اعتصام"البوابة نيوز"..عندما لم يعد الصمت خيارًا!
عندما كان التضامن والتغطية الإعلامية الميدانية لاحتجاجات العمال متاحة، حتى عام 2013، كان كاتب هذه السطور واحدًا من كتيبة إعلامية حرصت على أن تكون في قلب الحدث، إضراب في المحلة، اعتصام في طنطا للكتان، إدارة ذاتية في امونسيتو، وقفات احتجاجية في شارع مجلس الوزراء. لكن انتهى ذلك كله مع بداية عصر السامسونج.
الاعتصامات الطويلة بالذات، كما تابعناها، كانت منظمة من حيث بلورة المطالب والشعارات وتنظيم الإعاشة والمبيت، إلى جانب وجود قيادة منتخبة من جانب الزملاء.
وعندما عادت الاحتجاجات العمالية تطل برأسها مجددًا، رغم القبضة الأمنية، انضمت فئات جديدة إلى خط الاحتجاجات يأتي على رأسها الصحفيون.
نوباتجيات الاعتصام
وفي أطول اعتصام لأصحاب مهنة القلم منذ سنوات طويلة، يعتصم صحفيو جريدة "البوابة نيوز"، منذ شهر كامل ويفترشون الأرض في عز البرد، فقط من أجل إقناع رئيس مجلس الإدارة عبد الرحيم علي، وثيق الصلة بالنظام الراهن، بتطبيق قرار الحد الأدنى للأجور، الذي أقره رأس النظام!
وفي زيارة تضامنية "نادرة" للمعتصمين في جريدتهم، رأيت اعتصامًا عماليًا متكاملًا: المطالب مكتوبة على ورق مُقَوَّى ومعلقة على الحوائط، البطاطين، عدة الشاي والقهوة، توزيع الأدوار، تحديد المسؤولين عن كتابة البيانات والتفاوض مع الجهات المختلفة. وعلَّق الصحفيون لافتة على الجدران "من 2018 صابرين بأجر ألفين جنيه".
الصحفي محمد خميس، أحد المعتصمين، كتب بوست على فيسبوك "راهنت الإدارة إننا مش هنعرف نجمع نفسنا ولا هيكون لنا قومة، وعلى الخوف والتخوين والتشتيت". المعتصمون نظموا نوبتجيات للاعتصام والمبيت، حتى يستطيعوا الاستمرار أطول فترة ممكنة، رغم نجاح الإدارة في استقطاب عدد من الصحفيين.
لم يتسلّل الإحباط بين صفوف الثمانين معتصمًا، الذين كانت ثقتهم بالنصر واضحة على وجوههم. ولم تفقد روح الدعابة حضورها بين المعتصمين، إذ تعهدت إحدى الزميلات بتحضير محشي فور انتهاء الاعتصام، بينما تمنّى أحد الزملاء أن يتم الاستجابة لمطالبهم قبل يوم 18 يناير/كانون الثاني، كونه مرتبطًا بموعد سفر ولا يريد تأجيله!
لم تنجح السياسات المعادية للتنظيم النقابي على مدار 10 سنوات، في القضاء على بذرة التنظيم، وانتخب الصحفيون لجنة من سبعة على رأسها دكتور أحمد فارس، تتولى التفاوض باسمهم.
من باريس!!
على الجانب الآخر عبد الرحيم علي مالك الجريدة والنائب السابق بالبرلمان، يبدو حتى الآن، محميًا من نظام، يعتمد سياسة إخضاع كل من يتجرأ ويطالب بحقوقه، ولا يتبع التعليمات، حتى ولو كانوا من المقربين لدوائر الحكم، كما نشاهد في الانتخابات البرلمانية الجارية.
جهات نافذة أسبغت عليه حمايتها من قبل، وهو يتباهى في برنامجه "الصندوق الأسود" بقناة النهار، قبل سنوات، بنشر ما قال إنها تسجيلات صوتية لمعارضين، ولذا لم يكن مفاجئًا أن يخرج بالأمس عبر بوست نشره على فيسبوك يعبر فيها عن انبهاره بفيلم "باب الحديد" للمخرج الكبير يوسف شاهين وشخصية قناوي بائع الجرائد الذي ارتدى في نهاية الفيلم قميص المرضى النفسيين بعد أن حلم بزواج هنومة، ولم ينس، عبد الرحيم، أن يشير إلى أنه يكتبها من باريس في تمام الساعة الخامسة مساء بتوقيت القاهرة.
