
ريادة الأعمال في التكنولوجيا: وجه ناعم لاستغلال رأسمالي خشن
تحوّلت ريادة الأعمال في عالم التكنولوجيا والإنترنت، خلال العقود الأخيرة، إلى أسطورةٍ معاصرةٍ تتردد في كل مكان؛ حكايةٌ يروَّج لها كأمل وعلاجٍ سحري لمشكلات البطالة والتنمية الاقتصادية، ومصدرٍ لا ينضب للنمو والابتكار. في هذه الأسطورة تكمن حقائق مختلفة تمامًا.
لم يظهر مفهوم ريادة الأعمال في التكنولوجيا منعزلًا عن تطورات الفكر الاقتصادي الرأسمالي وتحوّلاته التاريخية. فمنذ الثورة الصناعية، كان الابتكار وتحمُّل المخاطر عنصرين أساسيين في ديناميات تراكم رأس المال.
من هو الريادي؟
ارتبطت ريادة الأعمال في بداياتها بالإنتاج المباشر، إذ عرَّف الاقتصادي ريتشارد كانتيلون من القرن الـ17 الميلادي الريادي بأنه الشخص الذي يتحمّل المخاطر في بيئة من عدم اليقين، فيما اعتبر جان باتيست ساي الريادي المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي من خلال خلق أسواق وفرص عمل جديدة.
تحول الريادي من منفّذ للمشروعات إلى فاعل رئيسي في هيكلة الاقتصاد لصالح رأس المال
عكست هذه التعريفات احتياجات عصر التصنيع المبكر، حين كانت توسيع نطاق الإنتاج واكتشاف الأسواق وتنظيم العمل الصناعي أمورًا ضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد.
ومع تطور الرأسمالية ونشوء الشركات الكبرى، تحوّل الابتكار إلى عنصر جوهري في المنافسة الرأسمالية، الأمر الذي عبَّر عنه جوزيف شومبيتر من خلال مفهوم التدمير الخلّاق، وأضحت ريادة الأعمال قوة تدفع باتجاه التغيير والتجديد في السوق، ضامنة استمرار النظام الرأسمالي عبر الابتكار المستمر. ولم يعد الريادي مجرّد منفّذ لمشروعات، بل بات فاعلًا رئيسيًا في إعادة هيكلة الاقتصاد حسب مصالح رأس المال.
ومع تنامي سيطرة القطاع المالي، ارتبطت ريادة الأعمال بشكل وثيق برأس المال المغامر والاستثمارات المالية الكبيرة. فلم يعد نجاح الشركة الناشئة يُقاس فقط بإنتاجيتها أو أثرها المجتمعي، بل صار مرتبطًا بقيمتها السوقية وقدرتها على جذب التمويل الاستثماري.
هكذا، تحوّل العديد من روّاد الأعمال من مطورين تقنيين إلى وسطاء ماليين يركّزون على تحقيق تقييمات سوقية مرتفعة وعقد صفقات استثمارية سريعة. هذه الديناميكية عزّزت من سيطرة رأس المال المغامر على الابتكار، فأصبحت الشركات الناشئة مُلزمةً بتحقيق أرباح عاجلة، وإلا فإنها تواجه خطر الإقصاء من السوق.
من ينجح حقًا في الشركات الناشئة؟
تُروِّج الخطابات السائدة لفكرة أن النجاح في ريادة الأعمال الرقمية بسيط وفي متناول الجميع؛ كل ما يحتاجه الفرد هو فكرةٌ مبتكرةٌ، وشغفٌ متّقدٌ، وإرادةٌ صلبةٌ لا تستسلم للصعوبات، كي يتحول سريعًا إلى رائد أعمال ناجح.
