
إنترنت الناس.. الشبكات المجتمعية بديلًا لشركات الاتصالات
صار الوجود الرقمي امتدادًا للوجود الإنساني، ومن يُحرَم منه يُدفع إلى هامش العالم. ومع ذلك، لا يزال نحو ثلث سكان الكوكب محرومين من الاتصال بالإنترنت وفقًا لتقديرات الاتحاد الدولي للاتصالات. وتتركز النسبة الأكبر من هؤلاء في المناطق الريفية والنائية، حيث تعزف شركات الاتصالات عن الاستثمار نتيجة ضعف العوائد المتوقعة، لأن من يملك الشبكة لا يرى فيهم أصحاب حق، بل "عملاء" يُقاس حضورهم بقدرتهم على الدفع.
لكن لأن المبادرات تُولد من قلب الحاجة؛ نشأت مبادرات لا ترى في الإنترنت سلعة، بل حق جماعي يجب أن يتاح للجميع بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو القدرة الشرائية.
مَن تُركوا خلف الشبكة
في هذا السياق، برزت الشبكات المجتمعية فائقة السرعة، وهي شبكات اتصالات محلية ينشئها السكان بأنفسهم ويمتلكونها ويديرونها بصورة تعاونية لتوفير الإنترنت بصورة تشاركية ومفتوحة بعيدًا عن منطق الربح والاحتكار، بما يضمن عدالة الوصول والاستخدام. وتقوم هذه الشبكات على مبدأ أن الاتصال الرقمي حق جماعي يمكن امتلاك بنيته التحتية وإدارته بشكل ديمقراطي من قبل المستخدمين أنفسهم.
مثّلت هذه الشبكات نموذجًا لـ"إنترنت من الناس وللناس"، حيث يشترك السكان في مد الكابلات وتركيب الهوائيات واستضافة نقاط التوصيل. ويمتلك المستخدمون حصة في الشبكة ويتقاسمون مسؤوليات إدارتها وتمويلها. ويرتبط نجاح هذه التجرية بقدرة المجتمعات على الانفتاح على الجميع والحياد والشفافية في صنع القرار.
اللافت أن الحاجة إلى هذا النوع من الشبكات لم تقتصر على المناطق المهمشة، فحتى في قلب المدن الكبرى يعاني كثيرون من رداءة الخدمة أو غلاء الأسعار، كما هو الحال في نيويورك، إذ دفع الاحتكار المجتمعات المحلية إلى إنشاء مشروع NYC Mesh، وهو بديل حضري يمنح السكان وسيلة اتصال أكثر عدلًا واستقلالية.
لكن المسألة لا تتعلق فقط بتوفير الخدمة، فالشبكات المجتمعية تمثّل فعلًا سياسيًا في وجه هيمنة الشركات الكبرى التي تمنح سلطة مراقبة المحتوى وتقييده وفرض شروط مجحفة على المستخدمين.
كيف تصنع المجتمعات بنيتها التحتية؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن بناء شبكة إنترنت يتطلب استثمارات ضخمة وخبرات تقنية معقدة، لكنَّ تجاربَ من أنحاء العالم تُظهر أن المجتمعات المحلية قادرة، في ظروف معينة، على إنشاء شبكات اتصال منخفضة التكلفة نسبيًا.
صحيح أن هذه المبادرات تتطلب تنظيمًا ومعرفة تقنية، وربما أيضًا تراخيص قانونية، إلا أن انتشار المعدات زهيدة الثمن وانخفاض أسعار بعض مكونات البنية التحتية فتحا المجال أمام نماذج ناجحة لشبكات محلّية صغيرة أو متوسطة الحجم. وغالبًا ما تعتمد هذه الشبكات على أحد نموذجين تقنيين رئيسيين أو مزيج بينهما، وهما: الشبكات اللاسلكية المتشابكة/Wireless Mesh Networks وشبكات الألياف إلى المنزل/FTTH.
