منذ تولى بشار الأسد الحكم في سوريا عام 2000 خلفًا لوالده حافظ الأسد، شكلت الصور والتماثيل عنصرًا أساسيًا في ترسيخ سلطته واستمرار حالة التقديس للحاكم، وهي السياسة التي استمدها بشار من الأسد الأب الذي تولى السلطة بانقلاب داخل حزب البعث عام 1970.
توالى نزع وحرق الصور وتدمير تماثيل الأسد الأب والابن على مدار عشرة أيام، في مناطق سوريا المختلفة، حتى وصلت لقلب العاصمة دمشق معلنة نهاية حكم الأسد للأبد. لم تكن أبدًا هذه التماثيل فنون نحت أو زخارف أبدعها فنانون، بل شاهدة على ممارسات نظام استبدادي سعى للسيطرة على السوريين لأكثر من خمسين عامًا.
مرحلة التأسيس.. عبادة الأسد
نجح حافظ الأسد طوال سنوات حكمه الممتدة لنحو 30 عامًا في خلق شخصية مقدسة لنفسه من خلال شبكة معقدة من الصور والتماثيل والخطابات الرسمية. وفقًا للمؤرخ الأمريكي باتريك سيل، في كتابه الأسد: الصراع على الشرق الأوسط، فإن حافظ الأسد بنى عبادة شخصيته ببطء ومهارة من خلال التحكم المطلق في وسائل الإعلام والتعليم والمؤسسات الثقافية.
كان انتقال الحكم إلى الابن بشار سلسًا من حيث الاستمرارية الرمزية، انتشرت صوره بشكل مكثف في جميع أنحاء سوريا، وفي كثير من الأحيان ظهرت بجانب صور والده، تأكيدًا على الامتداد واستمرارية الإرث. يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن هذه الممارسات جزء من نظرية المراقبة والعقاب، حيث تفرض السلطة نفسها على الشعب ليس فقط من خلال القمع والاستبداد، بل بحضورها الدائم المقدس أمام المواطنين.
فرضت الأسرة المستبدة نفسها على الشعب بالقمع والتعذيب تارة، والحضور الدائم في الشوارع والميادين ووسائل الإعلام تارة أخرى.
الحضور الدائم للقائد يجعل التمرد أصعب
يتعجب مستخدمو السوشيال ميديا من حجم الصور والتماثيل وعددها، يسخرون من بشار "إنت فاكره إنستجرام أمك"، بينما يحمل الانتشار الكثيف للصور والتماثيل دلالات عديدة، ويجري توظيفها من جانب الحاكم الإله في خلق الشعور الدائم بالرقابة والهيمنة.
نسج الكاتب جورج أورويل في رواية 1984 صورًا لأداء النظام الشمولي وكيفية فرض سيطرته على المواطنين، فالمستبد يراقب كل شيء ويرسخ وجوده في أذهان الناس في صورة "الأخ الأكبر" الذي يراقبك. ولا شك أن الحضور الدائم للقائد يجعل التمرد أصعب، وهو ما حدث بالفعل مع حكم الأسد الذي وظف صوره وتماثيله ليكون الأخ الأكبر حاضرًا دائمًا رقيبًا على الشعب.
القائد الشاب
في السنوات الأولى لحكمه، سعى بشار إلى تقديم نفسه قائدًا شابًا إصلاحيًا؛ تميزت صوره بطابع حديث، بعيدًا عن الجدية العسكرية التي كانت سمة والده. ظهر الأسد الابن في ملابس مدنية وأحيانًا بربطة عنق، في محاولة لإيصال رسالة مفادها أن سوريا تتجه نحو عهد جديد من الانفتاح والإصلاح، وإن كان مجرد دعاية شكلية.
غير أن تحت هذا السطح الحداثي لبشار، ظلت الهياكل الاستبدادية راسخة، استمرت عبادة شخصية الرئيس وأُعيد تشكيلها لتناسب العصر الجديد.
