تسبب الخبز في واحدة من أضخم الاحتجاجات الشعبية خلال السنوات الخمسين الماضية. في يناير/ كانون الثاني 1977 أدت قرارات الحكومة برفع سعر الخبز إلى انتفاضة شعبية استمرت يومين في جميع أنحاء البلاد. هاجم المتظاهرون المتاجر والمباني الحكومية ومراكز الشرطة، ونتج عن هذه الأحداث سقوط ما لا يقل عن 97 شخصًا وجرح 214، قبل أن يتراجع السادات عن القرار.
بعد هذه الأحداث بنحو 30 سنة، تسببت أزمة الغذاء العالمية في ارتفاع أسعار القمح عام 2008، وهو ما أدى إلى نقص الخبز محليًا لتشهد مصر طوابير الخبز الطويلة. بسبب هذه الطوابير اندلعت احتجاجات متقطعة، وأثناء ساعات الانتظار الطويلة وقعت اشتباكات أسفرت عن نحو عشرة قتلى قبل أن تتدخل الدولة في عمليات الإنتاج والتوزيع لتفادي الأزمة.
في السنوات الأخيرة، عادت الاحتجاجات بسبب الخبز ولكن بشكل أقل حدة، ففي مارس/ آذار 2017 خرجت مظاهرات في محافظات عديدة بسبب قرار وزير التموين بوقف العمل بالبطاقات الورقية بعد تعميم البطاقات الذكية، بالإضافة إلى خفض حصة المخابز من 1500 رغيف إلى 500 فقط، ما زاد من صعوبة النفاذ إلى الخبز المدعم حتى تراجعت الوزارة عن قرارها واعتذر الوزير مؤكدًا أنه "لا مساس بدعم الخبز أو دعم البطاقات التموينية".
ومن المفارقات المهمة أنه منذ عام 2008 ارتبطت الاحتجاجات والتغيرات في منظومة الخبز بدرجة كبيرة باسم علي مصلحي، الذي يشغل حاليًا منصب وزير التموين والتجارة الداخلية بينما كان يشغل سابقًا منصب وزير التضامن الاجتماعي والتموين في حكومة أحمد نظيف. على موقعه الشخصي يعرف دكتور مصلحي دوره في حكومة نظيف قائلًا "منذ 31 ديسمبر 2005، شغل الدكتور علي المصيلحي منصب وزير التضامن الاجتماعي وأصبح مسؤولًا عن وضع الخطة القومية لتطوير شبكات الأمان وترشيد الدعم".
يتضح هنا أن سيادة الوزير يستكمل برنامجه لخفض الدعم للسلع الغذائية الذي بدأه في عهد مبارك، متبعًا نهجًا تدريجيًا سواء عبر خفض وزن الخبز مع تثبيت سعره (أي إرتفع سعره عمليًا)، أو عبر عمليات وقف إضافة المواليد إلى بطاقات التموين أو عمليات تنقية بطاقات التموين، والآن يجري الحديث عن رفع سعر الخبز مرة أخرى. هذا الخط المتواصل منذ 2005 يوضح هيمنة سياسات تقليص الإنفاق الاجتماعي على مخيلة الوزير منذ عهد مبارك.
ومع ذلك رفض الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته التي أعلن فيها عزمه رفع سعر رغيف الخبز، تحميل الحكومة مسؤولية هذا القرار مؤكدًا أنه صادر عنه وهو من يتحمل مسؤوليته. فبعد نجاح السلطة الحالية في تمرير سلسلة من قرارات رفع أسعار السلع والخدمات وتقليص الإنفاق الاجتماعي والخدمي في مجالات الطاقة والمياه والطرق، يتصور الرئيس أنه قادر أيضًا على عبور هذا الخط الذي اعتُبِر منذ حكم السادات خطًا أحمر.
قد يكون إعلان الرئيس مجرد بالونة اختبار لرصد ردود فعل المصريين، لكن المسألة ليست سياسية فقط، فهذا الخط الأحمر الذي يتم رسمه من خلال الموازنات السياسية ليس مجرد خط وهمي أو رمزي او اعتباري، بل سلسلة من التنازلات واختصار الوجبات وتخفيض قدرة الناس على الحركة والعمل، نتيجة تقلص عدد وحجم السعرات الحرارية اليومية.
