صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
رجل قَلِق أمام هاتف يرمز لهيمنة المنصات الرقمية.

التبعية للمنصات الرقمية.. لماذا نستمر في الخضوع لما يستغلنا؟

منشور الأحد 14 أيلول/سبتمبر 2025

يبدو الاستمرارُ في استخدام السوشيال ميديا رغم معرفتنا بمدى استغلالها لنا خيارًا فرديًّا بسيطًا، يتمثل في فتح التطبيق أو غلقه؛ الاستمرار في التصفح، أو مقاطعته والانتقال إلى منصة أخرى.

خلف هذا المظهر الفردي تكمن أبعاد أوسع ترتبط بطبيعة الاستغلال الكامنة في هذه المنصات التي لم تعد مجرد أدوات للتسلية وإنما أصبحت جزءًا من قوى الإنتاج وعلاقاته التي يقوم عليها التواصل والعمل والتضامن والمعرفة في حياتنا اليومية.

في وضع كهذا لا يكون الوعي الفردي باستغلال منصات السوشيال ميديا كافيًا لإحداث التغيير. فالمسألة لا تتوقف عند حدود إدراك الأفراد، لأن ذلك لا يغيّر الشروط المادية التي نعيش داخلها؛ أي الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مثل ملكية وسائل الإنتاج والبنية التحتية الرقمية والقوانين المنظمة التي لا يسيطر عليها الأفراد تمامًا.

بنيةٌ تحتيةٌ مُحتكرة

لأن الوعي الفردي محدودُ الأثر في مواجهة الشروط المادية، تبرز الحاجة إلى توسيع النظر لفهم طبيعة هذه الشروط، مع العمل على تحويل هذا الوعي إلى فعل جماعي يفتح أفقًا لمستقبل مختلف، لا سيما فيما يتعلق باحتكار المنصات كأحد الملامح المركزية للرأسمالية في طورها الرقمي.

يمثّل بُعد الاحتكار مفتاحًا لفهم السؤال الأساسي؛ لماذا نستمر في استخدام المنصات رغم وعينا باستغلالها؟ فالاحتكار حوّل هذه المنصات من مجرد أدوات تقنية إلى بنى تحتية اجتماعية يصعب الاستغناء عنها، إذ ترتبط بها فرص العمل والعلاقات الاجتماعية وأشكال التضامن وتدفق المعرفة والمعلومات.

كما أن المنصات لا تكتفي بتقديم خدمة نلجأ إليها عند الحاجة، بل تفرض إيقاعًا يوميًا على حياتنا وتنظم زمننا وانتباهنا. فهي تحدد متى ننتبه وكيف نوزع وقتنا، وتلعب دور حلقة الوصل بيننا وبين أساسيات الحياة مثل العلاقات الاجتماعية وفرص التوظيف والتواصل والتغذي بالأخبار، فالانسحاب منها يعني خسارة إشعارات فرص العمل ودعوات المقابلات وإدارة السمعة المهنية.

يتجاوز الأمر ذلك إلى تعطّل المعاملات الحكومية والمصرفية، حتى فقدان مواعيد الرعاية الصحية أو برامج الدعم والإغاثة في الأزمات، فضلًا عن غياب الأخبار والتواصل مع الأصدقاء والعائلة. وهكذا يصبح الاستمرار في استخدامها، رغم الوعي باستغلالها، ضرورة اجتماعية يصعب تجاوزها.

يمكننا القول إن السوشيال ميديا باتت تؤدي أدوارًا كانت تقليديًا ضمن نطاق المرافق العامة أو التنظيم العام، مثل تنظيم الوصول إلى فرص العمل، ترتيب المعرفة وتداول الأخبار، الوساطة في الخدمات التعليمية والمالية والحكومية، وتنسيق الاستجابة في أوقات الأزمات. بهذا المعنى تُعاد مركزة وظائف اجتماعية حساسة داخل كيانات خاصة عابرة للحدود.