وفقًا لأنطونيو غرامشي، فإن "الهيمنة تتطلب توافقًا بين القوة والإقناع"، وهذا ما سعى إليه بشار واستخدمه طوال سنوات حكمه من خلال الجمع بين القوة والقمع، والألعاب النفسية التي يمارسها بصوره وتماثيل عائلته لفرض وجوده وتكريس سلطته، فهو يحاصر الشعب السوري في كل مكان.
مع اندلاع الثورة السورية في 15 مارس/آذار 2011، كان من أوائل أهداف المتظاهرين إسقاط الصور والتماثيل، في تعبير رمزي عن رفض السلطة. أسقط المتظاهرون في درعا تمثالًا لحافظ الأسد مصنوعًا من البرونز، وقف لسنوات منتصبًا في ساحة تشرين.
كان تحطيم هذه الرموز له دلالة نفسية واجتماعية عميقة في مسار الثورة السورية ونفوس السوريين الواقعين تحت طغيان الأسد. الصور والتماثيل رموز تجسد علاقات القوة، وتحطيمها هو تحطيم لتلك العلاقات.
مع تصاعد الثورة، تحولت عملية إسقاط الصور إلى ممارسة يومية. في حمص وحماة ودير الزور، أصبحت الصور المحطمة والتماثيل المهشمة رمزًا للتحدي الشعبي، الذي قرر تجاوز عبادة أصنام الحاكم وهز عرشه.
إعادة إنتاج الرموز
مع تحول الثورة إلى صراع مسلح في عام 2012، لجأ النظام السوري إلى تكثيف الرمزية البصرية. ظهرت صور بشار الأسد بالزي العسكري بشكل متكرر، في محاولة لتقديمه كقائد صامد في وجه المؤامرات. هذه الاستراتيجية تعكس مفهوم القائد الضرورة.
كان الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي، تطرق في كتابه الأمير لمواصفات الحاكم المثالي، حيث يتم تصوير القائد كحامٍ وحيد للدولة، ووجوده ضروري لتحقيق الاستقرار وإدارة الدولة بفعالية في أوقات الفوضى أو الاضطراب.
مع حجم الدمار في المدن السورية بعد تحول الثورة لحرب، ظلت صور وتماثيل الأسدين قائمة كأنها تتحدى الواقع. في مدينة حلب، دُمرت أحياء بأكملها، لكن لوحات إعلانية ضخمة لبشار كانت لا تزال قائمة وسط الركام. هذا المشهد المأساوي يُظهر كيف تحولت الرموز إلى أداة قمع، تُذكّر المواطنين بأن السلطة باقية رغم الخراب.
تحطيم "الإله"
في 8 ديسمبر 2024، ومع الأخبار التي تواترت عن هروب بشار الأسد من البلاد، جاء مشهد حرق صورته وتدمير تماثيله في مختلف المناطق السورية بمثابة تصفية نهائية لهذه الرمزية الاستبدادية. هذه اللحظة كانت رمزًا للانتصار الشعبي على طغيان النظام ورفض الارتباط بأي شكل من أشكال السلطة التي كانت تعتمد على رمزية الزعيم.
أصبح الحرق الجماعي للصورة بمثابة إعلان عن بداية مرحلة جديدة في سوريا، مرحلة خالية من الهيمنة الفردية وطغيان الحاكم الإله، فبسقوط تماثيل الأسد وحرق صورهم، وضع السوريون خطًا فاصلًا بين الماضي الاستبدادي والمستقبل الذي يستعدون لبنائه، فالصورة المدمرة والتماثيل المحطمة هي صورة لمستقبل جديد، يتحرر فيه السوريون من هذه الرمزية التي كانت تلقي بظلالها على حياتهم لعقود.
تعكس صور وتماثيل بشار الأسد مسيرة نظام كامل؛ من التقديس المصطنع إلى السقوط المدوي. هذه الرموز، التي كانت في يوم من الأيام أدوات هيمنة، أصبحت مع الوقت أهدافًا للمقاومة الشعبية. يمثل تحطيمها خطوة نحو تحرير المجتمع السوري من إرث الاستبداد، وبداية لمرحلة جديدة في رحلة الأمل والحرية.