تصوير إيناس مرزوق، المنصة 2025
دفتر تدوين خاص بحفل تأبين الخبير التقني أحمد مكاوي، 14 نوفمبر 2025

أحمد مكاوي.. الملاك الحارس

منشور الخميس 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

"هنكلم مين لو حصلتلنا مشكلة دلوقتي؟" هذا واحد من أسئلة كثيرة تدور ببال أصدقاء وزملاء أحمد مكاوي، الخبير التقني وأحد روّاد البرمجيات مفتوحة المصدر في مصر والمنطقة العربية، الذي رحل عنّا فجأةً في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في منتصف العقد الرابع من عمره.

مكاوي الشهير باسم "لينكساوي" في إشارة إلى ريادته في نشر استخدام نظام التشغيل مفتوح المصدر Linux في مصر والمنطقة، كان أكثر من مجرد خبير برمجيات فذّ، كان العمود الفقري التقني والإنساني لجيل كامل من التقنيين والنشطاء والصحفيين في مصر والعالم العربي.

حاضر حتى لو غايب

لم يغب مكاوي بوجهه البشوش وهدوئه المعتاد عن حفل تأبينه الذي نظمه أصدقاؤه وزملاؤه يوم الجمعة 14 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي بمقر المنصة، وتضمن شهادات تشاركت كلها في رسم بورتريه "الملاك الحارس" الذي يشعر الجميع بالاطمئنان لمجرد وجوده، كما وصفته رئيسة تحرير المنصة نورا يونس وزملاؤه وأصدقاؤه.

"الملاك الحارس" ليس وصفًا مجانيًا ولا من قبيل الكلام الذي يقال في مثل هذه المناسبات، لكنه الوصف الأصدق لمن لا يمكن حصر مساعداته في مواقف عصيبة تعرض لها الكثير من الصحفيين والنشطاء، سواء كان لها علاقة باستباحة بياناتهم أو وجود تهديد إلكتروني أو خطورة عليهم، سيان كان يعرف صاحب الأزمة أو لا يعرفه. 

مدخل مقر المنصة في القاهرة أثناء استقبال المشاركين في حفل تأبين الزميل أحمد مكاوي، 14 نوفمبر 2025

انضمَّ مكاوي لفريق المنصة متطوعًا بخدماته منذ عام 2022 ثم مستشارًا للأمان الرقمي منذ 2023. لكن مشواره في مجال الحريات والعدالة الرقمية بدأ مبكرًا عام 2004 مع منتدى "لينكس إيجيبت" ثم انضمامه 2006 لمجتمع التقنيين العرب/Arab Techies 2006، ليصبح أحد أهم الأسماء العربية في مجال التدريب والتأمين الرقمي للأفراد والمؤسسات، كما أسس شركته الخاصة Spirula التي قدَّم من خلالها خدمات الهندسة السحابية وتكنولوجيا المعلومات والتخطيط الاستراتيجي.

بشهادات زملائه، فإن مكاوي واحد من أبرز التقنيين، ليس في مصر فقط إنما في المنطقة العربية وبعض الدول الآسيوية. قدم مساهمات مهمة في العديد من المشروعات الوطنية، من بينها مشاركته في تطوير أول موقع للجنة العليا للانتخابات وموقع الجمعية الوطنية للتغيير، كما ساهم في تدشين وتطوير مواقع صحفية بارزة منها موقع جريدة الأخبار، وساسة بوست، وموقع المصري اليوم، وموقع النادي الأهلي وغيرها.

صديق العمر يحكي

أغلب الكلمات، سواء التي ألقيت مباشرة خلال الحفل أو بُثت عبر الفيديو، بدا أن أصحابها ما زالوا في مرحلة الصدمة، لم يستوعبوا موته، لدرجة أن صديقه المقرب علاء عبد الفتاح ألقى عليه التحية في بداية كلمته "مساء الخير يا مكاوي".

