برخصة المشاع الإبداعي: Lauras Eye، فليكر
طفل يبيع الخبز في القاهرة

خطاب عاجل إلى السيد الرغيف

منشور السبت 27 أغسطس 2022 - آخر تحديث الجمعة 9 سبتمبر 2022

سيدي الرغيف...

لا شك أنك تشعر الآن بزهوٍ شديد، تتيه به على الماضي والحاضر والمستقبل، وتفتخر به على الدنيا من أقصاها إلى أدناها، بعد أن صرت أنت المنى والطلب، وصاحب الشعبية الجارفة، والشرعية الحقيقية، بلا أي تزوير، وصرت الرمز والمعنى والشيء المادي الملموس الذي يقف أمامك شعب أول دولة في تاريخ الإنسانية، وتنحني على أعتابك الساخنة هامات أحفاد من شيدوا بنيان أعرق حضارة عرفها البشر.

وفي سبيل الوصول إلى رحابك، أو محاولة مس أطرافك الطرية، قد يسقط المتزاحمون عليك، بين قتيل وجريح، شهداء أحياء عند ربهم يرزقون، بفضل فتوى أحد شيوخنا، وضحايا أرباب السلطة وأصحاب الاحتكارات بحسب ما يقتنع به الناس. لكنَّ الشهداء والضحايا وكل من يشهد لوعتهم من أجلك يُقرُّون جميعًا بأن كلمة "العيش" تلازمك، فتصبح دومًا "رغيف العيش"، وكأنَّ الدم سائل الحياة وأنت مادتها الصلبة.

سيدي الرغيف...

أنت تعلم أننا شعب صبور، نتسامح في أشياء كثيرة، ما دمنا نجد مقومات الحياة الضرورية التي أنت عمادها وأساسها، فلا يحفل أغلبنا بمن يركب ومن ينزل، ولا بمن يتم تثبيته ومن تتم إزاحته، فالأيام تجري ويداولها الله بين الناس، ويداولها السلاطين بين المنتفعين من عروشهم وكروشهم، وأنت مهما تبدَّلت وتغيَّرت الأحوال، لك وضعك ومكانك في بطوننا ونفوسنا، وبفضل توجيهاتك لمعدات خاوية، يتحرك كل شيء في أجسادنا، فندبُّ على الأرض دبيبًا يسمعه حتى من به صمم، ونعرف منه أننا لا نزال على قيد الحياة، ولا تزال هناك دولة نعيش فيها، ورغم أن القائمين على أمرها لا يعملون ما هو مطلوب من أجل أن تعيش فينا، فإننا نتحسس أجسادنا التي تنمو بفضل وجودك يا سيدي الرغيف، ونقول لأنفسنا بملء الأفواه: لا يزال في العمر بقية، ولا يزال الأمل قائمًا.

سيدي الرغيف...

لا شك أنك تعلم وتدرك وتفهم كل ما يجري الآن من مخاوف وهواجس حول فرص الوصول إليك مستقبلًا في بلادنا. هكذا يقال لنا، ولا بد أنك سمعت وعرفت، قبل ثورة يناير المجيدة، كيف كان أئمة المساجد ينادون الأهالي عبر مكبرات الصوت كي يجتمعوا بعد الصلاة ليتدارسوا كيفية تحقيق هذا الوصول، وعرفت أيامها كيف أن قيادات شعبية في بعض المحافظات اتفقت على طباعة كروت ذكية للأهالي حتى يحصلوا عليك، حسب التقسيم الجغرافي للمناطق المحيطة بالمخابز، وكيف تهكمت أنا شخصيًا في ذلك الأوان، وطالبت بالتفكير في إنشاء مكتب تنسيق ينظم هذه العملية على أفضل وجه ممكن.

ولا بد أنك عرفت يا سيدي أن إدارة تموين مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية اشترطت وقتها حمل المواطنين بطاقات الرقم القومي للحصول على الخبز من مخابز المدينة، بل إنها طالبت أبناء المحافظات الأخرى المقيمين بالسنبلاوين، باعتبارهم وافدين، بإحضار عقود إيجار موثقة بالشهر العقاري حتى يمكنهم التسجيل بكشوف الخبز، فإن لم يفعلوا، فليس أمامهم من مخرج سوى التوجه إلى محافظاتهم للتسجيل هناك. ووصلك أيامها أيضًا خبر محافظ بني سويف الذي وقف ذات يوم ساعتين متنكرًا في طابور خبز يمتد لعشرات الأمتار، ولم يتقدم ولو شبرًا واحدًا، لأن الخبز يتم تكديسه لبيعه في السوق السوداء، فعرف الرجل وآمن بما يؤمن به الناس، وانهال على رؤوس أصحاب المخبز بعصًا غليظة.