أثارت كلمات الرئيس موجة من الجدل المصحوب بالقلق؛ فالخبز أكثر من مجرد المكون الأساسي لوجبات المصرين الذين، على خلاف الدولة، لا يتعامل أغلبهم مع العيش باعتباره سلعة مدعومة تشكل عبئًا على الموازنة العامة، بل سيد المائدة بلا منازع، ويحمل في طياته معانٍ كثيرة مرتبطة بالوطن والاستحقاق والرعاية الاجتماعية وتأمين ضرورة البقاء والثقافة الغذائية.
الضرورة الاجتماعية لدعم الغذاء
تركز الخطاب الذي علق على إعلان الرئيس، على التكلفة الاقتصادية لهذا الدعم، وكيف أنه لا يصل لمستحقيه ويشكّل عبئًا علي ميزانية الدولة، ولكن خلافًا هذا الخطاب، فإن الأرقام تُظهِر رؤيةً أكثر تعقيدًا، إذ يبلغ الإنفاق على الخبز 44 مليار جنيه من إجمالي 87 مليارًا خصصت لدعم السلع التموينية.
ويمثّل إجمالي دعم السلع التموينية، الذي يستفيد منه 71 مليون مصري من خلال 21.4 مليون بطاقة تموين، 0.12% فقط من إجمالي الناتج القومي المقدر بنحو 7.1 تريليون جنيه.
ولكن رغم ضآلة هذا الدعم الغذائي، يري البعض أنه لا توجد ضرورة لدعم الخبز طالما أن الدولة تدعم الفئات الأكثر فقرًا وأن ثمار النمو الاقتصادي حتمًا سوف تتساقط بالمنافع على رؤوس الفقراء بالإضافة إلى برامج الاستهداف الموجهة لهم.
بالفعل تدعم الدولة الفقراء من خلال برنامج تكافل وكرامة، وهو برنامج طموح يمنح الأسر الفقيرة دخلًا شهريًا مشروطًا يتراوح بين 300 إلى 450 جنيهًا. ويتراوح عدد الأسر المستفيدة من المشروع وفقًا لوزارة التضامن الاجتماعي نحو ثلاثة ملايين و400 ألف أسرة، وذلك وفقا لبيانات منتصف مايو 2021.
بحسب البنك الدولي ، يقبع حوالي ثلث المصريين تحت خط الفقر والثلث الثاني يصنفون بأنهم أشباه فقراء، أي أنهم عرضة للوقوع في براثن الفقر مع أي مشكلة. هذا يعني أن حوالي 60% من سكان مصر يحتاجون عمليًا إلى الدعم سواء كان هذا الدعم كليًا أو جزئيًا.
يغطي برنامج تكافل وكرامة حوالي 15% من سكان مصر أي نصف الفقراء تقريبًا في حين أن برنامج دعم الغذاء يغطي نحو 70% من المصريين أي كل الفقراء وأشباه الفقراء وجزءًا من الطبقة الوسطى، وبالتالي فهو يلعب دورًا رئيسيًا مكملًا لبرامج الاستهداف وليس بديلًا عنها.
تؤكد دراسة أجراها البنك الدولي أن دعم الغذاء رغم ضآلته يساهم في تخفيف حدة الفقر خاصة في ظل الأزمات، فعلى سبيل المثال كان لهذا الدعم دور أساسي في مواجهة أزمة الغذاء العالمية في عام 2008-2009، قدمت برامج دعم الغذاء حماية لأكثر من 9% من المصريين وأنقذتهم من الوقوع في براثن الفقر.
يشير التقرير أيضًا إلى أن الخبز يصل بشكل أساسي للفقراء ولاسيما في المناطق الأكثر تهميشًا، وأنه مسؤول بشكل أساسي عن الانخفاض النسبي للفقر. وحاليًا وفي ظل جائحة كورونا وأثرها على فرص العمل والتشغيل في قطاعات عدة أبرزها السياحة، فإنه من شبه المؤكد أن دعم الغذاء ساهم في إنقاذ ملايين الأسر التي خسرت وظائفها خلال العاميين الماضيين.
الثمار لا تسقط من أعلى
الفقر ظاهرة مركبة ومعقدة وديناميكية ولا يمكن التعامل معها أو معالجتها بشكل خطي أو عبر مشروع واحد موجه للفقراء، بل يتطلب الأمر حزمة من البرامج المتكاملة والمتقاطعة التي تركز على جوانب مختلفة تتعلق بجودة الحياة، من خلال النفاذ إلى الوظائف والأراضي الزراعية والتدريب والتأهيل والغذاء والدعم المادي والتوظيف. هذه البرامج تجمع الفقراء مع غير الفقراء في برامج دمج اجتماعي واقتصادي متكاملة.