كيف تُحكِم المنصات قبضتها؟

تجعل الإشعارات المتكررة وخوارزميات التوصية والتغذية اللانهائية الفرد في حالة حضور دائم وتراكمٍ وتبعية مستمرة للمنصة. يحدث ذلك عبر تصميمٍ يعزز اعتماديتنا على المنصات، مثل تحكمها في انتشار المحتوى بين المستخدمين، إذ تمنح الفرصة للمحتوى المدفوع (الإعلانات) على حساب المحتوى غير المدفوع، إضافة إلى حرمان المستخدم من جمع ونقل رصيده من شبكة العلاقات الذي راكمه على مدى سنوات في حال قرر الانتقال من منصة إلى أخرى، لتجبره على البقاء خشيةَ أن يخسر مكانته.

لا تكتفي الشركات الكبرى بالسيطرة على مستخدميها الحاليين، إنما تعزز قوتها بشراء المنصات الصاعدة التي قد تنافسها، مثل استحواذ فيسبوك (ميتا حاليًا) على إنستجرام وواتساب، وهو ما يلغي المنافسة ويجعل كل الجمهور والبيانات في يد كيان واحد.

وقد تلجأ هذه الشركات إلى ما يُعرف بالتكامل العمودي، أي السيطرة على طبقات مختلفة من الخدمة في منظومة واحدة، كما تفعل جوجل حين تجمع بين نظام التشغيل (Android)، ومتصفح الويب (Chrome)، ومتجر التطبيقات (Google Play).

أو تعتمد أيضًا على التكامل الأفقي، بامتلاك خدمات متشابهة وموازية تحت المظلّة نفسها، مثل مايكروسوفت التي تجمع بين منصات المحادثة (Teams) والشبكات المهنية (LinkedIn) وخدمات التخزين السحابي (OneDrive) في إطار واحد.

هذه الاستراتيجيات تجعل الخروج من المنصة أصعب بكثير، لأن المستخدم يجد نفسه محاطًا بخدمات متشابكة لا يمكن الاستغناء عن إحداها دون أن يخسر عمله أو جمهوره أو بياناته. وهنا يتجلى التناقض بين الطابع الاجتماعي المتعاظم للمنصات والطابع الخاص والاحتكاري لملكيتها.

التعايش تجسيدًا للتناقض

التعايش مع المنصات الرقمية إذن هو انعكاس مباشر لوضع تاريخي تتقاطع فيه الحاجة الاجتماعية العامة مع الملكية الاحتكارية الخاصة. إذ يفرض هذا الوضع على الأفراد أن يعيشوا داخل علاقة مزدوجة. فمن ناحية، توفر لهم المنصات أدوات أساسية للتواصل والعمل والمعرفة، ومن ناحية أخرى تتحول مشاركتهم ذاتها إلى مصدر لا ينضب لتراكم الأرباح الرأسمالية والاحتكار.

في هذه العلاقة المزدوجة يتجلى الصراع بشكل غير معلن. فكل فعل من أفعال الحضور الرقمي، مهما بدا عاديًا، يغذي قدرة المنصات على التوسع والتراكم، لكنه على الجانب الآخر يتيح للأفراد مساحات للتواصل وتبادل المعرفة وبناء الروابط الاجتماعية التي يمكن أن تتطور إلى أشكال أولية من التنظيم الذي يؤسس لشكل جديد من العلاقة بين المنصات والأفراد أكثر إنصافًا وتشاركيةً.

بهذا المعنى، لا يظهر التعايش كاستسلامٍ للأمر الواقع، إنما حالة انتقالية تكشف عمق التناقض بين الوظيفة الاجتماعية المتعاظمة لهذه البنى واحتكار ملكيتها الخاصة؛ فالأفراد يجدون أنفسهم مضطرين للاندماج في فضاء رقمي أصبح شرطًا أساسيًا للحياة الاقتصادية والاجتماعية، تمامًا كما ارتبط العمال في الماضي بالمصانع بوصفها مصدرًا للبقاء.

