
الحوسبة الكمومية.. ساحة حرب باردة بين القوى العظمى
لم تعدِ الحربُ محصورةً في النزاعات العسكرية التقليدية بين الدول، بل بات ميزان القوة يقوم على أسس رقمية يتداخل فيها البُعد الجيوسياسي مع الاستراتيجيات العسكرية في ساحة التنافس التكنولوجي المعقد.
قد تبدو الحرب التقنية باردة، لكنها تُخفي صراعًا محمومًا بين القوى الكبرى، على رأسها الولايات المتحدة والصين، وهو التحول الذي تؤكده أطروحات الكاتب الألماني فولفجانج هيرن في كتابه الحرب التكنولوجية بين الصين والولايات المتحدة والموقف الأوروبي تجاه المنافسة، حيث يبرز دور هذه القوى في قيادة التقدم التكنولوجي العالمي ويُركز على ميادين الصراع الأبرز، من بينها الحوسبة الكمومية.
ورغم أن الحوسبة الكمومية لا تزال في مراحلها التجريبية المتقدمة، فإنها من أكثر الابتكارات الواعدة لقدرتها على معالجة كميات هائلة من البيانات، والتنبؤ بالظواهر الطبيعية، وتطوير أدوية أمراض معقدة مثل السرطان، بدقة وسرعة غير مسبوقتين.
من هنا يبدأ السباق المحموم بين الدول الكبرى على تقنيات لم تكتمل بعد، لكنها تَعِد بتغيير قواعد اللعبة، فالحوسبة الكمومية ليست مجرد إنجاز علمي، بل ورقة ضغط جديدة في ميزان القوى بقدر ما تفتح آفاقًا هائلةً تثير أيضًا مخاوف جدية من استخدامها في مسارات غير أخلاقية.
من البِت إلى الكيوبت
تستند تكنولوجيا الكم في جوهرها إلى مبادئ نظرية الكم التي غيّرت فهمنا للعالم المادي. من هذه المبادئ تنبثق تطبيقاتٌ ثوريةٌ مثل الحوسبة الكمومية، وأجهزة الاستشعار الكمومي، والتشفير الكمومي، وحتى التصوير الكمومي.
في قلب الحوسبة الكمومية نجد "الكيوبت" أو "البت الكمومي"؛ وحدة البيانات الأساسية التي تختلف جذريًا عن نظيرتها في الحوسبة التقليدية. فعلى عكس البِت الكلاسيكي الذي يكون إما 0 أو 1، يمكن للكيوبت أن يوجد في حالة تراكب تجمع بين 0 و1 في اللحظة نفسها، ما يتيح قدرات غير مسبوقة في معالجة المعلومات.
علاوة على ذلك يمكن للكيوبتات أن تدخل في حالة "تشابك" كمي، وهي ظاهرة تربط حالتين كموميتين مهما بَعُدت المسافة بينهما، بحيث تتغير إحداهما بتغير الأخرى. هذا التشابك يفتح الباب أمام معالجة كمية متزامنة ومعقدة لعدد هائل من الكيوبتات دفعةً واحدةً.
ثم يأتي "التداخل الكمي" ليمنح هذه المنظومة قدرةً إضافيةً، ويسمح بتراكب الحالات بطريقة تسرّع العمليات الحسابية وتُعزز كفاءة الخوارزميات الكمومية.
بفضل هذه المبادئ الفيزيائية الخارقة، تبدو الحوسبة الكمومية أشبهَ بثورة ثالثة في عالم المعالجة، وهو ما يفسر احتدام التنافس بين القوى التكنولوجية الكبرى على امتلاك هذه الأداة، التي قد تعيد رسم خرائط النفوذ خلال العقود المقبلة.
