"الطبيعة لا تعرف الحدود السياسية" تقول مراسلة بي بي سي أورلا جيرين في وصفها لمأساة المتضررين من الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا بداية هذا الأسبوع. المعاناة واحدة والإنسان واحد، غير أن السياسة لها حسابات أخرى.
المناطق التي تضررت بالزلزال الأخير شمال غربي سوريا، هي في الأصل مناطق منكوبة نتيجة سنوات من استهدافها بالقصف المستمر من قبل نظام بشار الأسد، وتخضع لسيطرة المعارضة والميليشيات المسلحة على اختلافها، ولا سلطة للنظام الأسدي عليها.
يعيش فيها حوالي أربعة ملايين شخص، يعتمد 70% منهم على المساعدات الدولية، ويتركزون في محافظة إدلب وجزء من ريف حلب، إضافة إلى بعض المناطق في ريف دمشق إلى الجنوب الشرقي للبلاد. معظمهم نزحوا من مناطقهم الأصلية بعد عمليات الجيش التابع للنظام المدعوم من روسيا، التي ساعدت في قلب المعادلة لصالح الأسد ونظامه.
يستحيل الوصول إلى تلك المناطق لإدخال المساعدات، سوى من منفذ واحد. وكانت الأمم المتحدة استحدثت عام 2014 آلية تسمح بادخال المساعدات إلى الشمال من خلال أربعة معابر، لكنَّ اعتراض روسيا على تلك الآلية باعتبارها "انتهاكًا للسيادة السورية" حال دون ذلك، ليصبح معبر باب الهوى هو المنفذ الوحيد إلى مناطق المعارضة.
قانون قيصر وقانون الطبيعة
في الوقت الذي تنشغل فيه السلطات التركية بتقديم المساعدة لمواطنيها المتضررين جراء الزلزال، تزداد عزلة السوريين، الذين يدفعون الثمن مضاعفًا، محاصرون من قبل نظامهم ومنسيون من قبل العالم.
أعلنت الولايات المتحدة عن تقديم المساعدات للسوريين خارج قنوات النظام، غير أن بقية الدول تخشى المساعدة خوفًا من تعرضها للعقوبات بموجب "قانون قيصر" الذي أقرّ في ديسمير/ كانون الأول 2019، بعد أن نشر أحد مصوري الجيش السوري، وعرف باسم قيصر، آلاف الصور التي توثق عمليات التعذيب والقتل داخل السجون.
القانون يفرض عقوبات على النظام السوري، والهيئات والأفراد الذين يقيمون علاقات تجارية معه. لكنه في الوقت نفسه يعرقل وصول المساعدات الإغاثية والاحتياجات الأساسية للشعب السوري، ما جعله مثار انتقادات عدة.
ورغم مبادرة الدول العربية في اليومين الماضيين إلى إرسال مساعدات عينية إلى كل من تركيا وسوريا، لكن لا ضمانات أن يتم إيصالها إلى محتاجيها في سوريا، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. وهو تخوُّف عبَّرت عنه الكثير من جمعيات الإغاثة، مما يجعل مسألة فتح المعابر أكثر إلحاحًا. وكأن عناصر الطبيعة كلها، من دمار في مدن وقرى كانت مدمرة أصلًا، وصقيع يزيد العراء وحشة، إلى قوانين دولية وعقوبات، كلها تجتمع لتُحكِم دائرة الحصار على الشعب السوري.
الله ليس بظالم. الأنظمة ظالمة والطغاة ظالمون، أما الطبيعة فهي تفعل ما فعلته منذ ملايين السنين
الله ليس ظالمًا
في وسط هذا كله تخيلوا أمًّا سوريَّةً، فقدت نصف عائلتها بين القصف والتهجير القسري، وتفقد اليوم النصف الآخر تحت ركام بيت استحدثته في مخيم للجوء على الحدود التركية السورية، تستمع إلى ما يجود به الناس من كلام عن أنَّ الزلزال ما هو إلا غضب السماء، وآية من آيات الله وعقاب على ما يرتكبه الانسان من معاصٍ.
فما هي المعصية التي لم تكفر عنها بعد كل المآسي التي عاشها السوريون؟ كأنهم مقدّرون لدفع أثمان خطايا البشرية بأكملها مع كل الويلات التي يتعرضون لها منذ عقد من الزمن، ويحملون صليب خطايانا جميعًا.
وأنا أكتب هذه السطور تأكد لي خبر مقتل شقيقة أحد أصدقائي مع عائلتها في غازي عنتاب، كانت هربت من قصف النظام في دير الزور بحثًا عن الأمان مع أطفالها الستة. لكنَّ القدر كان بالانتظار، لا مفر منه. فمن غير العدل أن تخبر السماء فاطمة وأطفالها أنهم كانوا آية من آيات العقاب.
ظني بالله جميل، ومن المؤكد أنه لا يعاقب البشر مقدمًا. فالله ليس بظالم. الأنظمة ظالمة والطغاة ظالمون، أما الطبيعة فهي تفعل ما فعلته منذ ملايين السنين، وما يقتل البشر حقًا هو غياب العدل وطغيانهم على بعضهم.
هذه المعاناة المستمرة أعادت ولادة السوريين الذين تعلموا منذ بداية انتفاضتهم عام 2011 الاعتماد على الله وأنفسهم، كما يعبرون في هتفاتهم "ما لنا غيرك يا الله"، وباتوا خبراء في البحث بين الأنقاض عن روح ناجية، وفي ترميم جراج الأجساد المصابة وإعادة بناء حياتهم على أطلال حياة سابقة. صنعوا عالمهم من بين كل هذا الدمار، من خلال المبادرات الفردية التي نظموها وأصبحت بديلًا عن المؤسسات التي صارت ضدهم. وأذكر مثالًا عنها؛ الخوذ البيضاء، أبطال المشهد من الشباب المتطوعين الذين ينتشلون ضحايا الصواريخ والزلازل.
يعتمدون على سواعدهم وما توفّر لديهم من معدات بسيطة في محاولة دائمة لإعادة التوازن بين الحياة والموت، وإن كانت الغلبة للأخير في كثير من الأحيان، لكنَّ حياة واحدة تنتشل من بين الحطام تعيد الأمل بالحياة نفسها. يعيد السوريون تشكيل أنفسهم في مخاض طويل، تقول الحكمة إنهم سيخرجون منه أقوى، قادرين على رسم ملامح مستقبل ربما يكون أكثر عدلًا.
السوريون تعايشوا مع أسلوب الحياة الذي فرضته الحرب وكوارث الطبيعة، ومستمرون في معجزة البقاء. لكنَّ العالم يبقى واقفًا مكانه، لم يطور آلياته للتكيف مع سنوات الحروب والاقتتال، وتظل القوانين والمؤسسات الدولية عاجزة عن مواكبة الواقع، ويتوقف الإنسان عن أن يكون إنسانًا في أعراف السياسة ومصالحها ويصبح مجرد أضرار جانبية.
وكما يعيد السوريون تشكيل حاضرهم، علينا إعادة تقييم إنسانيتنا في الحكم على الأمور والتعامل معها. مأساة سوريا ستكون الشاهد على ضمائرنا في كتب التاريخ التي ستتحدث عن هذا الفصل الدموي من حياتنا، فلنحاول أن نمد يد العون غير آبهين بالحدود والأسلاك الشائكة، الإنسان واحد على الضفتين، علَّنا نترك في هذا التاريخ صفحة بيضاء تقول إننا حاولنا.