إلا أن هذه الرواية تُخفي خلفها واقعًا أشد تعقيدًا، فالنجاح في هذا المجال يعتمد في الحقيقة على امتيازاتٍ حصريةٍ لا تتوفر إلا لقلة من الأفراد، مثل القدرة على الوصول إلى رأس المال المغامر، وشبكات العلاقات الواسعة مع المستثمرين والشركاء الاستراتيجيين والدعم المؤسسي الذي يبقى بعيدًا عن متناول الأغلبية.
ورغم ذلك، فإن هذا الخطاب بات ينتشر في كل مكان تقريبًا، حتى وصل إلى المؤسسات التعليمية، التي تحوّلت من مساحاتٍ للنقد والتحليل الاجتماعي والاقتصادي إلى مصانع لإنتاج ما يسمى "رواد أعمال المستقبل".
تعزّز ثقافة ريادة الأعمال الرقمية مفهوم "النجم الفردي" داخل بيئات العمل
ركزت المناهج الدراسية على اكتساب المهارات التقنية والإدارية، في حين جرى إغفال الجوانب النقدية التي تكشف آليات الاستغلال والتفاوت الطبقي التي يقوم عليها الاقتصاد الرقمي.
حتى الأنشطة الطلابية اللاصفية صارت جزءًا من ثقافة ريادة الأعمال، فأصبحت الجامعات تنظّم المسابقات والمعسكرات التدريبية بالشراكة مع شركات التكنولوجيا الكبرى، مما يرسّخ هذه الثقافة بشكل أعمق.
وفي هذا السياق، تُهمَّش حقيقة أن نسبة كبيرة من الشركات الناشئة تفشل خلال سنواتها الأولى، وتترك مؤسّسيها في ظروف اقتصادية هشة وغير مستقرة. كما تُخفي قصص النجاح المنتشرة على نطاق واسع نمطًا من الاستغلال قائمًا على العمالة الهشة وعقود العمل المؤقتة، أو على أنظمة "المتعاونين المستقلين" الذين يُحرَمون من الحقوق الأساسية مثل التأمين الصحي والاستقرار الوظيفي.
لكن الأخطر هو أن هذا الخطاب يعزز وهم "النجاح الفردي"، فيصوّر عدم المساواة باعتباره مجرد نتيجة للجهد الشخصي، ويصبح النجاح "مكافأةً" لمن يجتهد، فيما يُحمَّل الفشل للفرد وحده، مع تجاهل تام للعوامل الهيكلية والسياسية والاقتصادية التي تخلق الامتيازات وتوزعها على نحو غير عادل.
كذلك تعزّز ثقافة ريادة الأعمال الرقمية مفهوم "النجم الفردي" داخل بيئات العمل، فتشجع الأفراد على تحمل أعباء إضافية على حساب صحتهم النفسية ورفاهيتهم الشخصية، مما يضعف فرص التنظيم الجماعي لتحسين ظروف العمل. وبالمثل، يُروَّج لوهم "الحرية المطلقة" في العمل الحر، رغم أن المستقلين يواجهون باستمرار غياب الاستقرار والحماية القانونية.
هذا الخطاب لا يُعدّ مجرد نتيجة طبيعية للتقدم التكنولوجي، بل هو انعكاسٌ واضح لهيمنة اقتصادية وثقافية تعيد إنتاج التفاوتات القائمة بصيغ جديدة، تُفرض لا بالقوة المباشرة فحسب، بل عبر السيطرة على الثقافة وإنتاج أفكار وتصورات تخدم مصالح الفئات المهيمنة وتخفي علاقات القوة الحقيقية.
تعزيز الهيمنة
تُقدِّم الحكومات دعمًا ماليًا واسعًا للشركات التكنولوجية الناشئة، عبر الإعفاءات الضريبية والقروض الميسرة وصناديق التمويل الحكومي، بدعوى تشجيع الإبداع ودفع عجلة الاقتصاد الرقمي.
لكن خلف هذه الممارسة، يكمن واقع آخر أن المال العام لا يُستخدم من أجل بناء اقتصاد عادل أو لدعم الابتكار الحقيقي، بل يتحوّل إلى وسيلة تُسرّع من تركيز الثروة بيد النخبة الاقتصادية المسيطرة.