رسم عبد الفتاح صورة كاملة لدور لينكساوي في عالم التقنية المصري والعربي، لافتًا إلى أن حكايته بدأت مع نهاية التسعينيات أو بدايات الألفية في زمن الـ dial-up/الاتصال بالإنترنت عن طريق الهاتف الأرضي، حين كانت معرفة نظام التشغيل لينكس أو الحصول على نسخة منه يتطلب شبكة معقدة من الجهد الشخصي.

عبر منتدى "لينكس إيجيبت" تعرّف الجيل المؤسس، ومنهم علاء، على الشاب السكندري الهادئ رغم حضوره القوي، المقبل على المعرفة والقادر على تنظيمها وتحويلها إلى روابط اجتماعية.

حسب علاء، كان المنتدى يعاني مشكلتين أساسيتين؛ غياب اللقاءات الواقعية، وصعوبة تداول نسخ نظام لينكس. وفي أول محاولة جادة لبناء شبكة توزيع، ظهر تأثير مكاوي بوضوح إذ أسس في الإسكندرية خلية كاملة تُمكّن الناس من الوصول للتقنية بحرية، بلا مقابل.

جانب من الحضور في حفل تأبين الزميل الراحل أحمد مكاوي، 14 نوفمبر 2025

يحكي علاء عن أول فعالية كبيرة نظمها رواد المنتدى في ساقية الصاوي عام 2004، التي استهدفت مشاركة 30 أو 40 شخصًا ليفاجأوا بأنها استقطبت نحو ثلاثة آلاف، "كنا شباب 21 أو 24 سنة، غير مهيئين بالمرة للتعامل مع اللي بيحصل ده، كانت لحظة نجاح تام وفي نفس الوقت انهيار تام".

هذه اللحظة كانت الأساس الذي كوَّن ما أطلق عليه مجموعة EGLUG، ومع أول انتخابات داخل المجموعة، كان مكاوي الشخص الأكثر قبولًا بين الجميع، متصدرًا كل القوائم، "وبقى فيه واحد قاعد في إسكندرية وهو عمليًا إللي بيدير الجروب"، حسب علاء.

كل الطرق تؤدي إلى لينكساوي

في عالم التقنية العربية، "كل الطرق تؤدي إلى مكاوي". كان هو الملاذ الأخير عند كل أزمة، والجدار الصلب الذي يستند إليه مجتمع بأكمله، وشبكة الأمان التي لا تخذل أحدًا. فبخلاف نشاطه ضمن EGLUG وفعاليات تحميل لينكس على كمبيوترات الشباب مجانًا في سنوات ما قبل ثورة يناير، ساهم أيضًا في تأسيس مجموعات Wikimania في مدينته الحبيبة الإسكندرية، إيمانًا منه باللامركزية، حيث تطوَّع وجنَّدَ العديدَ من المتطوعين لدعم المحتوى العربي على ويكيبيديا، إضافة إلى دعمِ مجموعاتِ لينكس في المحافظات الأخرى.

التقى مهندس البرمجيات شريف ناجي، بمكاوي، في بداية الألفينيات "كان وقتها مهندس اتصالات في شركة إنترنت أيام الـdial-up. وأنا كنت عميل عند الشركة وكان فيه مشكلة في الإنترنت عندنا في البيت، فالشركة بعتت أحمد كمهندس مختص يحاول يحلها".

"لما بدأ يشتغل على الكمبيوتر بتاعي اكتشف إن أنا مش شغال ويندوز، شغال لينكس. وبدأنا نتكلم عن لينكس وعن المصادر والبرمجيات مفتوحة المصدر. وبدأت أتكلم معاه شوية عن الـcommunities في مصر وعن EGLUG، ومن ساعتها بقينا أصحاب"، يقول شريف في شهادته عن مكاوي، "كان على طول بيساعد، وعلى طول متطوع بوقته ومجهوده لوجه الله وللكوميونتي".

