دفعت هجمة السابع من أكتوبر والحرب التي تلتها قطاع غزة إلى قلب الاهتمام العالمي. وحتى يومنا هذا، تصدر منظمات دولية متعددة، بشكل شبه يومي، تقاريرَ عن الحرب، وينشر الإعلام تصريحات لقادة دول من قارات العالم المختلفة بشأنها، وعُرضت مشاريع قرارات عديدة على مجلس الأمن، سقط كثير منها وصدر بعضها بعد مفاوضات دولية ممتدة. كما أحيلت بعض قضايا الحرب إلى محكمة العدل الدولية، فضلًا عن اندلاع مظاهرات، ومظاهرات مضادة، في بلدان عديدة، خصوصًا في الغرب، لتصبح الحرب قضية رأي عام مُعولم.
لكنَّ التغير الأساسي هو مبادرة عدد من أهم الدول الغربية، بُعيد بداية الحرب، إلى إعلان مساندتها لفكرة حل الدولتين لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ككل عندما تنتهي الحرب.
هذا الاهتمام العالمي لا ينبع من تأثير الحرب على التوازنات الدولية الكبرى؛ فهي لا تُقارَن من هذه الناحية بـ"العملية العسكرية" الروسية في أوكرانيا، ولا حتى بالنزاع الاقتصادي والاستراتيجي الأمريكي-الصيني، شاملًا السيطرة على بحر الصين وتايوان، بل من كونها لحظة مهمة في مسار صراع ممتد منذ بداية الاستيطان الصهيوني في فلسطين؛ صراع لا يمس طرفيه فقط، بل يؤثر بشدة، كما رأينا في المقالات السابقة، على منطقة مهمة في العالم؛ لأنها تحوي أهم الممرات التجارية العالمية، ولأنها المُصدِّر الأول للبترول والغاز.
عولمة القضية
يتسق هذا التأثير العالمي الواسع مع حقيقة أن القضية الفلسطينية نشأت من البداية كقضية عالمية. ففي البدء، انبثق المشروع الصهيوني عن المنظمة الصهيونية العابرة للقوميات التي تشكلت أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا في ظروف معقدة، لا مجال لطرحها هنا. ثم أشرف الانتداب البريطاني، بعد الحرب العالمية الأولى، على عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين بشكل رسمي، استنادًا إلى وثيقة الانتداب، التي صدرت بموافقة دولية.
كذلك، نجح مشروع الاستيطان في جذب أعداد كبيرة من اليهود بسبب حدث عالمي، وهو صعود النازية. وأخيرًا، كانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي نشأت رسميًا وفقًا لقرار أممي عام 1947، قبل قيامها الفعلي بشهور.
وبعد كل ذلك، وبسببه، ارتبطت القضية بالاستقطابات الدولية، خصوصًا في فترة الحرب الباردة، حيث أيّد الاتحاد السوفييتي العرب، فيما أيّد الغرب إسرائيل.
في المقابل، كانت القضية الفلسطينية محل اهتمام عربي منذ قرن مضى، وقبل إنشاء دولة إسرائيل. وبعد قيام إسرائيل كدولة، وقع على عاتق الدول العربية، وخاصة مصر، مواجهتها. وتدريجيًا، فُرضت القضية الفلسطينية على الأجندة العالمية.
من جانبها، أدرجت مصر القضية الفلسطينية على رأس اهتمامات الدول المستقلة حديثًا، والتي شكلت مجموعة عدم الانحياز، في إطار موجة التحرر الوطني التي اجتاحت العالم بعد الحرب العالمية الثانية. ورعت الدول العربية مجتمعة، قبل وبعد هزيمة 1967، قيام منظمة التحرير الفلسطينية وتعزيز مكانتها الدولية، إلى أن فرضتها على العالم ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني.
وأسفر هذا كله، عبر مجموعة تفاعلات معقدة، لا مجال لتناولها هنا، إلى تبنّي الولايات المتحدة، التي أصبحت الداعم الأساسي لإسرائيل بعد حرب 1967، لمبدأ حل القضية سلميًا، وصولًا إلى تدشين اتفاق أوسلو رسميًا في واشنطن عام 1993، ورعاية كافة المفاوضات اللاحقة، وحتى الآن.
العولمة الإسلامية للقضية
أضاف صعود حركات الإسلام السياسي في المنطقة ما يمكن أن نطلق عليه العولمة الإسلامية للقضية، نظرًا لتبني هذه الحركات للقضية من منظورها الخاص.
توسَّع نشاط هذه الحركات في أسلمة المسلمين، إن جاز التعبير، بين جاليات الدول العربية والإسلامية حول العالم، بدعم من دول عربية على رأسها السعودية، وبضوء أخضر أو أصفر أمريكي وغربي. إلا أن هذا النشاط تراجع لاحقًا إزاء ما شهده الغرب من عمليات إرهابية، ومن سعي لفصل المسلمين عن أطر الدول الغربية الوطنية في البلاد التي يعيشون فيها، بكل ما ترتب على ذلك من مشاكل اجتماعية وأمنية.
