تصوير منة الله سيد
علاء سليمان صاحب مبادرة تعالى شوف القمر مع مارة يدعوهم لمشاهدة القمر عبر تليسكوبه، مدينة الشروق، 8 أكتوبر 2025

مَجَرَّة في راحة اليد.. تليسكوب الشارع يصالح الناس على العلم

منشور الثلاثاء 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025

في شارعٍ من شوارعَ مدينة الشروق، يتوقفُ الزمنُ لحظاتٍ. هنا، بعيدًا عن صخب وسط القاهرة، يتجمعُ المارةُ في مشهدٍ غير مألوف؛ لا يلتفّون حول بائعٍ متجولٍ، بل بمحيط شابٍ يقفُ بثقةٍ بجانب تليسكوب موجّه نحو السماء، وينادي في الجمعَ "تعالى شوف القمر".

تتسع عينا طفلة وهي ترى حُفَر القمر لأول مرة؛ تتهلل أسارير امرأة وهي تهمس "سبحان الله"، ويقول أحمد الشاب العشريني الذي تصادف مروره "طول عمري أشوف القمر نقطة مضيئة، ما أتخيلتش أشوف تفاصيله بالوضوح ده على الرصيف جنب البيت.. لحظة مدهشة".

فكرةٌ في الرأسِ تقفزُ إلى واقع

في قلب المشهد يقفُ الشاب العشريني علاء الدين سليمان، الذي لا ترتبط دراسته الأكاديمية بالفلك، لكن قلبه معلق بالنجوم منذ طفولته. "منذ صغري كنت أحب مشاهدة السماء. مع الوقت، بدأت أقرأ كتب في الفلك والفيزياء الفلكية والتحقت بدورات تدريبية، فتحول الأمر من مجرد هواية إلى شغف كبير"، يقول علاء لـ المنصة.

هذا الشغف الذي نما بالتعليم الذاتي لم يبقَ حبيسَ الغرف المغلقة أو الكتب، بل تحول إلى مسؤولية شعر بها تجاه الآخرين.

علاء الدين سليمان صاحب مشروع "تعال اتفرج ع القمر"

شارك علاء الذي أصبح عضوًا في الجمعية المصرية لعلوم الفلك/ ESA في تنظيم ورش ورحلات للمهتمين، لكنه أدرك مع الوقت أن "الناس هم اللي بيجولنا، وغالبيتهم لديهم شغف بالعلوم وخاصة الفلك، لكن عامة الناس في الشارع ما يعرفوش حاجة تقريبًا عن الفلك".

من هنا، وُلدت فكرة "تعال اتفرج ع القمر"، ليس باعتبارها نشاطًا ترفيهيًّا فقط، بل محاولة لكسر جدار العزلة مع العلم وللدمج بين المتعة والمعرفة.

 نزل علاء الشارع 4 مرات بتليسكوبه، وفي كل مرة كانت التجربة تزيد "تميّزًا وثأثيرًا"، على حد وصفه. في البداية، استغرب كثيرون التليسكوب وباغتوه بسؤال مباشر "إيه ده؟!"، لكنَّ الاستغراب سرعان ما يتحول إلى فضول بمجرد أن يبدأ في الشرح.

"بشرح يعني إيه فلك، وايه هو التليسكوب وبيشتغل إزاي، وبنشوف بيه إيه"؛ نجح خريج كلية اللغة والترجمة بهذه الطريقة في كسر الحاجز بينه وبين المواطنين.

هذه التجربة لم تؤثر في المارة فقط، بل غيرت من فلسفة علاء نفسه، "بتفتح الباب لناس يمكن ما فكروش يوم يبصوا للسما، بتبسط لما أعمل حاجة لحد تغير يومه. كمان أدركت أن العلم لا يحتاج إلى قاعات دراسية أو مدارس".

الشارع مختبرًا شعبيًا

مبادرة علاء ليس معزولةً عن السياق العالمي، وهي تطبيق عفوي لمفهوم عالمي لحركة تُعرف بـ فلك الأرصفة/Sidewalk Astronomy.

تقوم الجذور القديمة لهذه الحركة على ألا يكون الكون حكرًا على العلماء في المراصد المعزولة، وأن من حق كل فرد تأمل روعة السماء، وهدفها  دمقرطة المعرفة العلمية وإخراجها من نخبوية الأبراج العاجية إلى حيث يوجد الناس.

بدأت ثورة فلك الأرصفة في ستينياتِ القرن الماضي في الولايات المتحدة بمجرد أن طوّر جون دوبسون أول تليسكوب محمول عالي القدرة يمكن للهواة تصنيعه بتكلفة زهيدة، وهو ما مكّن عشرات الآلاف من الهواة من امتلاك تليسكوباتهم الخاصة.

