قبل ساعات من احتفالات عيد الفصح، احتشد الآلاف، يوم السبت 31 مارس، أمام كنيسة سانت ماريا في كمبريدج البريطانية، لوداع ستيفن هوكينج عالم الفيزياء النظرية، الذي عاش وتخرج ثم درّس في الجامعة العريقة للمدينة نفسها.
الحشود التي انتظرت أمام الكنيسة، جددت الشهادة بكون هوكينج أكثر علماء عصرنا شهرة وانتشارًا بين جموع العامة. ويعود ذلك لأشياء عديدة، على رأسها توجهه هو الشخصي نحو العامة. فهوكينج لم يكتفِ بكتابة الأوراق العلمية والاستغراق في رياضيات معقدة تعيننا على تفسير كوننا المدهش؛ بل كتب كتبًا للعامة بدأت بـ"تاريخ موجز للزمان.. من الانفجار الكبير إلى الثقوب السوداء" وصولاً إلى "التصميم العظيم". كما شارك ابنته لوسي في كتابة روايات للناشئة تعتمد على الحقائق العلمية، وتقدِّمها في غلاف درامي مشوق. لقد باع كتابه التصميم العظيم عشرة ملايين نسخة متصدرًا قوائم الأكثر مبيعًا، رغم كونه كتابًا علميًا يحاول فيه هوكينج تقديم إجابات عن أسئلة صعبة.
كما كان هوكينج ملهمًا، ويمثل حالة مثيرة للانتباه لا تملك أمامها إلا أن تمتلئ بالعجب والإعجاب. منذ كان شابًا جرى تشخيص إصابته بمرض عصبي عضال هو التصلب الجانبي الضموري ALS، وفي ذلك الوقت -الستينات- كان هذا المرض كفيلاً بأن يودي بحياته في غضون شهور. لكن العالم البريطاني قاومه بكفاءة، وبطريقة مذهلة أعجزت الطب وتقديراته فبقي حيًا رغم أن المرض كان يقضي على أعصابه وجسمه رويدًا رويدًا، حتى صار قعيد كرسي متحرك صُمِّم خصيصًا ليمنحه حركة محدودة، وبات يتكلم بصوت آلي مميز خلقته تكنولوجيا معقدة تُحَوِّل إيماءاته لكلام ولغة يمكنه التواصل بها. تحوَّل هوكينج إلى وعي كبير محمول على جسد شديد الهشاشة، لم يعقه عن الإنجاز العلمي والسخرية، وحتى المشاركة في مسلسلات كوميدية جماهيرية دعمت حضوره في أذهان العامة وزادت من تعلُّق قلوبهم به.
لكن تلك الأسباب لم تكن وحدها سبب شهرة هوكينج بين العامة. بل تعود تلك الشهرة بالأساس، إلى كونه استثمر سنوات عديدة من عمره في محاولات الإجابة على الأسئلة التي أرقت البشر منذ ميلاد الوعي، وأبرزها سؤال: من أين أتينا؟ مستعينًا بما حازه من علم، ومحاولاً أن يمد معارفه ومعادلاته على استقامتها كي تجيب عن: من أين؟ وإلى أين؟ ومم جاء الكون؟ وماذا كان قبله؟ وكيف تولَّد وإلام سيؤول؟
تعددت إجابات هوكينج، وتعارضت أحيانا. لكنها ظلت إجابات مثيرة، يتلقفها الناس في حيرة وجدل يتراوح بين التأييد والمعارضة التي تصل أحيانًا حد الاستهجان. وتَكَشَّف أن هوكينج قبل موته ترك خلفه ورقة علمية ربما تحوي ثبتًا جديدًا يتصل بنظريتي الأكوان المتعددة Multiverse، وتمدُّد الكون في مقابل النظريات القائلة بانكماشه.
هوكينج والانفجار الكبير
كانت هناك دائما نظريتان تتنافسان على تصوُّر نشأة الكون. الأولى هي نظرية الخلق التي ترى أن هناك لحظة جاء فيها الكون من العدم. والثانية تطرح أن الكون أزلي بلا لحظة بداية، وإن كانت لا تستبعد دائما وجود إله ترتبط أزليته بأزلية الكون.