شخص يحمل الخبز في شوارع القاهرة

سيدي الرغيف...

أنت تعرف كل ما سبق، لأنك وفي لتاريخك المجيد، تعرف وتخشى من أن يأتي ما كان بالأمس إلى اليوم، ثم إلى الغد. لأنك تدرك أنك تسري في مخابز أمة لا تكفي نفسها خبزًا، ولا غير الخبز. وهي التي كانت في سالف الدهر تفتح كفيها ليأكل العالم كله. أما اليوم فهي تنتظر أن يفرج الروس أو الأوكران عن أطنان من الحبوب يصلها إليها بعض منها. أنت تعرف لأنك تتابع مصيرك جيدًا، وربما تتساءل عما إذا كان من المضحك أم من المبكي أن نلجأ إلى الهند كي نحصل عليك، وهي البلد التي يبلغ عدد سكانها 15 ضعف عددنا.

سيدي الرغيف...

إن مقامك الرفيع وصل قبل ثورة يناير  إلى حد منح مهندسين زراعيين حق الضبطية القضائية، ومضاعفة حوافزهم المالية بعد انتدابهم للعمل مفتشي تموين في القاهرة لتغطية جميع مخابز تلك المدينة المتوحشة.

ولأنك كنت عزيزًا على الجميع، ولا تزال، حدث هذا في بلد لا تنفذ فيه أغلب أحكام القضاء، وتتفاوض حكومته مع الأطباء وأساتذة الجامعات والصحفيين والعمال على أقل القليل من المال. ولابد يا سيدي أنك عرفت أن مخالفات المخابز كانت قبل سنين تبلغ الآلاف في كل شهر واحد، وأن العدد الحقيقي للمخالفات أكبر من ذلك بكثير، وأن حصيلة الغرامات المفروضة على المخالفين بلغت مئات الملايين، وأن المبلغ المستحق أكبر من ذلك بكثير، لكنه الفساد الملعون الذي يفتح للمخالفين والمتهربين والمجرمين والمحتكرين أبوابًا خلفية وسيعة للإفلات من العقاب. الفساد الذي لم ينقطع فصارت الآلاف عشرات منها.

سيدي الرغيف...

هل نسيت ذلك الخبر الذي قرأناه قبل الثورة، وكان خبرًا يرفع من قيمتك ويعلي من قامتك، حيث تحدث عن إعطاء الدكتور على المصيلحي إشارة البدء لتنفيذ مشروع تعزيز الخبز بعنصري الحديد وحمض الفوليك، الذي يتم تنفيذه بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فوزير التضامن الاجتماعي اختارك أيامها وسيلة ناجعة ناجزة للقضاء على مرض الأنيميا المتفشي بين المصريين لأن أكثر من 50 مليون مواطن يتناولونك، وفي هذا اعتراف رسمي بمكانتك عند الناس.

سيدي الرغيف...

في صدري سؤال، لابد أنه يدور في جوفك الساخن أو البارد، سيان. هل تدرك أن خوفنا على ذهابك حقيقية؟ فما نحن فيه لا يحتاج أبدًا إلى مزاح. فالحرب قد تتوقف، والقمح يصبح على قارعات طرق العالم كله، لكنَّ ديوننا تتثاقل، فيضيق ما في اليد من مال، وأنت كي تحضر شهيًا بهيًا لابد من مال وفير، لأننا نحتاج منك إلى كثير كثير، لتصبح سيد الموائد الخاوية. وأنت تعلم أيضًا، يا سيدي، أن هناك سدًا يعلو بنيانه على ماء نيلنا، وأن أراضينا مهددة بالبوار، وإلا كنا رفعنا شعار: إن شح المال، جادت الأرض.

سيدي الرغيف...

أتوسل إليك ألا يغضبك تقاعسنا وهواننا على الأمم، فلا تسألنا عن أرضنا التي لا تعرف الحنطة إلا قليلًا، ولا عن الصوامع المهدمة والمطاحن المتوعكة، ولا عن التريليونات التي أنفقناها على الأبراج الفخمة، ولا مئات المليارات التي ضاعت على المخدرات في ربع القرن الأخير من عمر بلادنا، فأكلت عقول ملايين الشباب، ولا عن التكايا الخربة، والعزب المفضوحة، ولا عن الشلل الضيقة المنتفعة التي أكلت الأخضر واليابس، فكل هذه أسئلة مفهومة ومشروعة، لكنَّ إجاباتها لا تملأ بطنا، لنظل في أمس حاجة إلى حضورك أنت، يا فخامة الرغيف.