توماس هيرتوج بإذن خاص للمنصة
الفيزيائي البلجيكي توماس هيرتوج مع أستاذه ستيفن هوكينج بمكتبه في جامعة كامبريدج، إنجلترا، أبريل 2015

المنصة تحاور تلميذ ستيفن هوكينج| تفسير نشأة الكون بعين داروين

توماس هيرتوج: استخدمت "الحدس المشترك" مع هوكينج لتطوير نظرية الانفجار العظيم

منشور الاثنين 24 فبراير 2025

تكللت رحلة عمل وصداقة الفيزيائي البلجيكي توماس هيرتوج مع عالم الكونيات الإنجليزي الشهير ستيفن هوكينج، بكتابٍ جديدٍ للأول بعنوان "في أصل الزمن: نظرية ستيفن هوكينج الأخيرة"/On the Origin of Time، الذي صدر عام 2023، ويحوي جوهر الأفكار الثورية التي شاركها مع هوكينج على مدى عقدين من العمل المشترك، لإثراء فهمنا للكون، والبحث عن إجابات للأسئلة الجوهرية عن نشأته ومراحله الأولى.

غلاف كتاب On the Origin of Time/ في أصل الزمن، صدر عام 2023

يسرد هيرتوج خلال حواره* مع المنصة كيف التقى هوكينج وتتلمذ على يديه وشاركه أفكاره وهمومه، والسر وراء سعيهما الدؤوب لتقصي الحالة الأولى لقوانين الفيزياء في عالمنا القديم، وتطوير نظرية جديدة للانفجار العظيم.  

اللقاء الأول

التقى الفيزيائي البلجيكي أستاذه هوكينج للمرة الأولى عام 1998، ثم نال شهادة الدكتوراه بإشرافه عام 2002، وواصل العمل معه مدة 15 عامًا أخرى، حتى وفاته، عام 2018.

يصف هيرتوج لقاءه الأول بهوكينج "أتذكر بوضوح، أول لقاء شخصي لي معه، في يونيو/حزيران 1998. قبل ذلك بعام، انتقلت من بلجيكا إلى كامبريدج في إنجلترا لدراسة علم الكونيات النظري، والتحقت ببرنامج ماجستير يتكون من عدة دورات متقدمة في الرياضيات والفيزياء النظرية".

ويتابع "كان جميع الطلاب في كامبريدج يعلمون أن تصدر الصف، في نهاية البرنامج، يعني تلقي دعوة من ستيفن هوكينج، لمواصلة دراسات الدكتوراه تحت إشرافه. وهذا ما حدث لي، بالطبع، كان الأمر مُخيفًا بعض الشيء. فقد كنت طالبًا شابًا يلتقي قامة علمية مثل ستيفن هوكينج. لكن اتضح، فيما بعد، أنه شخص ودود وسهل المعشر".

لحظة الإلهام المذهلة

في شبابه، أصيب هوكينج بمرض التصلب الجانبي الضموري، وهو مرض عصبي مُتنكس يؤدي إلى شلل تدريجي وفقدان القدرة على الكلام والحركة. ورغم أن الأطباء توقعوا أنه لن يعيش أكثر من بضع سنوات بسبب المرض وتدهور حالته الصحية، فإن عمره امتد لأكثر من خمسة عقود، متحديًا كل التوقعات.

على مدى حياته، ترك هوكينج بصمةً لا تُمحى في مجال الفيزياء النظرية وعلم الكون، توجت بأهم إنجازاته؛ تطوير نظرية إشعاع هوكينج، التي تُفيد بأن الثقوب السوداء تُصدر إشعاعًا وتفقد كتلتها تدريجيًا. كما ساهم، بشكل كبير، في فهمنا للانفجار العظيم ونشأة الكون، من خلال أبحاثه ونظرياته الجامحة.

في المراحل المبكرة جدًا من نشأة الكون حدث تطور لقوانين الفيزياء مشابه لنظرية التطور الداروينية

رغم المرض وتحدياته، خاض هوكينج رحلة مثيرة في الحقل العلمي "كان شغوفًا بالعلم، ومتفائلًا بالحياة. أعتقد أنه كان يؤمن بأن دراسة الانفجار العظيم ستعلمنا الكثير عن أنفسنا، وعن مكاننا في الكون، وعن أصولنا الضاربة في القدم. وأن تساؤلاتنا العميقة حول الكون وشجاعتنا في الإجابة عنها ضرورية لبقاء البشرية على المدى الطويل".