كسر دائرة الاحتكار يتطلب إيجاد آليات لنقل المحتوى والهوية والعلاقات بين المنصات تمنع خسائر  التحول من منصة إلى أخرى

غير أن المصنع هنا لم يعد جدرانًا وآلاتٍ، وبات شبكةً من الخوارزميات والخدمات المترابطة التي تحدد إيقاع الزمن والانتباه وتنظم تفاصيل الحياة اليومية.

بالتالي، فتجاوز هذا التناقض لا يتم إلا عبر عملية واضحة تعيد تعريف من يملك هذه البنى ومن يقرر مسارها، أي عبر صراع اجتماعي وسياسي يجعل مسألة الملكية والرقابة الديمقراطية في قلب المواجهة. في هذا الإطار، لا يكون التعايش محطة نهائية، إنما مرحلة انتقالية تكشف أن شروط الصراع نضجت بما يكفي لفتح الطريق أمام احتمالات مختلفة للمستقبل.

البدائل وشروط القوة

التحولات الكبرى لم تكن يومًا ثمرة وعي فردي معزول، إنما نتاج لحظات من الانفجار الاجتماعي والسياسي، وانهيار أنظمة، وتحولات تكنولوجية واسعة غيّرت موازين القوى. هذه اللحظات التاريخية تكشف أن الوعي لا يتحول إلى قوة مؤثرة إلا حين يقترن بعمل جماعي منظم يمتلك الموارد والأدوات القادرة على تحويل المبادرة الفردية إلى فعل عام ملموس.

في هذا السياق، تبدو البدائل اللامركزية مثل المنصات مفتوحة المصدر أو الشبكات الاجتماعية الموزعة بذورًا لمستقبل مختلف، إذ تفتح مساحات للتجريب وتتيح اختبار أشكال جديدة من التنظيم خارج هيمنة المنصات الاحتكارية، وتمنح المستخدمين فرصةَ تخيّل إمكانات لا تخضع تمامًا لقوانين السوق والملكية الخاصة.

غير أن هذه المبادرات لا تزال محدودة، لأنها مقيدة بعلاقات الإنتاج السائدة وتأثيرات الشبكة التي تعطي الأفضلية للمنصات الكبرى، وهو ما يتركها عاجزة عن التحول إلى خيار جماعي واسع وقابل للاستمرار.

ولكي تخرج هذه المبادرات من حدود الفعل الفردي المتفرق، فإنها تحتاج إلى ضغط جماعي منظم قادر على إعادة تشكيل البنية الرقمية على أساس ملكية اجتماعية ديمقراطية تخضع لرقابة عامة. ويتطلب ذلك تأسيس بدائل تنشأ من أسفل عبر المبادرات الشعبية والمشاعات الرقمية، بحيث تُرسّخ نماذج أكثر عدلًا واستدامةً.

تحتاج الحلول الجذرية كذلك إلى توافر بنية تحتية تقنية موثوقة تضمن الصمود أمام الضغوط والتوسع مع ازدياد الطلب، وآليات لنقل المحتوى والهوية والعلاقات بين المنصات تمنع خسائر الانتقال الاجتماعي عند التحول من منصة إلى أخرى.

إلى جانب ذلك، يصبح التشغيل البيني مع المنصات الأخرى شرطًا لتقليل الاعتماد على طرف واحد، فيما يوفر الأمن الرقمي والدعم القانوني شبكةَ حماية أساسية للمستخدمين والبنية معًا.

ولا يكتمل هذا المشروع من دون نضال سياسي يربط الحقوق الرقمية بالصراع الطبقي، ويستند إلى برنامج انتقالي يجمع بين المطالب المباشرة، مثل ضمان الخصوصية والشفافية وقابلية نقل البيانات وإنهاء الاحتكار، وبين التحويل الأعمق لعلاقات الملكية والعمل.