صورة مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي ChatGPT
التعاونيات الرقمية

التعاونيات الرقمية.. حين تبتلع السوق البدائل

منشور الاثنين 6 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في نيويورك ظهرت The Drivers Cooperative بديلًا تعاونيًّا لأوبر. السائقون أنفسهم هم من يمتلكون المنصة ويتقاسمون الأرباح، وهناك أيضًا Stocksy United، وهي مكتبة صور رقمية يملكها الفنانون الذين يرفعون أعمالهم ويتقاسمون عوائد بيعها، ومنصة Up&Go في نيويورك لحجز خدمات التنظيف المنزلي، من خلالها تحصل العاملات على معظم قيمة الخدمة بدلًا من أن تؤول لشركة وسيطة تستقطع نسبة ضخمة من الأجر.

مثل هذه الأمثلة العملية تبين أن التعاونيات الرقمية باتت تجارب واقعية تغطي مجالات متنوعة، وليس مجرد أفكار تُطرح نظريًا على الإنترنت.

برزت التعاونيات الرقمية في السنوات الأخيرة بديلًا يُسوَّق باعتباره حلًا لأزمة العدالة في اقتصاد المنصات الرقمية التي تلعب دور الوساطة بين العملاء ومقدمي الخدمات؛ خصوصًا ما يتعلق بواقع الأجور المنخفضة وظروف العمل غير المستقرة التي تفرضها تطبيقات النقل الذكي والتوصيل والخدمات المتنوعة.

يُقدَّم نموذج التعاونيات الرقمية بوصفه مساحةً يملك فيها العمال أدواتهم، ويشاركون في القرار، ويتقاسمون العوائد؛ يبدو هذا الخطاب جذابًا، فهو بدون مديرين متسلطين ولا مستثمرين جشعين، إنما ديمقراطية داخلية وشفافية في المحاسبة.

مع ذلك يبرز سؤال مركزي  عند النظر إلى هذه التجارب؛ هل تكفي التعاونيات الرقمية لتحقيق الوعد بالعدالة، بينما تبقى القوانين التي تحكم السوق كما هي؟ وهل يمكن بناء نموذج عادل في فضاء يُدار أصلًا بمنطق الاحتكار والريع؟

العدالة الرقمية وعد سهل الهضم

تُباع فكرة التعاونية الرقمية بعبارة جذابة "إذا امتلك العمال المنصة فسيتحررون من الاستغلال"، فالديمقراطية الداخلية، والشفافية المحاسبية، وآليات اتخاذ القرار الجماعي تبدو ضمانات ضد الاستغلال.

لكن حين يُختزل معنى السياسة، أي الصراع على السلطة وتوزيع الموارد وشروط العمل، في مجرد حوكمة داخلية؛ أي إدارة تقنية للشركة من خلال آليات مثل التصويت وتوزيع المهام، فإنها تتحول من ساحة صراع اجتماعي واسع إلى مجرد آليات تقنية داخل التطبيق، عندها تصبح القرارات مثل التصويت على خفض الأجور أو زيادة ساعات العمل مسائلَ إداريةَ، بدلًا من النظر إليها جزءًا من بنية اقتصادية تفرض هذه الشروط أصلًا.

ورغم تركيز التعاونيات على آليات الحوكمة الداخلية وتوزيع القرار بشكل ديمقراطي، فإنها لا تفلت من ضغوط السوق التي تُنتج آثارًا مشابهةً لضغوط المدير أو المستثمر. لا يمكن اختزال المشكلة في شخص المدير الجشع وحده، بل في علاقات الإنتاج نفسها، أي المواقع التي يشغلها كل طرف داخل السوق، حيث تُعاد إنتاج هذه العلاقات باستمرار، فحتى إن اختلف المالك أو المدير، فإن منطق التراكم الرأسمالي، أي السعي المستمر للربح والنمو، يفرض نفس الضغوط؛ الربحية، التنافس، خفض التكاليف.

في هذا السياق، تتحول العدالة؛ الشعار الذي ترفعه التعاونيات الرقمية، إلى منتج معياري؛ تصبح هذه القيمة السياسية المرتبطة بالصراع الاجتماعي سلعة أو معيارًا جاهزًا للتسويق يُباع ويُسوّق ميزةً أخلاقيةً دون أن تُغيّر في القواعد العميقة التي يفرضها السوق.

السوق علاقة قسرية والريع الخوارزمي

تطبيقات التوصيل

ليست السوق ساحةً محايدةً للتبادل الحر، كما تقدَّم عادة، بل علاقة قسرية؛ أي منظومة تضطر المنتجين والعمال للامتثال لقواعد التراكم والربح بغض النظر عن إرادتهم. وعندما تدخل التعاونية الرقمية هذا الميدان، تجد نفسها في مواجهة منصات كبرى تملك رأسمالًا ضخمًا، وشبكات توزيع واسعة، وقدرة على خفض الأسعار لفترات طويلة.

لكي تبقى، على التعاونية أن تكثّف إنتاجها وتخفض النفقات وتتوسع بسرعة. عندها يصبح التصويت على العمل لساعات أطول أو تقليص الأجور قرارًا ديمقراطيًا في الشكل، لكنه في الجوهر استجابة لضغط السوق. هكذا ينشأ شكل جديد من الاستغلال الذاتي؛ العمال يفرضون على أنفسهم ما كان يُفرض عليهم سابقًا من الخارج، لأن الضغط الآن صادر عن منطق السوق ذاته لا عن شخص المدير.