في القرى والمناطق السكنية متوسطة الكثافة، كثيرًا ما تُستخدم تقنية الشبكات اللاسلكية المتشابكة؛ فكرتها بسيطة وفعّالة، تُركّب أجهزة صغيرة تُشبه الراوتر (جهاز توزيع الإنترنت) على أسطح المنازل أو المباني، تكون هذه الأجهزة قادرةً على التواصل مع بعضها البعض، فكل جهاز لا يوزع الإنترنت فقط، بل يمكنه أيضًا تمرير البيانات بين الأجهزة الأخرى.
يعني هذا أن الشبكة تتوسع بسهولة كلما انضم إليها مزيدٌ من الناس، وتبقى قوية حتى إذا تعطل أحد الأجهزة، لأنه يمكن للبيانات أن تسلك طريقًا آخر تلقائيًا دون انقطاع الخدمة.
من أبرز الأمثلة على هذا النوع من الشبكات مبادرة Freifunk في ألمانيا، التي تعتمد على برمجيات حرة ومجانية مثل OpenWRT. هذه البرمجيات تتيح للسكان تعديل الشبكة حسب احتياجاتهم وتطويرها بأنفسهم دون الاعتماد على شركات الاتصالات التقليدية.
ورغم أن هذه التقنية مناسبة للكثير من المناطق، فإنها قد تواجه صعوبات في المدن المزدحمة أو ذات الأبنية العالية، حيث قد تتأثر جودة الإشارة. لذلك يُفضّل أحيانًا دمجها مع تقنيات أخرى لتحسين الأداء وضمان الاستقرار.
وفي بعض المناطق، خصوصًا داخل المدن أو بين تجمعات سكنية متفرقة، تُستخدم هوائيات بعيدة المدى/Long-range directional antennas لربط المباني أو الأحياء ببعضها، فيما يُعرف أحيانًا باسم العُقد المركزية/Supernodes. هذه النقاط تُثبّت غالبًا على الأسطح المرتفعة، وتعمل روابط أساسية تنقل الإشارة لمسافات أطول.
داخل الحي نفسه، تُستخدم أجهزة أصغر لتوزيع الاتصال على المنازل، كما هو الحال في مشروع NYC Mesh في نيويورك. هناك، تُثبّت الهوائيات على الأسطح وتتصل بعقدة مركزية، ومن ثم يُمدّ كابل إلى داخل المبنى لتوفير خدمة الإنترنت دون الحاجة إلى حفر الشوارع أو الاعتماد على البنية التحتية التقليدية. وعند الحاجة إلى الاتصال بالإنترنت العالمي، يتم توصيل إحدى نقاط الشبكة بخط ألياف ضوئية عالي السرعة أو عبر اشتراك جماعي يربط المجتمع بالشبكة العالمية.
أما في المناطق الريفية أو المجتمعات التي تحتاج إلى اتصال أكثر استقرارًا وسرعةً، فيُفضّل استخدام نموذج شبكات الألياف الضوئية المجتمعية، حيث تُمدّ الكابلات مباشرةً من نقطة مركزية إلى المنازل، وهو ما يُعرف تقنيًا باسم الألياف إلى المنزل.
بناء البنية التحتية الرقمية لم يعد حكرًا على الشركات الكبرى إذا توفرت الإرادة المجتمعية والمعرفة التقنية والأدوات
صحيح أن هذا النموذج يتطلب جهدًا ميدانيًا أكبر، مثل الحفر ومدّ الكابلات، لكنه يوفّر أداءً أعلى بكثير من الشبكات اللاسلكية، ويوفّر سرعات متناظرة عالية (تحميل/رفع) دون تدهور في الجودة.
في كثير من الحالات، يتعاون السكان لحفر الخنادق ومدّ الكابلات بأنفسهم، مستخدمين أدوات بسيطة أو معدات زراعية صغيرة، مما يقلل من التكاليف ويعزز روح التعاون، وتُعد تجربة B4RN في بريطانيا من أمثلة نجاح بناء شبكات اتصال متقدمة بتقنية الألياف إلى المنزل.