أسس دوبسون جمعية فلكيي الأرصفة في سان فرانسيسكو؛ ومنذ ذلك الحين أصبح للجمعية العديد من الفروع النشطة في مختلف البلدان تجمع الهواة الذين ينتشرون في الشوارع والاحتفالات من بينها احتفال الهالوين.

فتاة صغيرة تجرب رؤية القمر من خلال تليسكوب لأول مرة، مدينة الشروق، أكتوبر 2025

يشيد الباحث بقسم الفلك في المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، الدكتور محمد سعيد درويش، بالقيمة الفريدة لهذه المبادرات، مؤكدًا على أن "ما يميز تجربة الشارع أن المحاضر هو من يصل للمتلقي بنفسه وليس العكس، فالجمهور ليس بحاجة إلى التسجيل أو دفع رسوم أو تكبد عناء للحصول على المعلومة".

يضيف درويش بُعدًا آخر يتعلق بالأثر النفسي العميق لتجربة رؤية القمر فهي "تبدأ بمزيج من الدهشة والفرح، يعقبها شغفٌ لمعرفة المزيد من التفاصيل"، لافتًا إلى أن هذه التجربة الحسية المباشرة هي جوهر الاكتشاف العلمي؛ فالنظر إلى السماء كان دائمًا مصدر إلهام، والتعمق في فهم الكون هو الأساس الذي انطلقت منه مسيرة الإنسان لفهم فروع العلم المختلفة وفك ألغازه.

لماذا لا نرى السماء؟

تنظم مؤسسات مثل المعهد القومي للبحوث الفلكية والجمعية المصرية لعلوم الفلك ندوات ورحلات وأمسيات فلكية، لكن هذه الأنشطة لا تتوافق تمامًا مع مفهوم "فلك الأرصفة" العالمي، القائم على العفوية والانفتاح والوصول إلى الجميع.

وهو ما يؤكد عليه المهندس عصام جودة، رئيس الجمعية المصرية لعلوم الفلك (ESA) بأن الجمعية تنفذ أنشطتها الفلكية في أماكن نصف مفتوحة، مثل المكتبات العامة التي تجمع المهتمين بالمعرفة، أما الرصد في الشارع فهو قاصر على مبادرات فردية مثل مبادرة علاء.

وأظهر استبيان أجرته المنصة على عينة محدودة تضم 18 هاويًا للفلك يمتلكون تليسكوبات، أن 9 منهم (بنسبة 50%) لم يسبق لهم مطلقًا الخروج بتليسكوباتهم للرصد مع الجمهور في شارع أو ميدان عام أو حديقة عامة.

الخوف من رد فعل الناس، وسوء الفهم، والخوف على المعدات، تأتي على رأس العقبات التي يشير لها الدكتور أشرف تادرس، أستاذ الفيزياء الفلكية، ورئيس قسم الفلك الأسبق بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية (NRIAG) كأسباب عدم تعميم تجربة تليسكوب الشارع لدينا.

"قد تكون مبادرة علاء جيدة في أي بلد أجنبي، ولكن أشك أن تكون كذلك في مصر! لأنه سيقابل مضايقات كثيرة من الناس والأطفال. فالثقافة الفلكية في مصر تكاد تكون منعدمة وسيجد من يستخف بما يفعله"، يقول لـ المنصة.

النظر إلى الفضاء عبر تليسكوب تجربة جديدة على الشارع المصري، مدينة الشروق، أكتوبر 2025

ما يقوله تاردس سبق واختبره علاء، واعتبره "أكبر تحدٍ" واجهه وتمكن من تجاوزه بعدما أثبتت تجربتُه العكسَ، وهو شعور مشترك لدى الكثير من الهواة عكسته آراء 6 من أصل 18 من عينة الاستبيان يرون "رد فعل الناس وعدم تفهمهم" أحد أهم أسباب ترددهم في الخروج إلى الشارع.

تخطيط عمراني غير صديق

إن تجاوزَ هاوي الفلك حاجز رد فعل الناس، فإنه يصطدم بعقبة أخرى تتمثل في المكان الذي يمكن من خلاله رصدَ القمر والأفلاك. من الـ18 الذين استطلعت المنصة آراءهم، أشار ثلاثةٌ إلى صعوبة إيجاد مكان مناسب كأحد أحد أسباب امتناعهم عن النزول للرصد في الشارع، ورأى 4 آخرون أن التلوث الضوئي الشديد يعد من أبرز العوائق أمام ممارسة الرصد الفلكي داخل المدينة.

يوصي الدكتور تادرس باللجوء إلى "الحدائق العامة المفتوحة التي لا تحيط بها مبانٍ، والتي يمكن أن تكون مناسبةً للرصد من داخل المدن بشرط قلة الإضاءة"، لتجنب التلوث الضوئي.

لكن هذه التوصية تصطدم بواقع آخر، كشفه تحقيق استقصائي أعدّته شبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (ARIJ)" بعنوان "فسح القاهرة تضيق على فقرائها"، أظهر النقص الحاد في المساحات الخضراء المتاحة للجمهور، وهو ما يجعل من الشارع في كثير من الأحيان الخيار المتبقي لهواة الفلك.

