
الذكاء الاصطناعي.. متى ينهار بيت الورق؟
بين شتاءِ 2022 وصيفِ 2023 شهدت صناعة التكنولوجيا العالمية موجاتٍ متتاليةً من تسريح العاملين في المجالات التقنية، إذ فصلت كبرى شركات التكنولوجيا العالمية عشرات الآلاف من موظفيها، وسرعان ما لحقت بها شركات أخرى في مختلف أنحاء العالم، متبنيةً النهج ذاته تحت زعم "ترشيد النفقات".
رغم الذعر الذي ساد تلك الأوساط، كان هناك من احتفى بهذه الظاهرة، وأنا منهم. بالتأكيد لم يكن ذلك شماتةً في الموظفين المفصولين، لكنها بدتْ إشارةً إلى بداية أفول استراتيجية النمو المفرط/hypergrowth التي حكمت منطق بناء الشركات والمنتجات الجديدة لسنوات.
أرقام متضخمة وأرباح غائبة
تنبَني استراتيجية النمو المفرط على أساس التوسع السريع بأي ثمن، والسعي للهيمنة على أكبر شريحة ممكنة من السوق بغض النظر عن التكاليف.
إذا كان هناك خطر من ضياع وقتٍ جراء استقالة أحد المبرمجين في الفريق، تعمد الشركة إلى تعيين ثلاثة آخرين احتياطًا. وإذا ظهر منافسٌ يبيع المنتج ذاته، يُخفَّض السعر إلى النصف أو أقل. كل ذلك فقط من أجل الاستحواذ على المزيد من العملاء.
لكن هذه الاستراتيجية أدّت في النهاية إلى فاتورة ضخمة مقابل أرباح ضئيلة، ولا يحتاج المرء إلى دراسة الاقتصاد أو إدارة الأعمال ليعرف أن تفوّق المصروفات على الإيرادات يعني فشل أي مشروع وإفلاسه إلا إذا وجد من يتكفّل بالخسائر. وهنا تدخل شركات رأس المال المُخاطر/Venture Capital، التي لعبت دور المموِّل لسد هذه الفجوة.
تتحمل مؤسسات رأس المال المُخاطر جانب الخسائر إذا ما وثقت في قدرات الفريق المؤسس على الاستمرار. عندها تبدأ الشركة في التوسع إلى أقصى مدى، وتسعى إلى الاستحواذ على أكبر عدد ممكن من المستخدمين، وتعمل على إغراء موظفي الشركات المنافسة للانضمام إليها. وبناءً على تلك الأرقام المتضخمة، يضع الفريق المؤسس توقعات مستقبلية للأرباح.
هذه القصة عادة ما تنتهي لنهايتين لا ثالث لهما، إما أن تنجح الشركة بمعجزةٍ في تحقيق التوازن بين الإيرادات والمصروفات، وهو نادرًا ما يحدث، أو تطرح أسهمها للاكتتاب العام بحيث تسترد مؤسسة التمويل رأس المال مع أرباح إضافية.
هكذا نشأت بيوتٌ من ورق تعتمد كليًا على التمويل دون تفكير جاد في تحقيق الأرباح، وفرق عمل ضخمة لا تنتج سوى القليل، وجولات تمويلية بملايين الدولارات مقابل حصص صغيرة في الشركات، كل ذلك قائم على أمل غير مضمون بالنجاح في المستقبل.
لكن مع أول هزة في أسواق التمويل بعد جائحة كورونا، ومع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وجدت الشركات نفسها مضطرة لمراجعة مسارها عبر خفض النفقات ومحاولة البحث عن الربحية.
وحين بدأت موجة التصحيح في صورة الإقالات الجماعية، رأيتُ مع كثيرين غيري بارقةَ أمل في أن هذا النمط غير المستدام في بناء الشركات يتلاشى. بالفعل، غيّرت مؤسسات رأس المال المخاطر كثيرًا من خطابها، وبات يركز على الربحية أولًا بدلًا من الهوس بالنمو بأي ثمن.
بيت ورق جديد بتكلفة أعلى
ما إن انقشع غبار المعركة حتى ظهر في الأفق بيت ورق جديد، أكبر حجمًا وأكثر بريقًا، وفي الوقت ذاته أشد هشاشة، إنه الذكاء الاصطناعي التوليدي. جميع الشركات التي برزت في هذا المجال خلال العامين الأخيرين مثل OpenAI وMidjourney تُعَدُّ تجسيدًا حيًا لاستراتيجية "النمو المفرط" لكن على نطاق لم يسبق له مثيل.