في هذا المشروع، مد السكان مئات الكيلومترات من كابلات الألياف الضوئية تحت الأرض لربط عشرات القرى الصغيرة في شمال إنجلترا، وبدلًا من استخدام صناديق توزيع تقليدية في الشوارع، وُصّلت الكابلات مباشرة إلى داخل المنازل، ما أتاح سرعات عالية جدًا دون فقدان في الأداء، حتى في المناطق النائية.
ولعب أصحاب الأراضي والمزارعون دورًا أساسيًا في بناء الشبكة، سواء بالسماح بمرور الكابلات مجانًا عبر أراضيهم أو بالمشاركة الفعلية في الحفر والتركيب، باستخدام معدات بسيطة في كثير من الأحيان.
ما تُظهره هذه التجربة أن تأسيس البنية التحتية الرقمية لم يعد حكرًا على الشركات الكبرى، فحين تتوفر الإرادة المجتمعية والمعرفة التقنية والأدوات المناسبة، تستطيع المجتمعات أن تُنشئ شبكاتها المستقلة، وتتحكّم في خدمات الاتصال الخاصة بها، وتُعيد امتلاك سيادتها الرقمية من الجذور.
عندما يتحوّل بناء الشبكة إلى فعل سياسي
في عالم تُدار بنيته التحتية الرقمية من الأعلى؛ عبر كوابل بحرية تتحكم بها احتكارات عابرة للحدود، وخوارزميات مغلقة تُصاغ في مراكز القرار التكنولوجي، وأبراج بث تُنظم تدفق المعرفة كما تُدار سلاسل التوريد، لا يبدو بناء شبكة مجتمعية فعلًا تقنيًا بريئًا، بل خطوة تلامس جوهر السيطرة الحديثة على الحياة اليومية. فالاتصال هو الذي يحدد من يشارك في المجتمع، ومن يبقى خارجه.
حين تقع القدرة على التواصل في أسر معايير الربح، تبرز الشبكات المجتمعية ليس فقط وسيلةً للوصول، بل إعادة تعريف للوصول ذاته؛ أن تملك الوسيلة، لا أن تشتريها، أن تكون مشاركًا في بنائها وتشغيلها، لا مجرد مستهلك.
في جوهرها تمثل هذه الشبكات نوعًا من التنظيم الذاتي، وتصبح التكنولوجيا ممارسةً اجتماعيةً وليست حكرًا على الخبراء أو الشركات. وهي بذلك تخلق فضاءً جديدًا يعيد رسم العلاقة بين الناس والتقنية، بين الاحتياج والتمكين، وبين المعرفة والسيادة.
لا تنطلق هذه المشاريع من وفرة في الموارد، بل من وعي مشترك بالحاجة. لذلك، فهي لا تسعى فقط إلى تقديم بديل تقني، بل إلى إنتاج شكل مختلف من السلطة، موزعة وشفافة وقابلة للمحاسبة.
كل عقدة تُبنى في شبكة مجتمعية، وكل هوائي يُثبت على سطح، وكل كابل يُمد تحت الأرض، هو جزء من عملية إعادة توزيع ممكنة لقدرات المجتمع. من يشارك في هذه الشبكات لا يدفع اشتراكًا فقط، بل يشارك في اتخاذ القرار.
صحيح أن هذه المبادرات لا تملك النفوذ المالي أو السياسي لمنافسيها، لكنها تملك الثقة المتبادلة. وفي حين تتجه البنى التحتية نحو مزيد من التمركز، وتُصبح أدوات السيطرة أكثر لا مادية، فإن كل شبكة مجتمعية تُبنى، مهما كان حجمها، تُعيد طرح سؤال: لمن القدرة؟ وما الطريق إلى توزيعها بشكل أكثر عدلًا؟