وإذا كان الاستغلال الذاتي يكشف انتقال الضغط من المدير إلى السوق، فإن هناك مستوى أعمق يُكبّل التعاونيات، يتمثل في الريع الخوارزمي، والمقصود به هو أن القدرات الرقمية، مثل قوة الحوسبة وترتيب نتائج البحث وسهولة الوصول للمستخدمين، أصبحت سلعةً تُباع وتُشترى لحظةً بلحظة، أي أن أي مشروع تعاوني يظل رهينةً لشركات التكنولوجيا الكبرى التي تحتكر الخوارزميات والبنية السحابية والإعلانات. هكذا يُعاد إنتاج القسر في صورة أكثر خفاءً.

يزيد الأمر تعقيدًا أن السوق تملك قدرةً هائلةً على امتصاص البدائل وإعادة تشكيلها وفق منطقها الخاص. فالمنصة التي تعهّدت ألّا تبيع بيانات المستخدمين قد تجد نفسها مضطرةً، تحت ضغط التكاليف، لعقد شراكات تسويقية تُعيد فتح الباب لتسليع البيانات. والتعاونية التي وعدت بأسعار أفضل قد تكتشف أن السبيل الوحيد للبقاء هو خفض التكلفة، حتى لو شمل ذلك خفض أجور العمال أنفسهم.

مع مرور الوقت، قد تتشابهُ المنتجات والخدمات التي تقدمها التعاونيات وتلك التي تنتجها الشركات الربحية، لأن شروط السوق تفرض ذاتها على الجميع. فيبقى الفارق الحقيقي، ليس في نمط الملكية وحده، بل في مقدار الضغط الذي يتحمله العمال بأجسادهم وأعصابهم.

تساعد هذه التجارب على بناء وعي جماعي بأن السوق ليست محايدة وأن السيطرة على البيانات أو الوصول إلى المستخدمين ليست مسألة تقنية بحتة

عند هذه النقطة تظهر إشكالية أخرى تتعلق بالملكية. فالتعاونيات تتحدث عن امتلاك المنصة، لكنها ليست مجرد تطبيق على الهاتف. إنها سلاسل متشابكة من الملكيات؛ من الكود والخوارزميات، إلى البنية السحابية ومراكز البيانات، إلى شبكات الاتصالات والكابلات البحرية، إلى بوابات الدفع والعقود مع البنوك، وصولًا إلى البيانات نفسها التي تُكدّس كأصل رأسمالي.

بالتالي فإن امتلاك العمال للتطبيق قانونيًا لا يعني أنهم يمتلكون هذه البنية الأعمق. في الغالب يظلون زبائن عند عمالقة التكنولوجيا الذين يحتكرون البنية التحتية مثل الخدمات السحابية ومتاجر التطبيقات ووسائل الدفع.

ما الذي يمكن أن تمنحه التعاونيات حقًا؟

إذا كانت التعاونيات الرقمية عاجزة عن كسر منطق السوق بمفردها، فإن قيمتها لا تُقاس بقدرتها على إلغاء التناقضات، مثل الصراع بين العمل ورأس المال، بل بما تمنحه للعاملين في الحاضر من خبرات ملموسة.

فهي تفتح المجال لتجارب عملية في دمقرطة مكان العمل، حيث يتعامل الأعضاء مباشرة مع مهام عادة ما تُحتكر في الإدارات العليا مثل المحاسبة والتسويق والتفاوض وتطوير البرمجيات. هذه التجربة تُعيد للعمال معرفة طالما حُجبت عنهم، وتحوِّل التعاونية إلى مساحة للتدريب السياسي والتنظيمي.

وفي الوقت نفسه، تساعد على بناء وعي جماعي بأن السوق ليست محايدة، وأن السيطرة على البيانات أو الوصول إلى المستخدمين ليست مسألة تقنية بحتة، بل جزء من علاقات قوة تُدار عبر الاحتكارات. هذا الوعي يُبرز الحاجة إلى تجاوز فكرة "إدارة أفضل" نحو التفكير في تغيير القواعد الأساسية للسوق.

إلى جانب ذلك، تمنح التعاونيات أعضاءها تحسينًا مؤقتًا لشروط التفاوض عبر خلق قدرة جماعية على مواجهة بعض الضغوط أو التخفيف من حدتها. ومن هنا قد تبدأ شبكات تضامن عابرة للمهن والمدن، تحمل خبرة تراكمية يمكن أن تتحول إلى قاعدة لحركات أوسع تسعى لا للتكيف مع قواعد السوق فحسب لكن لإعادة تعريفها جذريًا.

مع ذلك، تبقى هذه الإمكانات محدودة إن لم ترتبط بالحق في السلطة على البنية الرقمية الأوسع. فالحرية لا تكمن في عدد الأصوات داخل التطبيق، بل في القدرة على التأثير على مستوى أعمق؛ في السحابة، والاتصالات، والبيانات، والتمويل، وسلاسل الإمداد.

هنا فقط تتحول المشاركة إلى سلطة، وتتحول التعاونيات من محطات تدريب وتجريب إلى خطوات داخل مسار أوسع يربط بين التضامن اليومي وإمكانية إعادة بناء النظام الرقمي على أسس أكثر ديمقراطية.