصاح عن تساؤلاتهم "حتى جاء مقاتلون وفتحوا الشبابيك، قالوا لنا: لا تخافوا، نحن ضد الأسد. سقط النظام وسنحرركم".
القصة ذاتها تكررت في جميع عنابر المسلخ، يحكي وسيم عن الخوف الدائم، والرعب، اللذي رافقاهم طوال سنوات وجودهم في هذه المقبرة، وسيطرا عليهم حتى في لحظة رؤيتهم النور.
"ونحن نائمون في المهاجع، سمعنا فجأة أصوات إطلاق نار مكثفة كنا نائمين تحت البطانيات، نحاول إخفاء أي حركة خوفًا من الكاميرات، في البداية، ظننا أن هناك حملة جديدة ضدنا، لكننا سمعنا بعد ذلك تكبيرات تأتي من الطوابق الأخرى".
لم يصدق وسيم ورفاقه أنها لحظة الخروج من المقبرة "كنا صامتين، لم يجرؤ أحدنا على النهوض أو الحديث بصوت عالٍ، أحد رفاقي همس لي: ربما علينا القيام باستعصاء (عصيان) لكننا كنا خائفين من إعدامنا فورًا، قررنا التظاهر بالنوم حتى تتضح الصورة".
ظل المعتقلون يتظاهرون بالنوم خوفًا حتى فتح مقاتلون النوافذ وصرخوا "لا تخافوا! نحن هنا لتحريركم، الأسد انتهى"، يتعثر وسيم في وصف تلك اللحظة "معقول! كيف؟ هل نحن في حلم؟".
فتح المقاتلون الأبواب؛ زالت الحواجز والسلاسل والقيود "خرجنا وأجسادنا منهكة، وأرجلنا بالكاد تحملنا"، لكن هواء الحرية أعاد لوسيم وزملائه قواهم التي خارت في مقبرة الأسد "خرجنا إلى الهواء الطلق لأول مرة منذ سنوات، كأننا نولد من جديد. كنا نعلم أن حياتنا لن تعود كما كانت أبدًا".
الخروج من صيدنايا يعني أنك عشت معجزة
رجع أيمن إلى منزله، وهو الآن بين أهله لا يصدّق أنه "عاد إلى الحياة"، فيما يفكر وسيم في معنى النجاة من المسلخ "الخروج من صيدنايا يعني أنك عشت معجزة. كثيرون لم تُكتب لهم النجاة، لكن من خرجوا كُتب لهم عمر جديد".
البحث عن العدالة
العائدون من الموت شهود على جرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يطلب أيمن ووسيم إلا العدالة بمحاسبة الجلادين من حاشية الأسد.
يتصور وسيم مستقبل هذه المقبرة الجماعية "من أجل كل هؤلاء الذين راحوا في المسلخ يجب أن يبقى هذا المكان قائمًا يزوره القادة والسياسيون والمدنيون والفنانون ليعرفوا مدى الظلم الذي عانى منه السوريون، ولكي لا يجرؤ أحد على إعادة تلك التجربة".
"ما عشناه في صيدنايا ليس مجرد معاناة شخصية، بل جريمة ضد الإنسانية"، يقول وسيم بينما يتطلع ليوم حساب يتحقق فيه شيء من العدالة "ليس فقط لمن نجوا، بل لكل من فقدوا حياتهم في هذا المكان"، مع الأمل في أن يروا سوريا جديدة بلا مسالخ بشرية.