في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2018، ذهب الصحفي السعودي جمال خاشقجي إلى القنصلية السعودية في إسطنبول للحصول على وثائق لإتمام زواجه المقبل من خطيبته التركية خديجة جنكيز، ولم يعد مرة أخرى.
التقارير حول مقتل خاشقجي، والأدلة الدامغة على تورط مسؤولين في الحكومة السعودية من بينهم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان فيه بشكل مباشر، اجتاحت العالم. واليوم، بعد مرور أكثر من سنتين، لم يُقّدم القتلة إلى العدالة، في واحدة من أكثر حلقات مسلسل استهداف الصحفيين والإعلاميين الذين قتل منهم 42 في العام الماضي، دمويةً.
مقتل خاشقجي، ولماذا أراد النظام السعودي القمعي إسكاته، هو موضوع الوثائقي الجديد المنشق، آخر أفلام المخرج الحائز على الأوسكار بريان فوجِل، ويبدأ الفيلم من مونتريال مع مدون الفيديو والمعارض السعودي عمر عبد العزيز وهو يستقل مترو الأنفاق. وفيما يخبر مُحاوره بعدم شعوره بالأمان، يتلقّى رسالة نصية تطلب منه أن يتوخى الحذر ويغيّر رقم هاتفه "لأنهم سيقتلونك قريبًا".
المنشق هو ثاني فيلمين وثائقيين أُنجزا العام الماضي حول خاشقجي. الأول كان مملكة الصمت، الذي استخدم خاشقجي متكئًا للنظر في التاريخ الحديث للمملكة العربية السعودية وعلاقتها بالولايات المتحدة. في المقابل، يدور المنشق بصورة أكبر حول خاشقجي نفسه، ويخوض في تفاصيل أكثر عن حياته ومقتله. نقاط التركيز والاهتمام المختلفة للفيلمين تنتهي بهما منطقيًا في محطات وصول مختلفة.
في المنشق، يتمتع المخرج بريان فوجِل وطاقمه بصلات أكثر مع أصدقاء خاشقجي وعائلته وزملائه، مقارنة بما حدث في مملكة الصمت، الذي اختار إعطاء الكلمة لسياسيين ومحللين وخبراء. وبدلًا من النظرة الشاملة للعلاقات الأمريكية السعودية في الفيلم الأخير، هنا قصة أكثر حميمية عن صحفي منفي يبحث عن الحب في خضم صراعه مع نظام بلاده الذي لم يعد بحاجة إليه بعد أن افترقت السبل وتباينت الرؤى.
اختلاف الحساسيات والمقاربات واضح حتى في عنواني الفيلمين. في مملكة الصمت، يصرّ أحد المحاورين على أن خاشقجي لا يُعتبر معارضًا "لأنه أحب بلده في صميم قلبه". المنشق أكثر ذكاءً فيما يتعلق بكيفية انتقاد المرء لأفعال بلده، والعواقب المروعة المحتملة للمجاهرة بذلك. لا يبخل الفيلم في تزويد مُشاهده بالكثير من المعلومات عن خاشقجي، الإنسان والصحفي، مدفوعًا في ذلك بسببين أساسين: رغبته في تشييد سردية بوليسية لحكاية مأساوية من أكوام تراجيديات العالم الثالث، ولأنه فيلم موجّه في المقام الأول لجمهور غير عربي لا يعرف بالضرورة خلفيات الجاني والضحية ولا سياقات الأحداث.
الإنسان والصحفي
منذ فترة طويلة، اكتسب خاشقجي شهرةً ومكانةً واقترب من دوائر الحكم السعودية، وكان أحد الأصوات المروّجة لنجاحات العائلة المالكة طيلة ثلاثة عقود تقريبًا. لكنَّ مياهًا كثيرةً جرت تحت الجسر مع دخول محمد بن سلمان إلى المشهد السياسي. "MBS"، كما يشير إلى نفسه ويفعل الفيلم أيضًا، قدّم نفسه كنوع جديد من القادة في السعودية؛ يفتح دور السينما ويسمح للنساء بقيادة السيارات، وهو الرجل المسؤول عن النفط، شريان الحياة في السعودية. غير أنه في الواقع ليس رجلًا لطيفًا ولا تقدميًا كما يحاول رسم صورته، وسرعان ما يبدأ خاشقجي في انتقاد سياسات الأمير الصغير القائم بأمور الحكم فعليًا.