الاختلاف الجوهري هذه المرة أن فاتورة الخسائر لا تقتصر على رواتب إضافية أو حملات تسويقية باهظة، بل تتضمن بندًا جديدًا أشد وطأة هو التكلفة التشغيلية لكل طلب يقدمه المستخدم. ذلك لأن كل سؤال يُطرح على ChatGPT، وكل صورة تُولّد عبر DALL-E، تترجم مباشرةً إلى تكلفة حقيقية وفورية للشركة في صورة استهلاك طاقة ومعالجة على رقائق إلكترونية باهظة الثمن.
نحن الآن في شهر عسل الذكاء الاصطناعي، إذ تتكفل رؤوس الأموال المخاطرة بهذه الفاتورة الهائلة؛ بينما ندفع نحن اشتراكًا رمزيًا قياسًا على التكلفة الفعلية، تتحمل الشركات ما يصل إلى مئات الدولارات لكل مستخدم نشط.
هذا الوضع غير المستدام إطلاقًا يعيد إنتاج الوصفة القديمة ذاتها؛ الاستحواذ على أكبر عدد ممكن من المستخدمين وجمع بياناتهم وتعويدهم على الخدمة في انتظار لحظة الحقيقة.
كما هو معتاد، يراوغ المؤسسون عند طرح الأسئلة المتعلقة بالتكلفة الحقيقية بفرص الاستمرارية، وبقدرتهم على مواجهة المنافسة؛ عند سؤال سام ألتمان مؤسس OpenAI وأحد أبرز وجوه هذه الموجة الجديدة عن تكلفة الطاقة اللازمة لتشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، جاء رده بعيدًا عن الواقع، إذ انطلق في حديث فلسفي عن "الاندماج النووي" باعتباره مصدر طاقة لا متناهيًّا وصديقًا للبيئة. كأن الوصول إلى هذا الحلم ممكن ببساطة متجاهلًا أن سوق الطاقة الحالي الذي أشعل عشرات الحروب وأسقط دولًا وأقام أخرى لن يستسلم بهذه السهولة من أجل عيون البشرية.
عندما تصل الفاتورة الحقيقية
في لحظة الحقيقة الحتمية، التي ستأتي عاجلًا أو آجلًا، سيتوقف تدفق أموال المستثمرين، وستُجبر هذه الشركات على وضع خريطة طريق واضحة نحو الربحية. حينها سيحدث تغييرٌ جذريٌّ في علاقتنا بأدوات الذكاء الاصطناعي.
ستنتهي الاشتراكات الرمزية (نسبيًا) ذات الاستخدام "غير المحدود"، لتُسعّر الخدمات بناءً على الاستهلاك الفعلي، تمامًا كفاتورة الكهرباء أو بيانات الهاتف. وسيضطر المستخدم عندها إلى التفكير مرتين قبل أن يطلب من الذكاء الاصطناعي كتابة رسالة بسيطة أو توليد صورة عابرة، لأن لكل طلب تكلفة ملموسة. وسيتحول الذكاء الاصطناعي من أداة تسلية متاحة للجميع إلى أداة إنتاجية عالية التكلفة لا يُلجأ إليها إلا عند الضرورة.
وفي الوقت ذاته سيظهر أثر آخر لا يقل خطورةً، وهو اتساع الفجوة الرقمية. فالأفراد والشركات الصغيرة الذين يبنون أعمالهم حاليًا على هذه الأدوات الرخيصة سيكونون أول الخاسرين.
ومع تضاعف أسعار الوصول إلى النماذج القوية، لن يصمد إلا اللاعبون الكبار القادرون على دمجها في عملياتهم وتحقيق عائد واضح منها. وهكذا يتشكل انقسام رقمي جديد، ليس بين من يملكون الإنترنت ومن لا يملكونه، بل بين من يستطيعون دفع تكلفة الذكاء الاصطناعي المتقدم ومن يكتفون بنسخ محدودة أو لا يكون لديهم وصول على الإطلاق.
انهيار بيت ورق الذكاء الاصطناعي لن يتجسد في تسريحات جماعية، إنما في صورة "صدمة سعرية" تعيد صياغة فهمنا لهذه التقنية. سيتلاشى وهجها كسحر متاح للجميع، لتصبح موردًا صناعيًا مكلفًا متركزًا في أيدي القادرين على دفع فاتورته الحقيقية.
السؤال ليس "هل" سيحدث ذلك أم لا، بل "متى" سنستقبل أول إشعار دفع حقيقي في بريدنا الإلكتروني؟
حتى يحين ذلك، جدير بنا أن نعيد النظر في قراراتنا الشخصية المتعلقة بعملنا وما نخطط لتعلمه في المستقبل القريب، لأن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي خصوصًا في الجنوب العالمي لن يبقى كما هو في هذه الفترة القصيرة من "شهر العسل".