حرب باردة رقمية
خرجت الحوسبة الكمومية من طور أنها مشروعٌ علميٌّ مستقبليٌّ، ودخلت طورًا جديدًا بوصفها جبهة جديدة في الصراع التكنولوجي بين القوى الكبرى، على رأسها الولايات المتحدة والصين، ولكل دولة أدواتها واستراتيجياتها التي تنبع من اختلاف في النماذج الاقتصادية. ففي حين تعتمد أمريكا على اقتصاد السوق المفتوح الذي يفسح المجال أمام شركات التكنولوجيا الكبرى لقيادة الابتكار، ترتكز الصين على نموذج تخطيط مركزي ممزوج بأدوات السوق، وتضخ استثمارات ضخمة في الجامعات والمختبرات البحثية الحكومية.
في الولايات المتحدة، خُصص نحو 1.2 مليار دولار لأبحاث الكم ضمن قانون "مبادرة الكم الوطني" الذي وُقّع عام 2018 لمدة خمس سنوات. لكن الدور الأساسي تلعبه شركات مثل جوجل، التي أعلنت في 2019 عن تحقيق "تفوق كمومي" بحاسوب مكوّن من 53 كيوبت، استطاع إجراء عملية تتطلب من أقوى الحواسيب العملاقة آلاف السنين.
وفي 2023، أطلقت IBM رقاقة بسعة 1000 كيوبت، وتخطط لبلوغ 100 ألف كيوبت خلال عقد. أما مايكروسوفت فتتعاون مع شركة Quantinuum في بناء حواسيب تجارية نجحت في إجراء 14 ألف عملية دون أخطاء.
في المقابل، ضخت الصين أكثر من 15.3 مليار دولار في أبحاث الكم، أي ما يفوق الإنفاق الأمريكي بأربعة أضعاف. وتتركّز أبحاثها داخل الجامعات الحكومية، وتخضع الشركات الناشئة في هذا المجال لرقابة أو دعم مباشر من الدولة، وأطلقت برنامجًا وطنيًا في 2016 من مقره بمدينة خفي، ونجحت في إطلاق أول قمر صناعي كمومي ميسيوس ضمن شبكة ربط كمومي بين بكين وشنغهاي.
لم تكتف الصين بذلك، بل دخلت إلى التطبيقات أيضًا، وطورت هواوي جهاز استشعار كموميًّا دقيقًا لتحديد المواقع داخل المباني، وابتكر علماء صينيون رقاقةً بسعة 504 كيوبت متاحة للباحثين عبر منصة سحابية. كما دشّنت شركة Origin Quantum، التابعة لجامعة USTC، أول خط إنتاج للرقاقات الكمومية ونظام تشغيل وأجهزة تحكم متكاملة.
من التشفير إلى القيادة والتحكم
هذا التطور في الحوسبة الكمومية وما قد يمنحه من قدرة غير اعتيادية على امتلاك البيانات وتحليلها دون أخطاء، سيغير ميزان القوة العالمي، خصوصًا في مجالات الأمن والدفاع والتجسس، فهي ليست مجرد قفزة علمية، بل أداة قد تعيد رسم خرائط التفوق الاستراتيجي عالميًا. فبقدرتها على إجراء عمليات حسابية معقدة بسرعات هائلة ستتيح للدول مستقبلًا تعزيز دفاعاتها السيبرانية، وتطوير أنظمة ملاحة واستشعار متقدمة، وتحسين كفاءة التخطيط العسكري بشكل غير مسبوق.
في المجال الأمني، تُعد خوارزمية شور أبرز تهديدات التوازن الرقمي الحالي. فهذه الخوارزمية الكمومية قادرة نظريًا على كسر التشفيرات التقليدية التي تحمي بيانات حساسة مثل السجلات البنكية والأسرار الحكومية وكلمات مرور المستخدمين. لهذا السبب، بدأت الدول في تطوير أنظمة "تشفير ما بعد كمومي" تكون مقاومةً للهجمات المستقبلية.