ونظرًا لكونه عصر وسائل التواصل الاجتماعي، قدّم خاشقجي النصيحة والمال إلى عمر عبد العزيز لتجنيد مستخدمي تويتر المعارضين وإنشاء جيش إلكتروني مضاد لجيوش "الذباب الإلكتروني" الحكومية؛ تويتر أداة قوية للتأثير السياسي في السعودية، حيث يستخدمه أكثر من 80% من السكان يوميًا، و لمحاربة الانتقادات، وظّف محمد بن سلمان مئات "المتصيّدون" من أجل مهمة بسيطة وواضحة: إعلاء الصوت بالأخبار الإيجابية عنه فقط وطمس تلك السلبية، بما يخلق ثقافةً مجرَّدةً من أصوات المعارضة. كيف يفعلون ذلك؟ بالتقليل من شعبية تغريدات خاشقجي (وأي صوت ناقد آخر) وإخماد زخمها منعاً لتحوّلها إلى تريند، ونشر المعلومات المُضلِّلة.
خوفا على حياته، غادر خاشقجي المملكة العربية السعودية في أواخر عام 2017، واختار الولايات المتحدة منفىً اختياريًا، لكنه لم يتوقف عن الكتابة.
يعرّفنا الفيلم أيضًا على جانب شخصي من حياة خاشقجي المتأخرة، عبر لقاءات مع خطيبته خديجة جنكيز، التي انتظرته أربع ساعات خارج السفارة، وكرّست جهودها بعد مقتله لمحاكمة قاتليه. تتحدث عن جانبه اللطيف: كيف أحب كرسي "ليزي بوي" الذي اشترته له، وكيف رتّبا للزواج. تواصل بشجاعة التحدث علنًا عن مقتله، على أمل أن يضع أحدهم المسؤولية على عاتق محمد بن سلمان.
جنبًا إلى جانب زملاء خاشقجي الصحفيين، ترتسم صورة لرجل مثالي بريء يؤمن بإمكانية الإصلاح الديمقراطي للعالم العربي. وفي حين قد يبدو المصطلح فضفاضًا بعض الشيء، لكن خاشقجي كان شهيدًا لقضية حرية التعبير، فاغتياله والتحريض ضده وقف وراءهما أشرار بلا قلب، ولا يضاهي فظاعتهم سوى إصرارهم على الاحتفاظ بسلطتهم وإساءة استخدامها.
جماليًا، فرغم أن المنشّق مشحون بلا داعٍ بمونتاج وموسيقى يليقان بفيلم هوليوودي مثير، إلا أن هذه البهرجة لم تنتقص شيئًا من الدقة الإجرائية التي يسيّر بها الفيلم تحقيقه كما يجدر بمدعٍ عام صارم. يضع فوجل مقتل خاشقجي في سياق جيوسياسي، بما في ذلك تمويل النظام السعودي للثورات المضادة في البلاد العربية التي شهدت انتفاضات ضد قادة تعتبرهم المملكة حلفاء لها، كما في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمراقبة الإلكترونية المتطورة للسيطرة على المعارضين في الداخل والخارج.
وبعد إعلان فوز جو بايدن بالرئاسة الأمريكية، دعته خديجة للوفاء بوعده أثناء حملته الانتخابية بالكشف عن قتلة خاشقجي والإفراج عن تقارير ونتائج تحقيقات الاستخبارات الأمريكية بشأن قضية مقتله وإبلاغ الكونجرس بالمسؤولين عن القتل، بما في ذلك دور ولي العهد. لكن مرة أخرى، تذهب أرواح المعارضين والمنتقدين على مذبح الصفقات والمساومات، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قرأ تقرير وكالة المخابرات المركزية، ورفضه. في الواقع، بينما أكتب هذه الكلمات أفكّر مسبقًا في مآلات بائسة ستصل إليها غالبًا التحقيقات في مقتل الصحفي اللبناني لقمان سليمان، في وقت يعرف الجميع قاتله الحقيقي.