ما أثار غضب الصحفيين المعتصمين الذين نظموا وقفة احتجاجية الاثنين الماضي في تمام الساعة الخامسة مساءً، واستدعى ردًا من نقيب الصحفيين خالد البلشي نشره على صفحته يتحدث فيه عن الجهود المبذولة لحل أزمة البوابة "قبل الانحدار الذي طفح علينا (في الخامسة مساءً بتوقيت القاهرة)".
غير أن انفلات أعصاب عبد الرحيم علي، يعكس مقدار الألم والإزعاج الذي سببه صمود المعتصمين وإصرارهم على انتصار الكلمة على السيف، رغم العراقيل التي تضعها الإدارة.
يذكر أن اعتصامًا مشابهًا للعاملين بجريدة الوفد في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، للمطالبة بتطبيق قرار الحد الأدنى للأجور أيضًا، قادته لجنة نقابية متمرسة ومقاتلة في آنٍ، بقيادة رئيس اللجنة الدكتور محمد عادل. اعتصام الوفد استمر 6 أيام وحقق مطالبه ففتح الطريق أمام اعتصام البوابة نيوز.
تقع "البوابة نيوز" في في شارع مصدق بحي الدقي الراقي، ولأن الاعتصام بات بفضل السوشيال ميديا محط متابعة أهالي الحي وعمال محلاته، فقد تعاطف مع مطالبه قسم من السكان.
الصحفي المعتصم، محمد نبيل كتب بوست على فيسبوك، يصف مظاهر تضامن ساكني المنطقة معهم "شكرًا للجيران في شارع مصدق الذين بمجرد ما علموا أن إدارة الجريدة تقطع الإنترنت يوميًا على المعتصمين من 12 ليلًا وحتى الــ8 صباحًا مدونا بـواي فاي أقوى في سرعته من إنترنت الجورنال. جميع الجيران في مصدق يتعجبون من أن هناك عمالًا في هذا الشارع يتقاضون رواتب 2000جنيه و2500 جنيه، وأن هناك اعتصام للمطالبة بالحد الأدنى للأجور (7 آلاف جنيه)".
ما يذكرنا بأجواء التضامن الهائل الذي أبداه سكان شارع حسين حجازي مع موظفي الضرائب العقارية، الذين اعتصموا لمدة 10 أيام عام 2007، ومع انتهاء الاعتصام هتف الموظفون "يا سكان حسين حجازي.. لكم حبي واعتزازي".
شبح الإدارة الذاتية
في تطور لافت، يُفكر الصحفيون جديًا في اتخاذ خطوات لإدارة جريدتهم ذاتيًا في مواجهة تهرب المالك من واجباته وتلويحه بالتصفية والإغلاق، بل وامتناعه حتى عن صرف راتب شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
إذ يؤمن العاملون بالجريدة أنها ملكهم وفق ما جاء في بيان صدر عنهم "نثق أن ما نفعله سيكون علامة فارقة في علاقة الصحفي بعمله، بقيمته، وبحقه في بيئة تحفظ كرامته قبل قلمه، وأنه لن يضيع حق وراءه مطالب. الاعتصام مستمر حتى يصبح العدل واقعًا لا بيانًا". وهو ما عبَّر عنه خميس في بوست له "المكان دا مينفعش ينتهي ولا هينفع يتهد عشان دا بيتنا".
والإدارة الذاتية للعاملين بالصحف، تعني أن يتخذ الصحفيون والعاملون بأنفسهم القرارات المتعلقة بالإنتاج والسياسة التحريرية والأجور، بدلًا من الإدارة الهرمية التقليدية، مما يعزز الديمقراطية الداخلية، ولكنها تواجه تحديات كبيرة في واقع، معاد وقامع للعاملين بأجر.
في مطلع الألفية، قدّم عمال مصنع المصابيح الكهربائية بالعاشر من رمضان نموذجًا مبكرًا للإدارة الذاتية، ونجح العمال في استصدار قرار من النائب العام بتعيين مفوض، وإدارة شركتهم ذاتيًا، بعد غياب المالك ومحاولات الإدارة لتطفيشهم وإغلاق الشركة.
وتلى ذلك محاولات للإدارة الذاتية في عدة شركات مثل مصبغة أمونسيتو وعمال الشركة الدولية للمنتجات الورقية ومواد التعبئة "انكوباب" ومحاولات غير مكتملة في طنطا للكتان.
والمؤكد أن طريق الصحفيين نحو الإدارة الذاتية مليء بالعقبات. هناك العقبات القانونية، الضغوط الأمنية، حملات التشويه الإعلامي، تعقيدات التمويل، الخوف من المجهول، وانقسام العاملين. ولكن الصحفيين ليسوا أقل من العمال فبمعرفتهم وعلاقاتهم يستطيعون وضع خطة واقعية وتقديم نموذج، يمكن استخدامه في أسوأ الأحوال كورقة ضغط حقيقية ضد الإدارة.