مع استمرار تطور الحوسبة الكمومية يُتوقع أن تلعب دورًا مهمًا في غرف القيادة العسكرية
أما في المجال العسكري، فتُفتح أمام الحوسبة الكمومية آفاق جديدة تمامًا، ويعمل الرادار الكمي بطريقة مختلفة عن الرادارات التقليدية، ويستخدم جسيمات ضوئية دقيقة تُعرف بالفوتونات ما قد يمنحه قدرة أكبر على رصد الأهداف بدقة حتى في البيئات المليئة بالتشويش، كما يساعد أيضًا في إخفاء موقعه مما يجعله أقلَّ عرضةً للكشف أو الاستهداف.
لا تتوقف الحوسبة الكمومية عند الرادارات، وتتيح تقنيات تصوير واستشعار متطورة يمكن أن تُحدث نقلة نوعية في مجالات مثل الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، من خلال أدوات تراقب وتجمع البيانات بدقة أعلى وسرعة أكبر من الأنظمة الحالية.
ومع استمرار تطور الحوسبة الكمومية، يُتوقع أن تلعب دورًا مهمًا في غرف القيادة العسكرية من خلال محاكاة سيناريوهات معقدة واتخاذ قرارات سريعة بناءً على تحليل فوري لكميات ضخمة من البيانات الاستخباراتية، وهذا يمنح الجيوش قدرةً أكبر على الاستجابة الدقيقة والفورية في ساحة المعركة.
ومن التطبيقات التي قد تُشكّل نقلات تقنية ما يُعرف بـ الملاحة بالقصور الذاتي الكمي، وهي تقنية تتيح للغواصات والطائرات وحتى الصواريخ أن تتحرك بدقة عالية جدًا، حتى في الأماكن التي لا تصل إليها إشارات الأقمار الاصطناعية. هذه التقنية تعتمد على أجهزة استشعار كمومية شديدة الحساسية، مما يقلل نسبة الخطأ في تحديد المواقع إلى بضع مئات من الأمتار فقط.
خطر على المجتمع
مع الفرص الهائلة التي تفتحها الحوسبة الكمومية، فإنها تثير أيضًا مخاوفَ متزايدةً من استخدامها في أغراض غير أخلاقية قد تهدد المجتمعات والأفراد على حد سواء.
على سبيل المثال، قد تُستخدم هذه التكنولوجيا مستقبلًا إلى جانب الذكاء الاصطناعي لتصنيع أنظمة قادرة على التلاعب بالمعلومات، كأن تُعدّل محتوى المقالات الإخبارية بعد نشرها في مواقع موثوقة دون أن يلحظ القراء ذلك. هذا النوع من التضليل يمكن أن يزعزع ثقة الجمهور في المصادر الموثوقة ويشوش الحقائق في الفضاء العام.
لا تتوقف المخاطر عند الإعلام والمعلومات، بل تمتد إلى سوق العمل. فمع تقدم هذه التقنية، من المحتمل أن تحل الحواسيب الكمومية محل عدد من الوظائف البشرية في قطاعات معينة مما قد يؤدي إلى موجة من "الإزاحة الوظيفية" ويزيد من معدلات الفقر والتفاوت الاجتماعي.
كلما تقدمت الحوسبة الكمومية خطوة إلى الأمام، ازدادت الحاجة إلى وعي أخلاقي وتشريعي يواكب هذا التقدم. فبدون أُطر قانونية واضحة تُنظم استخدام هذه التكنولوجيا وتمنع توظيفها في الإضرار بالمجتمعات أو انتهاك الحقوق، سنجد أنفسنا أمام واقع تصبح فيه المعرفة أداة قمع، وتتحول فيه البيانات إلى سلعة تُباع في الخفاء، وتُستخدم في بناء أدوات تمييز أو تحكم أو تدمير يصعب ردعها.
لا ينبغي ترك مستقبل هذه التكنولوجيا في يد السوق وحده، بل يجب أن يُدار ضمن رؤية إنسانية تحمي الحقوق وتضع حدودًا لما يمكن وما لا يمكن فعله باسم التقدم.