بدأت علاقة منال بهي الدين حسن بمكاوي قبل نحو 20 سنة مع مجموعة مستخدمي GNU Linux، و"بعد كده اشتغلنا مع بعض في مبادرات ومشاريع لمجموعات مختلفة. خلتنا نقرب من بعض أكتر"، لكنها تعرفت على زاوية جديدة في شخصية مكاوي بعد حبس زوجها آنذاك علاء عبد الفتاح.

مجموعة من الصور المتنوعة تجمع الزميل الراحل أحمد مكاوي مع أفراد من أسرته وأصدقائه وزملائه في العمل

"لما أنا وجوزي ابتدينا مشروعنا الصغير في 2013 كان مكاوي واحد من المجلس الاستشاري الخاص بالمجموعة دي. بعدها على طول جوزي اتحبس وفي 2014 بقى باين إن هو مش هيخرج قريب"، تقول منال في شهادتها.

تضيف "فجأة لقيت نفسي لايصة؛ مشروع جديد، إدارة فريق، وحاجات أنا مكانش ليا فيها أي خبرة. مكاوي أخدني تحت جناحه، بقى هو الأخ الكبير أو الـmentor. اللي قعد يعلمني الإدارة واحدة واحدة. ويساعدني من غير حتى ما أطلب، هو اللي كان بيبادر. ويتأكد إن أنا كويسة، ويشجعني ويهون من أي كوارث أو مصايب". 

تجسدت روح المبادرة للمساعدة دون طلب في كلمة لينا عطا الله، رئيسة تحرير موقع مدى مصر، فمكاوي بالنسبة لها أكثر من تقني، "لسنوات طويلة سواء في شغلنا في مدى أو في مواقع تانية كتير، خصوصًا في اللحظة اللي قررنا كذا موقع في المنطقة نشتغل صحافة مستقلة (...) كان الشغل بتاعه خلق بيئة افتراضية نقدر نبني فيها مواقعنا، خصوصًا في سياقات إن المواقع دي بتتحجب، وبتتعرض لمواجهات مختلفة. كان دايمًا عينه على إزاي المواقع دي تفضل sustainable/مستمرة، وتتطور وتقدر تبقى قادرة إنها تستوعب مشاريع صحفية طموحة في لحظة صعبة".

ملامح أخرى ترسمها شهادات زملاء مكاوي وأصدقائه، مثل رنوة يحيى، الشريك المؤسس في مؤسسة التعبير الرقمي العربي (أضف) التي تحدثت عن دعمه للمؤسسة، وحضوره في أي لحظة تحتاجه فيها، مشيرة إلى حماسه الشديد لمشاركة ابنه ميزو في معسكرات أضف الصيفية، و"أنا ممتنة أن أشوف الفرحة في عيون أحمد ودينا".

جانب من حفل تأبين الزميل الراحل أحمد مكاوي، 14 نوفمبر 2025

سلطت إيناس بسيوني، مساعدة مكاوي، في كلمتها، الضوء على زاوية أخرى من حياة لينكساوي "اشتغلت معاه واكتشفت إنه عادي إن أنا أدخل لمديري أقول له أنا مش عارفة أعمل الحاجة دي، ويقول لي تعالي نعملها سوا. أو أقول له أنا عكيت في الحاجة الفلانية، ويقول لي ما تقلقيش ما تتوتريش، هنحلها بالراحة".

قالت الصحفية جيهان شعبان إنها محظوظة أنها التقت مكاوي في مقر المنصة قبل نحو شهرين بعد انقطاع اللقاءات لعشر سنوات، مشيرةً إلى أنها كانت دائمًا تلجأ إليه طلبًا للمساعدة في أمور متنوعة "كان زي الإسعاف بيرد على الاتصالات في أي وقت".

أما ما تتمناه ريم المصري، الباحثة في مجال حوكمة الإنترنت والحقوق الرقمية، فهو استكمال طريق مكاوي بنشر المصادر المفتوحة "كان شخص موهوب في تحويل الأفكار إلى شيء عملي، وكان متحمس دائمًا في كل المشروعات، ولا يلتفت إلى التمويل أو إلى الظهور. كان دائمًا ما يعمل بالخفاء".

