لم تمر ساعات على إعلان إيلون ماسك، مالك تويتر الجديد، قرار إتاحة "العلامة الزرقاء" التي كانت تُمنح في السابق للحسابات الموثقة/ verified، لكل من يدفع 8 دولارات شهريًا، حتى كانت شركة Eli Lilly الأمريكية للأدوية تفقد 15 مليار دولار من قيمتها السوقية، بعد أن غرّد حساب مزيف يحمل اسمها إلى جانب علامة التوثيق "نحن متحمسون للإعلان عن أن الإنسولين مجاني الآن".
حققت التغريدة المزيفة، التي نفت الشركة صلتها بها لاحقًا، أكثر من 1500 ريتويت و11000 إعجاب في ساعات قليلة. وبطبيعة الحال، صدّقها المستخدمون كونها صادرة عن حساب موثق بالعلامة الزرقاء، التي تُعدُّ الإشارة الأبرز للتحقق من أصلية الحسابات.
وتزامن انتشار التغريدة على نطاق واسع حول العالم، مع هبوط سهم الشركة إلى 352.30 دولار يوم الجمعة 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مقابل 368.36 دولار اليوم السابق، لتنخفض القيمة السوقية للشركة بأكثر من 15 مليار دولار.
لم تكن Eli Lilly الضحية الوحيدة بحسب تقرير نشرته cbsnews، فقد اشترى حساب مزيف يحمل اسم لاعب السلة الأمريكي ليبرون جيمس علامة التحقق، ونشر أخبارًا مزيفة. كذلك، نشر حساب مزيف يحمل اسم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش الذي اتخذ قرار غزو العراق عام 2003، تغريدة جاء فيها أنه "فاته قتل العراقيين".
إيلون ماسك، الذي تم تحذيره مسبقًا من خطوة بيع علامة التوثيق الزرقاء، رد أنه بصدد تعليق حسابات المستخدمين الذين يستخدمون هويات مزيفة. لكن هل تلك الخطوة كافية لتهدئة المخاوف من سيطرة أغنى رجل في العالم على تويتر؟ وكيف سيتغير شكل العالم بعد استحواذه على الشبكة الاجتماعية الشهيرة؟ وكيف حدث هذا؟
شركة صغيرة وتأثير كبير
مقارنة بباقي منصات السوشيال ميديا، لا تعد تويتر أكثر من شركة صغيرة؛ فهي لا تحقق أرباحًا مستدامة ولديها ديون تقدر بأكثر من 13 مليار دولار، ولا تضم أكثر من 250 مليون حساب نشط أي أقل من نصف حسابات إنستجرام التي تقدر بـ700 مليون، بينما تبلغ قاعدة مستخدمي موقع مثل فيسبوك أكثر من ملياري شخص حول العالم، ولا يستخدمه أكثر من ربع الأمريكيين، وفقًا لاستطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث.
فما الذي أغرى ماسك إذن ليستحوذ على تويتر؟
بحسب تقارير لكل من CNBC الأمريكية وفوربس، فالإجابة هي التأثير لا الأموال.
مع استحواذ ماسك على تويتر، أصبح أغنى شخص في العالم يمتلك لسان حالٍ شخصيٍّ ناطق باسمه؛ المنصة الأكثر فاعلية من منافذ الإعلام التقليدية في التأثير على الرأي العام. يكرّر ويذكّر ماسك بما فعله أباطرة الإعلام من قبله مثل روبرت مردوخ، الذي استخدم قناة فوكس في عصر قنوات الكابل لإعادة تشكيل سياسة اليمين في العالم.
فرغم أن قاعدة مستخدمي تويتر قليلة إذا ما قورنت بباقي المنصات، فإنها تشكل السياسيين ووسائل الإعلام العالمية وقادة الرأي والمشاهير، ما يجعله مصدرًا هامًا للمعلومات والتأثير وتشكيل الخطاب العام.
بالتأكيد تشغيل الأعمال بكفاءة أكبر وتحسين التدفق النقدي يعد أمرًا مهمًا لاستمرار تويتر، لكن كما قال مارك زوكربيرج في عام 2012، فإن كسب المال ليس غايةً في حد ذاته، بل وسيلة لتحقيق غاية. لذا لن تمثل أعباء تويتر المالية أو الربح منه مشكلة كبيرة لرجل تجاوزت ثروته 200 مليار دولار.