المال يغّير كل شيء
لا مفرّ من إبعاد السياسة عن الكتابة، فهذا الفيلم، في جوهره، تقرير واقعي وملعون عن الطريقة التي يعمل بها العالم. في القفز ذهابًا وإيابًا بين متاعب عبد العزيز في كندا والسنة الأخيرة من حياة خاشقجي، يتضح جليًا كيف يغيّر المال كلّ شيء، خاصة حين تستوي المعادلة على طرفين لا يفهم كلاهما سوى الصفقات لغةً ووسيلة لتصريف الأمور.
وقف العديد من قادة العالم، بمن فيهم دونالد ترامب، على الفور إلى جانب محمد بن سلمان عندما ادّعى براءته من مقتل خاشقجي. الرئيس التركي أردوغان لم يفوِّت الفرصة وناور كعادته إعلاميًا وحاول استغلال السقطة السعودية لحلب أكبر قدر ممكن من المكاسب. حتى عندما تمكنت الشرطة التركية أخيرًا من تفتيش السفارة وتطوير الأدلة (غرفة ملطخة بالدماء، بئر في حديقة السفارة وفرن بداخلها، عميل سعودي التقطته كاميرات المراقبة مغادرًا السفارة بملابس خاشقجي، فقط ليقطع بضع بنايات ويذهب إلى حمّام أحد المطاعم ويخرج بملابس جديدة)، خرجت تبريرات النظام السعودي ساذجة ومجرمة، فألقت اللوم على "العملاء المارقين" الذين لم يفهموا التعليمات جيدًا. كأن أحدًا من هؤلاء الواقعين تحت سلطة ولي العهد يتصرّف من تلقاء نفسه مثلًا.
في وجهٍ آخر من معادلة المال المسيطرة، رفضت شركات البث الكبرى، مثل نتفليكس وأمازون، عرض الفيلم على منصاتها الأوسع انتشارًا. في العام 2017، عرضت نتفليكس الفيلم السابق للمخرج، إيكاروس حول فضيحة المنشطات الأولمبية من قبل الحكومة الروسية، المتوَّج بجائزة أوسكار أفضل وثائقي. حضر رئيسها ريد هاستينجز العرض الأول للفيلم في مهرجان صندانس السينمائي أوائل العام 2020. ولكن حين عرض فوجِل على نتفليكس نسخة فيلمه الجديد، لم يتلقَّ ردًا.
لكن الأكثر فداحة هو ما حدث من أمازون، المملوكة لجيف بيزوس مالك صحيفة واشنطن بوست التي كتب في صفحاتها خاشقجي مقالاته الناقدة التي ربما تسببت في مقتله. بيزوس أيضًا وقع في السابق ضحية لابتزاز محمد بن سلمان حيث كان الأخير وراء اختراق هاتفه، ما أدى إلى فضيحة زوجية مذلة لأغنى رجل في العالم. كان التسريب انتقامًا بعد أن ألغى بيزوس، في أعقاب مقتل خاشقجي، زيارة للسعودية كمتحدث ضيف في مؤتمر استثماري كبير للترويج لخطة بن سلمان الاقتصادية.
تعلَّم بيزوس الدرس فيما يبدو، كما تعلّمته نتفليكس بعدما خضعت، قبل سنتين، لتهديدات المملكة وأزالت إحدى حلقات البرنامج الساخر "Patriot Act" لحسن منهاج، حول ولي العهد السعودي وعلاقته باغتيال خاشقجي. حينها، أوضح هاستينجز رئيس نتفليكس انحيازات شركته "نحن لسنا منخرطين في بيزنس السلطة، بل في بيزنس الترفيه". في أواخر العام الماضي، وقعت نتفليكس صفقة ضخمة مع "المجموعة السعودية للإنتاج والتمويل" (تلفاز 11) لإنتاج "أعمال للجمهور العربي والعالمي".
ملهاة واقعية ملائمةً تمامًا لعالم تغيب عنه العدالة وترتكب فيه الجرائم بدمٍ بارد، فيما القاتل يلهو أمام جثة ضحيته واثقًا، بلا أسف أو خوف من العقاب.