سأستدعي بعضًا من ذاكرة أسئلتي البريئة في أيامٍ خوالٍ. كنتُ أسأل نفسي؛ لماذا لا نعرف الكثير عن تاريخنا المعاصر؟ لماذا أدبيات المحطات التاريخية الجلل قليلة ومجتزءة وغائية، وكثيرٌ منها تافه وموتور؟ كيف يمكن لأجيالٍ خرجت من بينها كلُّ هذه العقول والأرواح النابهة الفياضة بالحياة والمعرفة، وخاضت كلَّ تلك التجارب الثرية الكثيفة، أن ينتهي منتجها المعرفي إلى هذا القدر من الدعة والابتسار والتشتت، قياسًا بحقيقة ما اختبرته من لحظات تاريخية ملحمية؟
كنتُ أسأل نفسي؛ لماذا أجمل الكتابات وأصدقها هي أكثرها مرارةً وشعورًا بالخذلان؟ ولماذا أشدُّ القراءات والتحليلات بصيرة، كانت تلك التي كتبها من يعلنون دومًا أنْ لا غاية لهم من وراء بصيرتهم، وأنَّ الله فقط من وراء القصد؟
لماذا التاريخ الحديث لهذا البلد تاريخٌ دائريٌّ، غبيٌّ، يعيد طرح الأسئلة نفسها على نفسه كل عشرية أو يوبيل؟ لماذا سُنّته هي الانقطاع، فيبدأ الجدد من حيث بدأ الأقدمون لا من حيث انتهوا؟
تتكرر الأسئلة مرةً تلو أخرى بين المُحدثين وهم يعيدون اكتشاف العجلة، وينبهر المعاصرون بطزاجة لحظتهم الآنية وتفردها وتقدمها في دوران عجلة الزمن، فيطرحون السؤال باختيالٍ بريءٍ لطفلٍ يتيمٍ لا ذاكرة له، أو لطفلٍ يحيا أبواه ولكن بلا ذاكرة وأهلية، ثم تدور الدائرة.
ثم لماذا لا نجيب عن الأسئلة البسيطة؟ لماذا نحب الفقه السياسي ونكره التفسير؟ ولماذا ندمن الدوران في المحل؟ والسؤال الأهم هو لماذا صمت الأقدمون؟
لديَّ تفاؤلٌ تاريخيٌّ يقول بأن لا إدراك لمعنى أو دلالة لنصر، إلا بإدراك هزائم سبقته. الهزيمة هي لحظة تعثر لنصر سابق، وإلا فكيف نعي أنها هزيمة، وكيف ندرك أنَّ النصرَ نصرٌ طالما هو ليس انتصارًا على شيءٍ سبق وهزمنا؟
قال لي أحد الحكماء في لحظة يأسٍ مقيمٍ وكشفٍ صادمٍ، إنه لا يوجد شيء مجرد بذاته اسمه "الأمل"، بل هو شيء بداخلنا. تأملت فيما قاله وقلت لنفسي ربما. ذلك لأننا لو حكَّمنا العقل المجرَّد على ذواتنا، لقال لنا إنه لا أمل من حيث المبدأ لكائن سيفنى مهما طال بقاؤه. لنردَّ عليه قائلين متوسلين: ربما على سبيل "الأمل" تنصفنا أعمالنا وذكرانا.
لا توجد في رأيي هزائم جماعية إلا بإفناء الجماعات، التاريخ لم ولن يقف على أفراد أو مجموعات أو حلقات، ولا يطرح بالطبع إلا الأسئلة التي يستطيع إجابتها. ولا يوجد شيء اسمه آخر الرجال المحترمين، ولم يولد أنبل من فينا بعد، وليست كلُّ لحظة هزيمة تفردًا بذاتها في تاريخ الألم. هذه ترهات برجوازية مصابة ببَرَص الأنانية ووهم الاستحقاق والتمترس الأبله حول الذات والتعلق اليائس بخلود لم ولن يوجد.
لكن وإن بدت الجماعات مهزومةً نظريًا، ففي التحليل الأخير الهزيمة شخصيةٌ بالتعريف، فليس ما يهزمنا هو الهزيمة، بل عارها. وليس ما يكسرنا هي ذات الطاغية بل انكسارنا نحن أمامها. يهزمنا ضعفنا الجسدي والمادي وخوار قوانا النفسية، يهزمنا الشك فيما آمنَّا به، يهزمنا عجزنا أمام إدراك ما حدث.