نظرية الخلق أيدتها الأديان، بينما أيدت الفلسفة خاصة أعمال أرسطو وتابعيه نظرية الكون الأزلي، مستندين إلى حجة بسيطة، وهي أن الإله يجب أن يكون ثابتًا لا يتغير، وإن إقدامه على إرادة خلق العالم، تفرض أن هناك تُغيُّرًا ألمّ بالإله وبإرادته، وهذا يتعارض مع كونه أزلي ثابت غير حادث. أزلية الإله إذن تفرض بالتالي أزلية الكون.
في تلك الرؤية، كان الزمان منفصلاً عن المكان، وله تياره الخاص يجري فيه بوتيرة ثابتة، حتى جاء أينشتاين ليثبت أن الزمان ليس نهرًا متدفقًا في اتجاه ثابت، بلا هو عُرضة للانحناء والتبديل، تماما كالمكان. وكما نستطيع أن نسافر في المكان بسرعات مختلفة؛ يمكننا كذلك أن نسافر في الزمان بسرعات مختلفة. ولو أنك ركبت مكوكًا فضائيًا يتحرك بسرعة مقاربة من سرعة الضوء، فإن زمانك أنت سيختلف عن الزمن العام لسواك من البشر الذين لا يتحركون بنفس السرعة، وسيأخذ زمنك الخاص في التباطؤ، حتى أنك لو تركت خلفك على الأرض توأمًا لك، ثم عدت إليه بعد ترحالك بسرعة الضوء أو سرعة قريبة منها، ستعود أنت شابًا بينما سيغدو توأمك عجوزًا.
لم يقف الأمر عند ذلك، إذ اعتبر أينشتاين أن الكون هو نسيج من الزمان والمكان. ودفع ذلك العالم البلجيكي والكاهن الكاثوليكي جورج لومِتر إلى طرح تساؤل بالغ الأهمية "ماذا لو كان نسيج الكون منضغطًا في نقطة، ذات طاقة وحرارة لا متناهيتين، ثم انفجرت تلك النقطة لتخلق كل شيء. بدا أن تلك هي بداية الكون وأن الكون ليس أزليًا وهو ما يبدو تعزيزًا لرؤية الأديان.
جوبهت الفكرة في البداية بمعارضة شديدة، لكنها سرعان ما ترسخت من خلال الرصد الفلكي عندما وُجِدَت مشاهدات عديدة بيَّنت أن الكون يتمدد وتتباعد أجزاؤه. كما جرى واكتشاف إشعاع الخلفية الميكروني cosmic microwave background radiation، وهو إشعاع يُرجَّح أنه انبعث مع النشأة الأولى للكون، ومازال يتدفق من وقتها في كل نسيجه.
إلا أن بحث هوكينج في هذه النقطة كان له أثر بالغ. ففي أطروحته للدكتوراه، أثبت هوكينج أن الكون لا بُد أن يكون قد نشأ من مفردة singularity. والمفردة هي نقطة تنهار عندها قوانين الفيزياء التي نعرفها، حيث تكون الكثافة والجاذبية لا نهائيتان، فينحني نسيج الزمان والمكان إلى ما لا نهاية. حينها لا يكون هناك زمان أو مكان كما نعرف.
هكذا أثبت هوكينج أن الكون حادث، غير أزلي. وأن الزمن والمكان خُلقا مع ذلك الانفجار. ما يعني أنه لا معنى للحديث عن الزمان قبل الانفجار العظيم. بل ربما يكون الزمان مجرد ظاهرة ترتبط بكوننا نحن فقط دون الأكوان الأخرى.
لقد مثلت هذه النظرية نصرًا للمتدينين. لكنها كانت هزيمة كبيرة للنزعة العلمية. فالعلم يكره المفردة لأنها تتحداه ويمتنع عليه تفسيرها، المفردة حدث فيزيائي فوق القانون.
يذكرنا ذلك بنيوتن الذي عندما عجزت معادلاته، لم يواصل البحث، بل أعلن أن "يد الله" تتدخل من آن لآخر لتصلح ما بنموذجه من عطب. لكن هوكينج لم يفعل ذلك، كان يعلم أن كل وقوفٍ جمود، وأن الطريق للحقيقة ربما يكون بلا نهاية أو نقطة وصول؛ لكن عليه كعالم أن يواصل البحث. هذه النزعة هي التي جعلت البشر قادرين على القفز بمعارفهم للأمام كثيرًا، لأنهم لم يَقنَعُوا بإجابة أنها إرادة الله وكفى، بل حاولوا أن يذهبوا أبعد.