عودة الظهير النقابي
على مدار أيام الاعتصام الطويلة، تجمع المعتصمون حول نقيب الصحفيين خالد البلشي، وغالبية أعضاء مجلس النقابة، يناقشون معهم خطوات التصعيد والمقترحات المقدمة من صاحب المؤسسة.
ليست هذه نقابة الصحفيين، التي نعرفها كنادٍ لرؤساء التحرير ومجالس الإدارات، إذ نجح البلشي في ترتيب أولويات النقابة لتكون في ظهر الصحفيين المحتجين ضد تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
هذا التوجه يبدو أنه كان ثمرة للنتائج الصادمة للاستبيان الذي أعده المؤتمر العام السادس للصحفيين في ديسمبر/كانون الأول 2024، وكشف أن أكثر من نصف المؤسسات الصحفية (51.8%) لا تمتلك لائحة أجور واضحة، في حين أن النسبة الأكبر (50.5%) لا تطبق الحد الأدنى للأجور ونسبة قليلة جدًا منها (29.9%) تطبق الحد الأدنى للأجور بشكل كامل.
وأظهرت نتائج الاستبيان كذلك أن 13% لا يحصلون على أجر، 7% يحصلون على أجر أقل من 1000 جنيه، 19% أجر أقل من 3000 جنيه، كما عبّرت الغالبية العظمى من الصحفيين (88.4%) عن حالة من عدم الرضا الواضح عن آلية اختيار القيادات الصحفية.
وفي ظل هذه الأوضاع أوضحت نتائج الاستبيان أن نحو 50% من الصحفيين يعتمدون بشكل رئيسي في معيشتهم على بدل التدريب والتكنولوجيا، الذي تمنحه الدولة للصحفيين، منذ الثمانينيات، باعتبارهم يقدمون خدمة للمجتمع.
البلشي أكد في تصريحات صحفية أن ما ورد في الاستبيان يعد أخطر رسائل صادرة من الصحفيين تجاه الحريات وأوضاع الأجور، معقبًا "لقد أعلن الصحفيون عن صرخة واضحة ويجب الاستجابة لهم".
غير أن عودة نقابة الصحفيين لتلعب دورًا قويا في معركة العيش والحرية، يستلزم، كذلك، أن يقوم مجلس النقابة، بشطب عبد الرحيم على وكل عبد الرحيم علي، من عضويتها باعتباره مساهم في ملكية الجريدة، ومحاسبة رؤساء التحرير الذين يعصفون بحقوق المحررين، وتعميق استقلالية النقابة عن الدولة.
التجاهل أسلوب حياة!
حتى هذه اللحظة تعمل النيوليبرالية السلطوية نفسها من بنها! فلا تضغط على عبد الرحيم علي، فلا تتدخل لإنصاف صحفيي البوابة نيوز الذين لم يطالبوا سوى بحد الكفاف، ولا تلتفت إلى جريدة الفجر التي توقفت عن طبع أعدادها قبل أسابيع، وترفض تعيين نحو 200 صحفي مؤقت يعملون بالمؤسسات القومية منذ سنوات طويلة بالسخرة، بل وقررت العام الماضي تخفيض قيمة الزيادة الدورية لبدل التدريب للنصف عقابًا على تجرؤ "العبيد" على إسقاط مرشح الدولة لمنصب نقيب الصحفيين عبد المحسن سلامة في الانتخابات الأخيرة.
ويبدو تجاهل الدولة ومجلسها الأعلى للإعلام لاحتجاجات الصحفيين، متسقًا مع سياستها في تحويل الصحافة إلى مقبرة صامتة يفني فيها الصحفيون عمرهم تحت ظلال الفقر والقمع.
ولكن غرور القوة يدفع المحسوبين من السلطة من رجال أعمال وغيرهم إلى التصعيد ومزيد من التصعيد، مثلما يفعل عبد الرحيم علي، الذي ضرب عرض الحائط بكل جهود الوساطة.
والنتيجة اتساع رقعة الحرائق، ليتحول صدام يحدث كل يوم لتطبيق الحد الأدنى للأجور تدريجيًا إلى معركة مع مجلس نقابة الصحفيين وجموع الصحفيين، ولا يستطيع أحد أن يتوقع سيناريوهات المستقبل، خصوصًا مع دخول الاعتصام شهره الثاني، ويبدو أنه سيكون علامة فارقة في تاريخ الصحافة الخاصة المصرية، فالمؤكد أن الحد الأدنى للأجور ليس حلمًا ولن يكون هنومة.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.