ما قبل الاستحواذ
في بداية إنشاء ماسك لشركتيه تسلا وسبيس إكس، استحوذ على اهتمام وسائل الإعلام، وصار محط أنظار المجلات والصحف والمقابلات التليفزيونية والكتب التي ساعدت في بناء صورته كرائد أعمال في مجال التكنولوجيا النظيفة والفضاء. لكنه شعر بالإحباط من انتقاده في التغطيات الإخبارية خلال السنوات الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بتسلا، فوصف وسائل الإعلام بأنها متحيزة وغير دقيقة.
ومع مرور الوقت، أدرك ماسك أن تويتر بإمكانه أن يصبح وسيلة مجانية للإعلان شركاته والترويج لها وجمع الملايين، فنشر مقاطع فيديو براقة لهبوط صاروخ مزدوج، وباع عبر المنصة قاذفات اللهب والعطور والتيكيلا، وكثيرًا ما تباهى بأن تسلا لا تنفق على الإعلانات التقليدية.
يستخدم ماسك تويتر أيضًا بشكل روتيني لانتقاد القصص الإخبارية التي لا تروق له حول تسلا، ويحظر المراسلين التابعين لوسائل الإعلام الرئيسية التي لا يفضلها، ويجرب يده في السياسة الخارجية المستقلة، كما استخدمه في الهجوم على منتقديه وبناء قاعدة هائلة من المعجبين تخطت 114 مليون متابع، بل امتد ذلك التأثير إلى أسعار العملات المشفرة.
لم يقتصر الأمر على الإعلانات وحظر المراسلين وانتقاد الإعلام، بل امتد إلى أفعال تتجاوز خط ما هو قانوني، فقد اتهمته لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية SEC بالاحتيال بسبب تغريدة في عام 2018، قال فيها إنه تمكن من الحصول على تمويل من المستثمرين لتحويل شركته للسيارات الكهربائية إلى شركة خاصة بسعر 420 دولارًا للسهم، وأوقف التداول على أسهم الشركة قبل أن تتعرض الأسهم لتقلبات شديدة لأسابيع، وأجبر على دفع 20 مليون دولار كتسوية.
لذا يعتبر استحواذ ماسك على تويتر من بعض النواحي امتدادًا منطقيًا لهوسه بإعادة تغيير شكل العالم ورغبته في السيطرة على صورته ومحاربة منتقديه.
من خلال امتلاكه لتويتر سيتمكن ماسك من الوصول إلى ما هو أبعد من قاعدته الجماهيرية، بل سيصبح قادرًا على وضع الأسس التي تؤثر على تدفق المعلومات.
عودة ترامب
القلق بين دعاة حرية التعبير لا يدور فقط حول ما إذا كان ماسك سيحول تويتر إلى ذراع لشركاته، بل يمتد للتساؤل عمّا إذا كان سيستخدمه لإسكات الأصوات الناقدة التي لا يتفق معها، ومنح مساحات أوسع لتلك التي يفضلها.
بالطبع مسألة حرية التعبير على المنصات أمر معقد، لكنَّ السؤال هو ما الذي يعنيه ذلك لماسك الذي ردد بعض شكاوى اليمين من قمع تويتر لأفكارهم ومنشوراتهم، قائلًا على نحو متكرر إن تويتر يجب أن يكون محايدًا سياسيًا. وقال إنه سيلغي الحظر الدائم المفروض على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، معتبرًا أن حظر ترامب على تويتر بعد أعمال الشغب في 6 يناير 2021 كان "خطأً"، وهو ما أسعد ترامب "بأن تويتر أصبح الآن في يدٍ عاقلة بدلًا من حفنة اليساريين الراديكاليين المهووسين والمجانين".
حرية التعبير ومصالح الديكتاتوريات
مصدر قلق آخر للمدافعين عن حرية التعبير هو تأثير الحكومات الأجنبية المناهضة للديمقراطية ولحرية التعبير على تويتر، خاصة وأن ارتباط ماسك بمصالح مع ديكتاتوريات الشرق الأوسط يثير الكثير من المخاوف.