ثمّة لحظة فارقة في علاقة العَالِمَين شكلت بداية التعاون بينهما، يصفها هيرتوج "أعتبر لحظة الإلهام المذهلة التي عشتها، عام 2002، هي الأكثر تأثيرًا في علاقتي بهوكينج. في تلك اللحظة، أدركنا، أنا وهو، كيف يمكننا حل التناقضات المرتبطة ببعض النظريات. هذه اللحظة هي التي وضعتنا على المسار الذي قادنا، في النهاية، إلى تطوير نظرية جديدة للانفجار العظيم".

وعن كتابه الجديد، يقول الفيزيائي البلجيكي إن عنوانه مستلهم من عنوان كتاب تشارلز داروين الرائد أصل الأنواع. ويعبر عن الفكرة الرئيسية للنظرية التي طورها مع هوكينج؛ حيث افترض العالمان أن المراحل المبكرة جدًا من نشأة الكون سجلت مستوىً أعمق من التطور يحدث على مستوى قوانين الفيزياء نفسها.

يضيف "بمعنى آخر؛ نقترح أنه في الظروف القاسية لميلاد الكون، حتى القوانين الفيزيائية تتحول وتتطور؛ بحيث تصبح أبسط، إلى أن تتلاشى الجسيمات والقوى، وحتى الزمن نفسه، مع العودة إلى الانفجار العظيم. إذن، الفكرة الثورية التي طورناها هي أن قوانين الفيزياء ليست حقائق أبدية ثابتة، بل وُلدت وتطورت مع تشكل الكون الذي تحكمه".

يتابع هيرتوج "في كتابي، أصف تعاوني الشخصي مع هوكينج، وجوهر الرؤية الجديدة لأصل الكون، بالإضافة إلى بعض تاريخ علم الكونيات الحديث الذي يعود إلى عمل ألبرت آينشتاين في أوائل القرن العشرين".

انفجار مصمّم خصّيصًا

تُوصف حدود الفيزياء النظرية بأنها معقدة ومربكة للغاية. فنحن أمام بحر هائج من الأفكار والتخمينات. بعضها صحيح، وبعضها الآخر خاطئ. بالإضافة إلى العديد من الافتراضات والمسلمات المسبقة. لكن كما يقول توماس هيرتوج "يكمن فن الفيزياء النظرية في امتلاك حدسٍ يمكّننا من التمييز بين الافتراضات التي يجب التخلي عنها، وتلك التي يمكن تعديلها، من أجل التقدم نحو اكتشاف نظريات فيزيائية جديدة".

ويعتقد الفيزيائي البلجيكي أن التحدي الأكبر لا يكمن في القدرة على إجراء الحسابات أو التجارب العلمية بحد ذاتها، بل في طرح الأسئلة الصحيحة التي تمكن العلماء من فك ألغاز الكون المادي من حولنا، واستيعاب قوانينه، وفهم ظواهره الطبيعية.

مشهد تخيلي للانفجار الكبير

السؤال الجوهري الذي طرحه الثنائي هوكينج وهيرتوج، في أبحاثهما المشتركة؛ هو كيف أمكن للانفجار العظيم أن يخلق كونًا صالحًا للحياة بعد مليارات السنين؟ لطالما اعتقد علماء عدة أن نظرية كل شيء - إن وُجدت - ستفسر لنا لماذا يبدو الكون مصمّمًا خصّيصًا لدعم الحياة. كانوا يعتقدون أن قوانين الفيزياء التي تُسهّل وجودنا هي نتيجة حتمية للقوانين الرياضية التي تحكم الكون.

لكن في الآونة الأخيرة، افترض بعض العلماء وجود أكوان متعددة؛ تُشير هذه النظرية إلى فكرة وجود أكوان تختلف في خصائصها الفيزيائية الأساسية، بعضها قد يكون صالحًا للحياة، بينما يبقى البعض الآخر خاليًا منها.

حاول الفيلسوف البريطاني النمساوي كارل بوبر أن يحدد بالضبط ما هو العلم وما دونه. توصل إلى صياغة قوية ومؤثرة، لكنها بسيطة كثيرًا "لكي تعتبر نظرية ما علمية، يجب أن تكون قابلةً للدحض. هذا يعني أنه يجب أن تكون لديها القدرة على إثبات خطئها، من خلال التجارب والأدلة".