لم تفقد سارة شريف بوفاة مكاوي مجرد صديق و"لكن رصيد من الأمل والحب في الدنيا اتخصم مننا. هو كان شاطر في دا، كنا متعودين عليه في الأمل والصبر"، مؤكدة أن أكثر ما يحزنها أنه "كان نفسه يعيش كتير وكان عنده أحلام كتير وكان فخور بابنه معاذ ومستني يشوفه في الجامعة".

يعرف الخبير التقني رامي رؤوف لينكساوي منذ 20 عامًا، كصديق وزميل في نفس المجال، ويشهد في كلمته أنه كان من أهم وأشطر الناس في مجال التقنيات وتكنولوجيا المعلومات، وكان الجندي المجهول في مشاريع مهمة في مجالات الصحافة والثقافة والفن والمجتمع المدني، وقدم مساهمات عابرة للحدود، داعمًا  بخبرته مبادرات مجتمعية في مصر وفلسطين والمغرب.

ووضعت نورهان ثروت أهم الدروس التي تعلمتها من مكاوي في قدرته على تجميع الناس من أجل الوصول إلى حلول، لافتةً لإيمانه بأن المعرفة فعلًا حرة وليست مجرد أداة لتقديم حلول تقنية فقط.

يتذكر الخبير التقني محمد طيطة الموقف الأكثر تأثيرًا عليه طول علاقته بمكاوي حين اضطر إلى ترك العمل في إحدى المؤسسات، وفوجئ باتصال هاتفي منه يستأذنه في أن المؤسسة التي تركها تعرض عليه العمل بها "هو كان بيتعامل مع الموضوع إنه عادي جدًا، بس أنا بالنسبة لي كان التوقيت فارق جدًا لأني كنت فاقد الأمل في الإنسانية. وفي لحظة هو اللي معلمني الشغلانة بيستأذنني أنه ياخد مكاني".

وتحدثت مختصة الأمان الرقمي سارة محسن عن مكاوي كشخص استثنائي واسع المعرفة في مجالات متعددة، منها القهوة. وركزت على جانب لا يعرفه الكثير عنه وهو اهتمامه بالأفلام والفيديو جيمز.

ظهر البعد الإنساني المكمل لصورة المهندس الفذ والمساعد لزملائه في كلمات الأستاذ الجامعي دسوقي المكاوي، والد أحمد، إذ تحدث الأب المكلوم عن ابنه البار، الحاضر دائمًا، الساعي إلى مساعدة المحتاجين في صمت.

وفي الختام استهل الزميل عبد الرحمن مقلد الكلمة التي ألقاها نيابةً عن العاملين في المنصة بموقف شخصي عن علاقته بمكاوي "كنت عارف إن مكاوي شخص عبقري وذكي جدًا، لكن مكنتش متخيل إنه وصل للمستوى ده من التطور والمعرفة. في يوم وفاته، الله يرحمه، حد نشر بوست عن الحاجات إللي مكاوي عملها، وكنت مذهول… إزاي شخص يقدر يعمل كل الحاجات دي مع بعض؟".

وصف مقلد، مكاوي، بالشخص اللطيف "خفيف الروح، دايمًا حريص على إن ما حدش يتضايق، حتى لو فيه حاجات صغيرة ممكن تزعل. وكان فخور جدًا بابنه، ودايمًا بيتكلم عنه باعتزاز".

لم يكف حفل التأبين لرسم صورة أوسع لسيرة ومسيرة مكاوي التي بدت متشابكة ومعقدة مع كل حكاية وموقف يسرده صديق أو زميل، لكنه كان تعبيرًا عن الحب والحزن لفقده، وهو فقد صدم الكثيرين، ربما تكون الأيام وحدها قادرة على تحويل الصدمة إلى ذكرى والمواقف المتفرقة إلى سيرة متجددة وقادرة على الدهشة للوديع المثابر مكاوي.