تُسوَّق هذه التمويلات الحكومية كفرصةٍ لتمكين رواد الأعمال وتحقيق الاستقلال والنمو، لكن سرعان ما يتضح أن الشركات الناشئة المستفيدة من هذا الدعم لا تستطيع الاستمرار دون الحصول على تمويل إضافي أكبر حجمًا، يأتي غالبًا من صناديق رأس المال المغامر.
هذه الصناديق لا تمنح التمويل دون شروط؛ بل تدخل في هيكل الملكية، فتتحكم في القرارات الاستراتيجية الكبرى، مثل التوسع وتسعير الخدمات وحتى دخول أو الخروج من الأسواق، مما يجعل الشركة في النهاية رهينةً لمصالح المستثمرين بدلًا من رؤية المؤسسين.
بهذه الطريقة، يتحول المال العام عمليًا إلى تمويل تمهيدي يُهيّئ الشركات الناشئة لجولات تمويلية لاحقة. وهكذا تُنقَل مخاطر المراحل الأولى إلى الدولة، في حين تستفيد صناديق رأس المال المغامر من شركات جاهزة للتوسع دون تحمل أعباء التمويل الأولي.
ونظرًا للعلاقات الوثيقة بين هذه الصناديق والشركات التكنولوجية العملاقة، فإن الشركات الناشئة التي تحقق نجاحًا لا تبقى مستقلة طويلًا، بل تُدمَج سريعًا في منظومة الاحتكار الاقتصادي. وتؤدي هذه الديناميكية إلى نتيجتين رئيسيتين:
تركيز رأس المال
فعندما تصل الشركات الناشئة إلى مرحلة النضج، تُطرح في أسواق الأسهم أو تُباع للشركات الكبرى، ما يُحقّق عائدات كبيرة للصناديق الاستثمارية ويُعزّز التركّز الرأسمالي.
احتكار الابتكار
تتحول الشركات الناشئة إلى أهداف مباشرة للاستحواذ من قبل الشركات العملاقة، سواءً لإلغاء تهديداتها المستقبلية أو لتوظيف تقنياتها في تعزيز سيطرة هذه الشركات على أسواق جديدة.
وبهذا يصبح الدعم الحكومي نقطةَ انطلاق ضمن سلسلة متواصلة من إعادة تدوير المال العام لصالح الفئات المسيطرة، مُعزّزًا الهيمنة الرأسمالية ومُعمّقًا الاحتكارات في الاقتصاد الرقمي.
الاستهلاك والاستغلال
تطرح الشركات الناشئة في مجال التقنية يوميًا منتجات وخدمات جديدة تُوصف بأنها "ضرورية"، رغم أنها في الواقع تتجاوز الاحتياجات الفعلية للمستهلكين. تُنتج هذه الاستراتيجية حلقةً دائمةً من الاستهلاك، يجد المستهلك نفسه فيها عالقًا داخل شبكة لا تنتهي من التحديثات والاشتراكات والنفقات المتكررة.
وتعتمد الشركات الكبرى في قطاع التكنولوجيا على أساليب تسويقية دقيقة، تحثّ المستخدمين باستمرار على شراء المنتجات الجديدة، رغم أن هذه التحديثات لا تقدّم عادة تحسينات جوهرية في الأداء أو الوظائف.
من الأمثلة الواضحة على هذه الظاهرة، سوق الهواتف الذكية. تُصدر شركات مثل آبل وسامسونج نماذج جديدة سنويًا، وتسوّق تغييرات طفيفة على أنها إنجازات ثورية، ما يحث المستهلكين على استبدال أجهزتهم القديمة، رغم كفاءتها.