من هذا المنطلق، يرفض هيرتوج نظرية الأكوان المتعددة "لا أنا ولا هوكينج نؤيد هذه النظرية. فنحن لا نعتقد أنها نظرية علمية صحيحة وقابلة للتحقق، ليس فقط لأنه من المستحيل، عمليًا، الانتقال إلى كون آخر، للتحقق من صحتها، بل لأنها لا تقدم أي تنبؤات واضحة ومحددة يمكن ملاحظتها في كوننا هذا. وهذا يعني أنها غير قابلة للدحض، حتى من حيث المبدأ". 

مع مرور الوقت سيكون من الممكن اختبار جوانب معينة من فرضية الانفجار العظيم التي طورتها مع هوكينج

في المقابل، طرح هوكينج وهيرتوج تفسيرًا جديدًا ذا طابع دارويني، يفترض أن قوانين الفيزياء، كما نعرفها اليوم، هي نتاج عملية تطور بدائية شبيهة بالتطور البيولوجي، تجمع بين التنوع العشوائي والانتقاء البيئي، على مدى مليارات السنين.

ويقول هيرتوج "التزمنا، أنا وهوكينج، بالأسس الراسخة للفيزياء النظرية، وانغمسنا في عوالم التجارب الفكرية المُلهمة، وقمنا ببناء نماذج رياضية دقيقة تصف، بدقة، مسار تطور الكون، مُستندين في ذلك إلى أحدث المشاهدات الفلكية. وبناءً على هذه النماذج، توقعنا ظواهر جديدة؛ مثل أنماط الموجات الثقالية (التموجات في نسيج الزمكان التي تحمل معلومات عن أحداث كونية عنيفة؛ مثل نشأة الكون) المنبعثة من بدايات الكون".

ثمّة انتقادات وجهها علماء إلى نظرية هيرتوج وهوكينج، لكن الفيزيائي البلجيكي لا يبدي قلقًا حيال غياب الأدلة القاطعة، في الوقت الحالي؛ حيث يقول "تكمن قوة الفيزياء النظرية في قدرتها على كشف طبقات جديدة من الحقيقة والتنبؤ بظواهر جديدة. قد لا نتمكن من التحقق منها إلا بعد مرور زمن طويل".

يضيف "تاريخ العلم مليء بالأمثلة على ذلك؛ مثل تنبؤات آينشتاين بالثقوب السوداء والموجات الثقالية، أو تنبؤ لومتر بتمدد الكون، أو حتى جسيم هيجز، الذي تنبأ به بيتر هيغز، عام 1965، ولم يُكتشف في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية/سيرن إلا بعد خمسين عامًا. أما في حالة موجات الجاذبية التي تنبأ بها آينشتاين، فقد استغرق الأمر 100 عام لاكتشافها".

من زيارة ستيفن هوكينج إلى جامعة لوفان البلجيكية ولقاء مع توماس هيرتوج، 12 يوليو 2015

"لذلك، أنا على ثقة بأنه مع مرور الوقت، سيكون من الممكن اختبار جوانب معينة من فرضية الانفجار العظيم التي طورناها أنا وستيفن. ونأمل أن نجد أدلة على تلك الطبقة الأعمق من التطور التي حدثت في اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم، وسيكون هذا اكتشافًا عظيمًا بحق".

هوكينج يراجع أفكاره

في العقود الأخيرة من حياته، بدأ ستيفن هوكينج تغيير رأيه حول كيفية نشأة الكون وقوانين الفيزياء التي تحكمه. ففي عام 1985، نشر كتابه الشهير تاريخ موجز للزمن، الذي حقق نجاحًا هائلًا، وبيعت منه ملايين النسخ حول العالم.

في هذا الكتاب، قدّم هوكينج للعامة نموذجًا مبسطًا لنشأة الكون، مستندًا في ذلك إلى أحدث النظريات الفيزيائية، آنذاك؛ مثل نظرية النسبية العامة وميكانيكا الكم. كان هذا النموذج ثوريًا؛ لأنه حاول، لأول مرة، وصف بداية الكون، بطريقة علمية، دون اللجوء إلى تفسيرات دينية أو فلسفية.

مع ذلك، بحلول أواخر التسعينيات، وبعد تحليل المزيد من الملاحظات الفلكية وتطوير نماذج كونية أكثر دقة، أدرك هوكينج أن نموذجه الأولي يعاني من بعض القصور. لم يكن راضيًا عن التفسيرات السابقة؛ لأنها لم تكن نظريات علمية قابلة للدحض، فعاد إلى نقطة الصفر.