أكوان متعددة
لذلك، أيد هوكينج نظرية الأكوان المتعددة Multiverse، ربما لم توجد أدلة كافية من المسوح الفضائية لدعم هذه النظرية بشكل كامل، لكنها نظرية مهمة في الهروب من فخ نشأة الكون الذي نحيا فيه من خلال مفردة.
تعتمد تلك النظرية على نظرية أخرى أساسية بخلاف نظرية النسبية العامة General relativity لأينشتاين، ألا وهي نظرية الكم Quantum theory.
تبدو نسبية أينشتاين العامة نظرية صالحة للأجسام الماكروسكوبية الكبيرة macroscopic، حيث تُفسِّر قوى الجذب التي تنشأ بين الكتل ممكنة الرصد والقياس. لكننا متى وصلنا للأجسام متناهية الصغر؛ تتعطل تلك النظرية، وساعتها نلجأ لقوانين نظرية الكم من أجل تفسير حالات تلك الجسيمات.
بحسب فرضية العوالم المتوازية أو الأكوان المتعددة، فإن كوننا في بدايته لم يكن مجرد مفردة لها وزن وخاضعة لقوانين أينشتاين، بل كان متناهيًا في الصغر إلى حد يسمح بتفسيره عبر نظرية الكم. هكذا ذهب هوكينج نحو تأييد فرضية تنظر إلى أصل الكون كفقاعات من احتمالات عوالم الكم. فقاعات قد تتمدد مثل عالمنا، أو تنكمش. فقاعات تحمل احتمالات لا نهائية، قد ينجح بعضها في تكوين كون ككوننا بينما يفشل بعضها الآخر.
هكذا، تكون هذه الفقاعات خارج الزمان والمكان، وكل ما تحتاج إليه هو القانون. فنظرية الكم تفترض أن الجسيمات قد تنشأ من العدم كتذبذبات كمية تنشأ فيه وتخرج عنه لتصبح حادثة. وهكذا لم نعد في حاجة إلى أصل سوى القانون ولا شيء غيره. وبهذا يمكن للفيزياء أن تتغلب على المفردة.
تنتهي تلك الرؤية إلى أن هناك أكوان متعددة لا نهائية. وهي النظرية التي قد تفسر كذلك سؤالا شديد الصعوبة، وهو كيف جاء الكون بتلك الثوابت شديدة الدقة؟ والتي لو اختلت بشكل طفيف لما وصل الكون إلى الحال التي صار عليها الآن.
إن احتمالية أن يتكون كوننا هذا عن طريق الصدفة، هي احتمالية بالغة الضعف، وتكاد تقترب من الاستحالة. لكن في وجود أكوان متعددة لا نهائية، سيكون هناك تفسير لذلك. فكوننا مجرد احتمال ضمن احتمالات بأكوان لا نهائية، أغلبها قد ينهار على نفسه دون أن يُكوِّن مادة أو يطورها بشكل يخلق الحياة بالشكل الذي نعرفه.
تبقى نظرية الأكوان المتعددة مجرد فرضية يستحيل إثباتها في ضوء معارفنا الحالية، لكن ورقة هوكينج الأخيرة الخاضعة الآن للتحكيم، تقترح وسيلة لإثبات وجود تلك الأكوان المتعددة، حيث يقترح هوكينج أن تلك الأكوان ربما تركت بصماتها على كوننا، يظهر في الإشعاع الميكروني الذي انبعث مع الانفجار الكبير. ويذهب إلى أبعد من ذلك مقترحًا وسائل لرصد تلك الآثار.
لو صحت تلك الورقة؛ فستمثل قفزة كبيرة في فهمنا للكون. سيعمد العلماء في جنون إلى إثبات ما فيها، ولو ثبت بالفعل؛ فستتغير مفاهيمنا بشكل كبير جدا.
يقول هوكينج في كتابه "تاريخ موجز للزمان "من الذي نفخ النار في المعادلة لتعمل". هكذا حتى ولو بات مؤكدًا أن أصل كل شيء معادلة، وأن كل الكون من الممكن اختزاله في قانون، فمن أين جاء القانون؟
يبدو إذن أننا أمام ذات السؤال الذي لا تلوح له إجابة في أفق العلم الذي نحوزه الآن، فهو سؤال ميتافيزيقي، ما ورائي، لا يمكن للخبرة أن تجيب عنه، فلا يبقى غير الحدس والاعتقاد.