لكن الشارع ليس صديقًا للأنشطة الثقافية بطبيعته، فـ"تصميم وتخطيط المدن الجديدة يتعمدان الفصل بين المناطق السكنية والإدارية والتجارية، الأمر الذي يضطر الناس إلى التحرك بالسيارات، ويقلل من حركة المارة والتفاعل البشري"، كما يؤكد المهندس المعماري أحمد علي لـ المنصة.

لذلك مبادرةٌ كهذه لن تحقق أثرًا كبيرًا في المدن الجديدة مثل الشروق والعبور، لكنها ستكون أفضل في مناطق مثل المهندسين ومصر الجديدة، حيث الحركة الدائمة.

يتفق مع ذلك رئيس الجمعية المصرية لعلوم الفلك، مؤكدًا أن "العقبة ستكون في التجمهر وصعوبة التنظيم، الأمر الذي يستلزم تنسيقات أمنية".

ويكشف أنه "في عام 2019 حاولت الجمعية المصرية لعلوم الفلك تنظيم رصد جماعي لخسوف القمر في أحد الميادين العامة. ذهبنا لاستخراج تصاريح من وزارة الداخلية. كان هناك اهتمام ونقاش لطلبنا، لكن الرد النهائي كان بالرفض، بسبب ظروف البلد التي لا تسمح بتجمعات كبيرة"، وهو ما جعله لا يفكر في تكرار التجرية مرة أخرى.

الهاجس الأمني

فيما يتعلق بالهاجس الأمني، جاءت نتائج الاستبيان حاسمة؛ إذ رأى 13 مشاركًا من أصل 18 (نحو 72%) أن الخوف من المساءلة الأمنية والحاجة إلى تصاريح يمثلان العائق الرئيسي أمام نزولهم إلى الشارع بالتليسكوب.

لا يوجد في القانون ما يمنع استخدام تليسكوب فلكي في الشارع

وهو خوف نابع من تجارب واقعية خاضها الهواة أنفسهم، فسبق وأوقف أحد المشاركين في الاستبيان أثناء استقلاله مترو الأنفاق، وتم التحقيق معه فـ"ركوب المترو بالتليسكوب ممنوع خوفًا من أن يكون أداة تجسس"، كما يقول لـ المنصة.

يشدد المهندس عصام جودة على أنه "لا يوجد في القانون ما يمنع استخدام تليسكوب فلكي في الشارع، بشرط عدم استخدامه بجوار منشآت عسكرية وعدم حدوث تجمهر"، لافتًا إلى وجود "مصنع للتليسكوبات في طنطا. وعند شراء أي تليسكوب، يُرفَقُ معه تنبيهٌ بعدم استخدامه بالقرب من المنشآت العسكرية فقط. لكن المشكلة هي ارتباط التليسكوب لدى البعض بفكرة التجسس، ما يثير القلق ويجعل الناس يتوجسون منه".

يومٌ للرصد 

يدعو المهندس المعماري أحمد علي لـ"تغيير تخطيط المدن الجديدة نفسها لتصبح مشجعة على مثل هذه الأنشطة"، مقترحًا "خلط الأنشطة داخل المبنى الواحد، بحيث تجتمع الوظائف السكنية والتجارية والإدارية معًا، مما يشجع على حركة المشاة الدائمة ويخلق حياة في الشوارع"

فيما يبدي المهندس عصام جودة تفاؤلًا ورغبةً في "إعادة محاولة استخراج التصاريح مرة أخرى"، آملًا في الوصول إلى "يوم ثابت شهريًا للرصد الفلكي للعامة، بتنسيق مسبق مع الجهات المعنية" .

ويطالب الدكتور محمد سعيد درويش بنشر الثقافة العلمية عامة، والفلكية بالأخص، عبر معادلة تبدأ من الأسرة والمدرسة، مرورًا بالإعلام؛ "لا بد من غرس قيمة العلم من خلال الأسرة والمدرسة، وللإعلام أيضًا دور في تسليط الضوء على مثل هذه الأنشطة مما يجعل من يقوم بها يشعر بالفخر، وهو رسالة بأن العلم، ولو كان بسيطًا، قيمة يجب الاهتمام بها".

مدفوعًا بالشغف، يحاول علاء التغلب على العقبات وتجنب المشاكل؛ يختار "الأماكن البعيدة عن المؤسسات الحكومية الحساسة"، ويثبت أن التغيير يمكن أن يبدأ بخطوة واحدة وتليسكوب واحد؛ "أتمنى إني أسهّل وصول المعلومات الفلكية للأطفال، لأنني في طفولتي لم أجد من يعلّمني هذه الأمور وأشعر بمسؤولية نقل ما تعلمته للأجيال الجديدة".