وفي أغلب الوقت ننفق زمنًا طويلًا في الإنكار هروبًا من هذا الإدراك، التهرب من الأسئلة الصعبة في زمن أسهل، لتتراكم وتصبح أسئلة أصعب في زمن أصعب.
هزائمنا ليست أمام أعدائنا بل أمام أنفسنا وأمام من خذلناهم ومن كان يأسهم منا على قدر رجائهم فينا
وفي نهر الهزائم تكثر سباحة الغرقى، وسباحة الغرقى هي ما تؤدي فعلًا إلى الغرق. ضربٌ أبلهٌ هيستيريٌّ في الماء ظنًا في إنقاذ لم يكن ليأتي إلا ببعض الراحة والطفو واسترداد عزيمة الروح استعدادًا لسباحة النجاة. سباحة الغرقى تفضي إلى انهيار الجماعات المادية أو المتخيلة فتتشظى إلى حلقات مصالح أو ذكريات ومعاشات، أو روابط بدائية.
وقتها يستسلم الفرد إما للكراهية المصحوبة بإحساس الخذلان، أو بالشماتة وادعاء الحكمة بأثرٍ رجعيٍّ، ظنًا أنَّ في ذلك خلاصًا ونجاةً، أو يستسلم لمنطق عدوه فيرى العالم بعيونه حتى لو ظلَّ يراه عدوًا، أو يستسلم بالانتحار مجازًا أو فعلًا.
ولكن أذكى أنواع الاستسلام وأكثرها أمانًا في ظني هو الاحتماء بالغباء وتعطيل الذهن عمدًا، والاستثمار في الصدأ الذي يتراكم عليه حتى لو انعكس ذلك على كلِّ مفردات نشاطه الإنساني. وفي هذا الاستسلام الأخير بالذات إحدى إجابات سؤال لماذا صمت الأقدمون؟
ربما كان الكبرياء، لكنَّ الإنسان منا في الأخير هو وجود تافه وعابر، فيروس إنفلونزا أصم وفتاك لن يفرق جسد أعظم عظمائنا عن جسد جاموسة ملقاة في زريبة قذرة. لذا ليس من المبالغة أو الشاعرية القول بأن غايات وجودنا الرمزي أهم من وجودنا المادي التافه، فهي من تجد لهذا الوجود دوافع للاستمرار داخل أدمغتنا، طالما تجاوزنا متطلبات الندرة الأساسية والاحتياجات الحيوانية المحدودة التي مهما زادت تظل قليلة. وظني أنَّ معظم من أصابهم داء المعرفة هم كذلك.
وظني أنَّ غاياتنا الرمزية هي بالمنطق أعظم من ضخامة ذواتنا في أعيننا. ولو كان الكبرياء مشروعًا ومفهومًا في صراع الإنسان الفرد ضد خصمه الإنسان الفرد، فهو جريمة إذا ما كان في حق غاياته ومثله. وإذا استمر حاله هكذا فهنا لا يتبقى من الكبرياء أي عزة ولا من الذات أي تفرد، إلا عزتها بالإثم وتفردها بآلامها.
لماذا لا نفكر في أخطائنا كبشر نُصيب ونُخطئ؟ ولماذا حين يهدينا تفكيرنا لا نقدِّم اعترافًا صادقًا مشرفًا حتى ولو على سبيل تعزية الضمير؟ مرة أخرى، هزائمنا ليست أمام أعدائنا، بل أمام أنفسنا وأمام من خذلناهم ومن كان يأسهم منا على قدر رجائهم فينا.
يصمت الأذكياء ويستخدمون ما تبقى من حيلتهم في الاحتماء من أنفسهم بالغباء والصدأ والنسيان، لتستمر الحياة منزوعة الذاكرة. أما الأغبياء فعلًا، فمنهم من يتصدر المشهد بالجنون والصراخ واستعراض العار، ومنهم من يتصدره بالتكالب على ما تبقى من جيف المعاني ظنًا فيها أنها مغانم ومكانة وعزة، أو ظنًا تعسًا ضالًا بأنه إمساك على الجمر.
وأخيرًا، هناك الانتهازيون الأغبياء من أصحاب الإحساس السميك وضآلة المأرب ومرض التكتيك، الذين لا تسع رؤيتهم ثقب عانة حلوف. وأرحم من يتبق في المشهد وأقلهم ضررًا، هم العارفون المتكسِّبون لقوت يومهم من إنتاج المعرفة، فهم القلة التي تستطيع حمل ما خفَّ حمله من معاني التجارب الماضية وسردياتها، وإعادة تدويرها ببعض النباهة.