يقول هيرتوج إن هوكينج كان مقتنعًا بأن نشأة الكون هي ذاتها نشأة الزمن؛ أي أن الزمن لم يكن موجودًا قبل الانفجار العظيم، بل بدأ مع بداية الكون. بالتالي، لا يمكن تطبيق مفهوم السببية على ما قبل الانفجار العظيم؛ لأن السببية تتطلب وجود زمن يسير بالتسلسل.

كنت أجلس أمام هوكينج وأطرح عليه أسئلةً تتطلب الإجابة بنعم أو لا ومن تعبيرات وجهه كنت أستشف الإجابة

اعتقد هوكينج أن قوانين الطبيعة لم تكن ثابتة أبدًا، بل كانت في حالة تغير وتطور مستمرين خلال اللحظات الأولى من عمر الكون، بعد الانفجار العظيم. في تلك الفترة المبكرة جدًا، كانت هذه القوانين تتطور باستمرار وفقًا لمبادئ فيزياء الكم، مما يعني وجود عدد لا نهائي من الاحتمالات الممكنة لقوانين الفيزياء.

مع مرور الوقت، استقرت مجموعة معينة من القوانين، هي التي نعرفها اليوم، كقوانين ثابتة تحكم الكون. هذا الاستقرار لم يكن نتيجة لعملية عشوائية بحتة، فهوكينج يعتقد أن مراقبة العلماء لهذه القوانين يلعب دورًا حاسمًا في تحديدها. بمعنى آخر، يرى أن عملية المراقبة نفسها تؤثر على النتائج، كما هو الحال في مبادئ فيزياء الكم.

هذا الأمر يشير إلى فكرة جريئة ومثيرة للجدل، وهي أن وعي العلماء قد يكون له تأثير على قوانين الفيزياء الأساسية. هذه الفكرة لا تزال قيد النقاش والبحث العلمي، لكنها تثير تساؤلات عميقة حول طبيعة الكون وعلاقة الوعي به.

لكن قبل رحيله، كيف كانت حالة هوكينج الصحية؟ وكيف كان يدير نقاشاته العلمية؟ هذا السؤال يجيب عنه رفيقه "في المراحل الأخيرة من تعاوننا، واجه ستيفن صعوبة متزايدة في استخدام جهاز توليد الكلام المُثبت على كرسيه المتحرك. فقد أصبح عاجزًا عن التحكم في المستشعر الذي كان يستخدمه لاختيار الكلمات، بسبب ضعف عضلاته. في كثير من الأحيان، كنا نشعر باليأس، ونعتقد أننا لن نتمكن من مواصلة مناقشاتنا".

لم يستسلم لتلك الحالة، فسرعان ما وجد طريقة لتطوير نوع من التواصل غير اللفظي العميق "استطعنا من خلال هذه الطريقة فهم بعضنا البعض دون الحاجة إلى الكلمات. أعتقد أننا طوّرنا حدسًا مشتركًا حول تلك الأسئلة المعقدة المتعلقة بالانفجار العظيم. كنت أجلس أمام ستيفن، أطرح عليه أسئلةً تتطلب الإجابة بنعم أو لا، ومن تعبيرات وجهه، كنت أستشف الإجابة".

يختتم هيرتوج حديثه بالإشارة إلى عمله حاليًا على تطوير الفكرة المحورية لكتابه الجديد، التي تنص على أن قوانين الفيزياء لم تكن ثابتة كما نعتقد، بل تطورت وتغيرت مع تطور الكون في مراحله الأولى، بعد ولادته مباشرةً. 

يقول "لإثبات هذه الفكرة الجريئة، أرى ضرورة دمج نظرية النسبية العامة لآينشتاين مع النظرية الكمومية، أي توحيد العالمين: الكبير والصغير. ففي اللحظات الأولى لنشأة الكون، امتزجت خصائص العالمين معًا".

"تهدف هذه الفرضية، التي عملت على تطويرها بالتعاون مع ستيفن، إلى إثبات أن هذا التوحيد بين النظريتين يكشف عن الطبيعة التطورية لقوانين الفيزياء، وكيف أنها تغيرت مع الزمن منذ لحظة الانفجار العظيم وحتى يومنا هذا".


*بدأ المحاور التواصل مع توماس هرتروج بالإيميل منذ مايو/أيار 2024، وبقي على تواصل معه لإجراء تحديثات على الحوار حتى وقت نشره.