الأمير السعودي ورجل الأعمال الوليد بن طلال دعم صفقة شراء تويتر بمبلغ 1.9 مليار دولار، وهو الآن ثاني أكبر مستثمر في تويتر. كما استثمر فيه صندوق قطر للاستثمارات 375 مليون دولار.
ماسك، الذي يحتاج إلى كميات هائلة من المواد الخام لبطاريات تسلا، بما في ذلك النيكل الروسي، تعرض لانتقادات الشهر الماضي عندما اقترح عبر تويتر خطة سلام لإنهاء حرب بوتين على أوكرانيا، اتسمت بنبرة صديقة للكرملين بشكل ملحوظ.
واقترح ماسك، إجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة في أربع مناطق محتلة، تحركت موسكو في الماضي لضمها.
ويتساءل العديد من المراقبين عما إذا كانت الصين، التي تحظر تويتر حاليًا، ستكون قادرة على السيطرة عليه من خلال تقليل الانتقادات لسياساتها، بما في ذلك معاملتها الأيجور، أو قمع المحتوى المؤيد لتايوان. هذا لأن الصين هي أكبر مصدر ربح لشركة تسلا، صانع السيارات الأجنبي الوحيد في البلاد الذي يُسمح له بامتلاك مصنعه وتشغيله بالكامل هناك، دون الاضطرار إلى العمل مع شريك صيني محلي.
يريد ماسك بيع ملايين سيارات تسلا في جميع أنحاء العالم، في الصين وروسيا والبرازيل وتركيا والهند، وتلك الحكومات جميعها لديها آراء قوية حول نوع الخطاب الذي ينبغي أو لا ينبغي نشره على تويتر.
وهناك أيضًا تساؤلات حول السياسة الداخلية للولايات المتحدة. بينما لم يعرب ماسك عن أي طموح سياسي شخصي، قال مؤخرًا إنه بات يعرف أكثر عن كونه جمهوريًا، وينوي التصويت للجمهوريين.
العلامة الزرقاء للجميع
هناك خطوة أخرى مقلقة مع تبلور خطة ماسك لتغيير الطريقة التي يمنح بها الموقع علامة التوثيق الزرقاء للشخصيات العامة الذين تم التحقق من هوياتهم. فغالبًا ما يتم توفيرها للمشاهير والسياسيين، وهو ما يسميه ماسك "نظام اللوردات والفلاحين".
لكن وصف ماسك العلامة الزرقاء بالطبقية، يتجاهل أنها وسيلة تمنح مصداقية للقصص الصحفية التي ينشرها صحفيون عبر حساباتهم أو حسابات المؤسسات التي يعملون لحسابها، وتمنح المستخدمين وسيلة يمكنهم من خلالها التمييز بين الأخبار الموثوقة وتلك المشكوك في مصداقيتها.
ترى إيما لانسو، مديرة مشروع حرية التعبير فى مركز الديمقراطية والتكنولوجيا، أنه "إذا كان بإمكان أي شخص يريد العلامة الزرقاء الحصول عليها طالما لديه استعداد للدفع، بما في ذلك الذين ينشرون معلومات مضللة، فسيخلق ذلك ارتباكا للأشخاص الذين يأتون إلى تويتر للحصول على الأخبار والمعلومات، ويرون محتوىً يبدو موثوقًا، لأن شخصًا ما دفع مقابل هذه العلامة".
على المدى الطويل، فإن سياسة الاعتدال المرن التي يرغب تويتر إيلون ماسك في اتباعها، قد تطمس الخطوط الفاصلة بين الصواب والخطأ، ليتحول إلى مجرد مكان آخر يبث الناس فيه وجهات نظر متنافسة حول الواقع، ويحرضون حشودًا من المعارضين، سواء لترويج أو تشويه أي حقائق أو قصص لا يحبونها، فيصبح كل ما يكتب متساويًا في الأهمية مع ترك المستخدم ليقرر ما هو صحيح، ويصعب التمييز بين التسويق والصحافة والدعاية.