في أحد خطاباته الأخيرة قال الرئيس الامريكي جو بايدن "لقد جربنا تساقط الثمار عدة مرات وهو لا يعمل"، كان الرئيس الامريكي يرد علي منتقدي برنامجه الإصلاحي الذي يتضمن امتيازات اجتماعية وحزمة ضرائب جديدية مثل الضرائب الرأسمالية وضرائب البورصة للخروج من الازمة الاقتصادية والصحية العالمية.
و"تساقط الثمار" هي نظرية اقتصادية ملخصها أن منح المزيد من الامتيازات لرجال الأعمال والطبقة العليا من المستثمرين سيعود بالفائدة على باقي الطبقات الأكثر فقرًا من خلال تساقط ثمار النمو إلى باقي الطبقات، ولكن دراسة أصدرها البنك الدولي عام 2015 انتهت إلى أن الثمار لم تسقط في النهاية، وأن زيادة دخول الـ 20% الأقل دخلًا فى المجتمع بنسبة 1% أدت لزيادة بنسبة 0.38% في الناتج المحلي الإجمالي، بينما أدت زيادة نفس النسبة على دخول الـ 20% الأعلى دخلًا إلى انخفاض نمو إجمالي الناتج المحلي بنسبة 0.08%.
ولكن في مصر ورغم مرور أكثر من عقدين على تطبيق السياسات المرتكزة على النمو الاقتصادي وتقليص الإنفاق الاجتماعي والفشل في الحد من معدلات الفقر، لا تزال الأساطير المؤسسة للسياسة الاقتصادية في مصر منذ بدايات الألفية تهيمن على مخيلة كثير من المخططين والاقتصاديين الذين يراهنون حتى الآن تساقط الثمار .
ويبقى السؤال؛ ألم يحن الوقت بعد لمراجعة هذه القناعات التي لا تُسقِط إلا مزيدًا من الهموم والقرارت المجحفة على الفئات الأكثر فقرًا؟
أكثر من مجرد سلعة
عادة ما يتم فهم الخبز وفق هذين البعدين الاقتصادي والسياسي. لكن عند عموم المصريين يحتل العيش مكانة رمزية وثقافية واجتماعية عميقة ترسخت ليس فقط عبر برنامج الدعم الذي بدأ في أربعينيات القرن الماضي، ولكن أيضًا بسبب تراث طويل وممتد من احترام واحيانًا تقديس الخبز.
الخبز حاضر في الأمثلة وفي وصف العمل والحياة وأيضًا في الرعاية والتبادل بين الأهل والجيران وفي التواصل بين الطبقات الشعبية. هتاف يناير العفوي "عيش – حرية – عدالة اجتماعية" ليس إلا شكلًا من أشكال استخدام الخبز كمجاز عند المصريين، خاصة المنتمين إلى طبقات فقيرة ومتوسطة.
ضمن طوابير الخبز تجد الموظف/ ـة والعامل/ ـة وتجد أيضًا المدرس/ ـة والممرض/ ـة والطالب/ ـة وعسكري المرور وأمين الشرطة ومسؤول/ ـة الشؤون وموظفي الإدارات والوزارات والهيئات القومية. أيضًا يأكل من الخبز موظف التموين ومراقب الجودة وصاحب الفرن وعمال الفرن. المخبز هو فضاء عام للالتقاء ولتبادل الخبرات وأيضًا للشعور بانتماء الجميع، فقراء وغير فقراء، لمجتمع متخيل يتشاركون ضمنه في شيء ما. يضفي هذا الانتماء قيمة رمزية لهذا الغذاء الرخيص غير الموجه حصرًا إلى الفقراء. كما ان هذه العلاقة المركبة تسمح بتحقيق جودة مناسبة للخبز وقدرة على فرض معايير قد تتفاوت من حي إلى آخر لكنها تظل عند حد المسموح به.
هذا الارتباط الوثيق ظهر جليًا عندما انتقلت الدولة إلى نظام البطاقات الذكية الجديد على أمل انسحاب فئات من الطبقات الوسطى، فكانت النتيجة انخراط الجموع في عمليات التغيير وقضاء ساعات طويلة في أروقة البيروقراطية المصرية لتوفيق أوضاعهم وأعداد الملفات والأوراق المطلوبة للحصول علي البطاقة الذكية.