ما يُسوَّق له باعتباره ابتكارًا ليس سوى عملية مُمنهجة لإعادة ترتيب مراكز الهيمنة الاقتصادية وتعميق التفاوت الطبقي
كذلك فإن نموذج الاشتراكات الرقمية الذي تتبعه شركات مثل Netflix وSpotify وMicrosoft Office يعزز الاستهلاك المستمر، إذ يجد المستخدم نفسه مجبرًا على دفع اشتراكات شهرية دائمة للوصول إلى خدمات لم يعد بإمكانه امتلاكها بشكل نهائي.
إضافة إلى ذلك، تعتمد التطبيقات والألعاب على التحديثات الدورية التي تجبر المستخدم على دفع مبالغ إضافية للحصول على ميزات جديدة أو "تجربة كاملة"، ما يخلق نوعًا من الإدمان الرقمي المستمر.
اجتماعيًا، لم يعد الاستهلاك الرقمي خيارًا فرديًا فحسب، بل أصبح رمزًا للانتماء الطبقي ودليلًا على النجاح المهني. ويُسوَّق اقتناء أحدث الأجهزة التكنولوجية علامةً على الابتكار والإنتاجية، ما يفرض على الأفراد ضغوطًا اجتماعية دائمة لمواكبة هذه التطورات.
وفي السياق ذاته، تستغل الإعلانات الرقمية مخاوف المستهلكين من الشعور بالتخلف عن الركب، مستخدمةً تقنيات التحليل السلوكي التي تستهدف دوافع نفسية مثل القلق والرغبة في التميز الاجتماعي، ما يدفع إلى المزيد من الاستهلاك غير المسؤول.
من الناحية البيئية، يؤدي هذا النمط الاستهلاكي إلى تفاقم الأزمة البيئية من خلال زيادة النفايات الإلكترونية، الناتجة عن التخلص المستمر من أجهزة لا تزال قابلةً للاستخدام. كما أن إنتاج هذه الأجهزة يعتمد على استنزاف موارد طبيعية نادرة، بالإضافة إلى عمليات استخراج وتصنيع مضرّة بالبيئة، الأمر الذي يتناقض مع خطابات الشركات الكبرى التي تدّعي التزامها بالاستدامة، بينما تستمر في تشجيع ثقافة الاستهلاك السريع والمفرط.
لا تزال رأسمالية
لا تمثّل ريادة الأعمال الرقمية خروجًا حقيقيًا عن المنطق الرأسمالي، بل هي امتداد طبيعي له بأشكال تبدو أكثر جاذبيةً وخداعًا.
رغم الوعود المغرية التي تُروَّج من خلالها للفرص المفتوحة والنجاح السريع، فإن الشركات الناشئة في الواقع تُعيد تكريس وتعزيز الهياكل التقليدية للسيطرة والاستغلال، لكن بأساليب أكثر ذكاءً وتعقيدًا، مستخدمةً التكنولوجيا الحديثة والخطابات التسويقية البراقة لإخفاء هذه الحقائق.
وما يُسوَّق له باعتباره اقتصاد الابتكار والتجديد ليس سوى عملية مُمنهجة لإعادة ترتيب مراكز الهيمنة الاقتصادية وتعميق التفاوت الطبقي، حيث يتم تحديد نجاح الشركات الناشئة من خلال قدرتها على الانصياع الكامل لشروط السوق وقواعد الاستثمار، وضمان استمرارية آليات تراكم رأس المال لصالح النخبة الاقتصادية.
يكشف هذا الواقع عن زيف الادعاءات التي تصوِّر ريادة الأعمال الرقمية حلًا جذريًا لمشكلات البطالة والتنمية، ويُبرز بوضوح كيف تتحوّل هذه الشركات إلى أدوات تخدم استمرارية النظام الرأسمالي، لذا فإن أي تغيير حقيقي نحو اقتصاد عادل ومستدام يتطلب بالضرورة تفكيك هذه البنى وكشف آليات عملها وإعادة التفكير في الطريقة التي تُستخدم بها التكنولوجيا لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.