في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، قالت وزارة الخارجية الروسية إن الرئيس السوري بشار الأسد قرر التخلي عن منصبه ومغادرة البلاد "آمرًا" بانتقال سلمي للسلطة، بينما كانت جموعٌ من السوريين تتجول في قصر الشعب الرئاسي في المزة، وكأنها تعلن رمزيًا من دمشق ما أُعلن رسميًا من موسكو: الشعب استرد سلطته وأعلن سيادته.
إعلان السيادة الرمزي هذا ليس حقيقيًا بالضرورة، لأن أسئلة المستقبل في سوريا بعد أكثر من 13 عامًا من الحرب الأهلية الدامية لا تزال مُعلقة. لكن ما كان حقيقيًا، هو الإعلان من موسكو عن نهاية جمهورية الأسد، التي حكمت سوريا بالحديد والنار لأكثر من خمسين عامًا تحت لافتة "حركة تصحيحية" طموحها الأبد.
اقتحمت المعارضة العاصمة بسهولة، تُذكِّر بالسهولة التي سقط بها البعث في العراق.. فنقص الشرعية يسبب الهشاشة
أبدُ الحركة التصحيحية الذي حلَّ الأحد، بدأ قبلها بأيام من ريف حلب مع تحرك فصائل المعارضة المسلحة المباغت باتجاه المدن الكبرى؛ حلب ثم حماة وبعدهما حمص إلى الشمال من دمشق، والسويداء والقنيطرة ودرعا جنوبها، قبل أن تطوق قوات المعارضة العاصمة وتقتحمها بسهولة، تُذكِّر بالسهولة التي سقط بها جناح البعث الآخر في العراق عام 2003، فنقص الشرعية يسبب الهشاشة.
وبينما كان بقايا نظام الأسد من جنود وضباط يهرولون هاربين بعدما خلعوا ملابسهم العسكرية تاركين معداتهم وآلياتهم في أوتوستراد المزة، هرول المعتقلون في سجن صيدنايا، الذي فتح مقاتلو المعارضة أبوابه، إلى خارجه يتنشقون نسائم الحرية، ويخبرون من يهمه الأمر أن اعتقال المعارضين لا يعني التخلص منهم.
من بين هؤلاء من يرون الشمس لأول مرة منذ عقود، ومن بينهم من ظنَّ أهلهم أنهم ماتوا منذ سنين، وجميعهم تعرضوا لصنوف تعذيب وتنكيل من شأنها أن تُشكّل وقودًا خصبًا لأدب السجون في السنوات المقبلة، لأن كلمة الحقيقة هي ما يبقى إلى الأبد.
واجهت جمهورية الأسد أسئلة واستحقاقات عديدة فشلت فيها جميعًا. فبعد أن كافأ وزير دفاع هزيمة 1967 حافظ الأسد نفسه بالرئاسة عام 1971 رافعًا شعارات تحرير الجولان، وجَّه عام 1976 جيشه غربًا نحو لبنان منخرطًا في حربه الأهلية. ثم في 1982 أقلعت مقاتلاته لتقصف المدنيين في حماة بدلًا من استهداف ثكنات جيش الاحتلال في الجولان.
قضى الأسد الأب على من بقوا من معارضيه في الثمانينيات بوضعهم في فروع مخابراته وسجونه وأشهرها مسلخ صيدنايا، ثم قضى النصف الأول من التسعينيات يهندس نقل السلطة إلى ابنه البكر مستحدثًا نموذج الجمهوريات الملكية الذي ألهم الطغاة حوله. لكنَّ باسلَ كان متهورًا في القيادة، فقُتل في حادث سير على طريق المطار، ناقلًا ولاية العهد لشقيقه الأصغر، طبيب العيون بشار الذي يعيش في لندن، والذي عُدِّل من أجله دستور البلاد ليسمح له بالرئاسة.
لم يعرف الأب وهو يسعى إلى ترسيخ سلطة عائلته أنه بوضع ابنه في الرئاسة إنما يلقي به إلى التهلكة، لأن الابن وجد في قصر أبيه فواتيره المتأخرة، وأثمان فشل حركته التصحيحية في الداخل والخارج. درس جديد يخبر الطغاة أن فواتير القمع لا تسقط بالتقادم، وأن البندقية لا تحمي حاملها إلى الأبد.
انفجر تراث القمع الذي مارسه الأب في لبنان في وجه الابن عام 2005 مع اغتيال رفيق الحريري، ليُجبر على الانسحاب من لبنان. ثم تفكك التوافق الإقليمي الذي رسخه الأب مع مصر والسعودية عام 2006 مع حرب تموز، ليجد الرئيس الشاب نفسه معزولًا بعد سنوات قليلة فقط من توليه الحكم. وقبل أن تحدث الانفراجة الإقليمية التي ظهرت بوادرها مع القاهرة في 2009، جاءه الربيع العربي بما لا يشتهي.
الطغاة عندما يكونون جزءًا من المشكلة، ليس بإمكانهم أن يصبحوا جزءًا من أي حل
طوال 13 عامًا، جلب الأسد الشتاء إلى سوريا ومجتمعها وهو يعزز سجله الإجرامي؛ من القصف الجوي إلى البراميل المتفجرة إلى الأسلحة الكيماوية، ومن جلب الميليشيات المسلحة إلى الخطاب الطائفي إلى تقسيم البلد كله.
سقوط الطغاة يجلب البهجة وإن كان لا يضمن المستقبل. والغد مثلما يحمل معه للسوريين أملًا فإنه أيضًا يحمل المخاوف. صحيحٌ أن سقوط الأسد لن يضع بالضرورة حدًا للأزمة المتفاقمة في سوريا، بل الأرجح أنها ستشهد فصولًا جديدةً، لكن غيابه عن المشهد مع نظامه وحركته التصحيحية شرط أساسي لأي مستقبل أفضل، لأن الطغاة عندما يكونون جزءًا من المشكلة، ليس بإمكانهم أن يصبحوا جزءًا من أي حل.