تتعجب الدولة من هذا الارتباط فهي لا تراه كمجموعة من العلاقات الاجتماعية والمادية والرمزية بل علاقة بسيطة يمكن إنهائها من طرف واحد. هناك خطورة حقيقية من تفكيك هذه الوظائف الاجتماعية للخبز وهذا التشابك الذي يسمح بالمراقبة والجودة، وقد ينتفي عند رفع سعر الخبز، فالضرر الأكبر سيقع على الأكثر فقرًا لينسحب إلى خيارات أسوأ.
تشير كل من جيسيكا برنس ومريم طاهر في دراسة حديثة إلى أن الكثير من أسر الطبقات الفقيرة والمتوسطة يتعاملون مع الخبز على انه شكل من أشكال الرعاية والارتباط بالدولة. حاليًا يمثل دعم الغذاء "شعرة معاوية" التي تربط الطبقات الشعبية بالدولة بعد أن قطعت الأخيرة بشكل تدريجي مكتسبات دولة يوليو وميراث دولة الرفاه بشكل متسارع منذ 2014.
يساعدنا النظر إلى الغذاء خارج الأطر الضيقة للاقتصاد والسياسة إلى فهم العلاقة المركبة واليومية بين الناس والعيش والدولة. وارتباط العيش بتفاصيل الحياة اليومية وعمليات التبادل والتواصل الاجتماعي والعلاقة اليومية والمباشرة مع الدولة عبر الوقوف في طوابير الخبز. ولكن أيضًا التفكير في رحلة الخبز داخل الأسرة ومن سيحصل عليه من بين أفرادها ومن سيتحمل عبء انخفاض نسبته، وما هي العناصر الذي سيتم التضحية بها من الميزانية لتعويض الفاقد ومن هم الأفراد الذين سيضحى بهم من أجل أن يتحقق الحد الأدنى من الكفاف. من المهم التفكير في مسألة إعادة توزيع الجوع داخل الأسر وتعاظم احتمالية تحمّل النساء، كمسؤولات عن الرعاية، لهذا الفقد.
الخبز يوفر عناصر غذائية عالية. يؤكد الدكتور ناصر إبراهيم الصاوي أستاذ التغذية في مقابلة مع صحيفة الوطن، أن رغيف الخبز يوفر حوالي 300 سعر حراري ويحوي قدرًا من الكربوهيدرات والدهون بالإضافة إلى الفيتامينات وحمض الفوليك والمعادن مثل الكالسيوم والحديد، وذلك بالإضافة إلى الألياف الضرورية للوقاية من العديد من الأمراض.
هذا الغذاء الرخيص الذي يكلف الدولة القليل يعني لملايين المصريين الكثير. ويمكن اعتبار دعم الغذاء شكلًا من أشكال الرعاية الاجتماعية التشاركية التي يشارك فيها جميع المصرين.
إذا قمنا بحساب دعم الغذاء كنسبة من الضرائب فهي تمثل حوالي 10% من ضرائب القيمة المضافة، وأقل من 5% من الحصيلة الضريبية العمومية التي يدفعها المصريون للدولة. فإذا كانت أموال دافعي الضرائب لن تذهب لبرنامج يعبر عن التضامن الاجتماعي والمؤازرة المجتمعية فإلى أين تذهب؟
اخيرًا, يحمل العيش خواص رمزية ومادية فريدة في المخيلة الجمعية لعموم المصرين فهو أكثر من مجرد سلعة غذائية، بل رمز سياسي ورمز هوياتي وثقافي وهو أيضًا رابط اجتماعي يربط المواطنين ببعضهم وتربطهم بعائلاتهم وتربطهم بالدولة أيضًا. العيش حياة ليس بالمعني الرمزي فقط ولكن بالمعني المادي والتاريخي أيضًا.
يحول ذلك كله الخبز إلى ما يشبه السلعة العامة، وهناك نوع من التوافق العام حوله، فلماذا لا توفره الدولة للجميع؟ خاصة وأن هذا الدعم زهيد جدًا، ويمكن أن يستمر بالتوازي مع دعم التحول في النظام الغذائي والذي تكمن مشاكله الكبري ليس في الخبز ولكن في زيادة استهلاك الزيوت والسكريات ونقص الخضروات والفواكه.
هكذا نسطيع تحسين جودة حياة المصريين، لا بزيادة مرارة عيشهم.