قبل حرب غزة، كان نشاط الإسلاميين في الغرب مُنصبًّا على محاولات أسلمة الغرب، عنفًا وسِلمًا، وأثاروا في أغلب الأحيان قضايا دينية، على رأسها مَطلَب منع انتقاد الإسلام أو السخرية منه، الذي اعتُبر تعديًا على قيم غربية أساسية، على رأسها حرية التعبير.
يضاف إلى ذلك الأعمال الإرهابية التي ارتبطت بهم، وأثارت رد فعل يمينيًا غربيًا معاديًا للإسلاميين، امتد أحيانًا إلى المسلمين عمومًا، بوصفهم خطرًا أمنيًا وثقافيًا، أُطلق عليه، على سبيل مقاومته، الإسلاموفوبيا.
شاركت قوى سياسية ومجتمعية غربية عديدة، يسارية عمومًا، في مقاومة الإسلاموفوبيا، لكن في إطار أفكار ليبرالية عامة عن الحفاظ على حقوق الأقليات. وأثار هذا التباسات، لا تزال قائمة حتى الآن، نظرًا للتناقض الكبير بين منطلقات الداعمين الليبراليين الغربيين ومنطلقات الإسلاميين.
حرب غزة على الصعيد العالمي
نقلت حرب غزة التعاون الملتبس بين الإسلاميين وقطاعات من اليسار الأوروبي إلى التمحور حول القضية الفلسطينية، لفائدة كلا الطرفين. وبناء على ذلك، أُتيح للإسلاميين تحسين صورتهم بالدفاع عن قضية جذبت اهتمام وتعاطف قطاعات معتبرة من الجمهور الغربي، من حيث كونها قضية إنسانية عادلة. كما منحت الحرب قوى اليسار الغربي فرصة إضافية لنقد سياسات دولهم.
وفي المقابل، استفادت القضية من تراكم الجهود التنظيمية التي قام بها الإسلاميون في الغرب عبر العقود، لكنها أصبحت مهددة تحت وطأة الإرث السلبي لحركات الإسلاميين هناك، والتباسات التحالف اليساري الإسلامي.
تجلّى هذا الجانب السلبي في رفع شعارات من قبيل "فلسطين من النهر إلى البحر"، بما يُفيد القضاء على إسرائيل، على الأقل كدولة، ويعضد ممارسات مُعادية للسامية، وهو مصطلح المقصود به دائمًا العداء لليهود وحدهم- لا للساميين عمومًا، الأمر الذي استفز قوى كثيرة رافضة لهذا العداء، بإرثه البشع المعروف في الغرب، خصوصًا الإرث النازي.
على هذا النحو، تجلّى مرة أخرى التناقض الكامن في سلوك الإسلاميين في الغرب بين فكرهم الإمبراطوري والشعارات الليبرالية والإنسانية. لكن الأهم، أنه ساهم في زيادة الاستقطاب السياسي لصالح كل من اليمين المتطرف واليسار، اللذين يُقوِّيان موضوعيًا بعضهما بعضًا، بطريقة حماس واليمين الإسرائيلي كما أشرت في المقال الأول من هذه السلسلة، على حساب قوى يمين الوسط ويسار الوسط، التي هيمنت على التوازنات السياسية الغربية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.
لكنَّ المتناقضات تكتنف أيضًا السياسات الغربية الرسمية. تمثّل إسرائيل من الوجهة الاستراتيجية ثقلًا أساسيًا لصالح الغرب في المنطقة، ولعبت بالفعل أدوارًا مهمة في لجم حركة القومية العربية التي كانت في مجملها معادية للغرب في حقبة الحرب الباردة، ولاحقًا في لجم إيران الملالي وحلفائها. كما أنَّ إسرائيل مرتبطة عضويًا بتاريخ الغرب كما ذكرتُ.
"الجزرة" أصبحت تصحبها "عصا"، تجاوزت التمسك بحل الدولتين إلى إعلان عقوبات أمريكية ضد مجموعات من المستوطنين الإسرائيليين
في المقابل، أبرزت حرب غزة جانبًا مهمًا، طالما جرى إهماله، وهو أن استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أهم أسباب التوتر في المنطقة، وعلى الأقل أحد أهم ذرائع نشاط المعسكر الإيراني-الميليشياوي، وأحد أهم مصادر قدرته على التمدُّد.
تسعى حكومات الغرب إلى حل هذه المعضلات الغربية والإقليمية بضربة واحدة، وهي الضغط النشط من أجل حل الدولتين، على أساس أن ذلك من شأنه إضعاف قوى الاستقطاب الداخلي في الغرب، وتهدئة منطقة الشرق الأوسط بشكل مستدام، على حساب معسكر الممانعة. وهذه التهدئة المأمولة أصبحت مهمة على مستوى استراتيجي، لرغبة الولايات المتحدة وحلف الناتو في تركيز جهودهما على كل من الغريمين الروسي، عسكريًا، والصيني، اقتصاديًا.
هذا المَخرَج المقترَح يواجَه برفض إسرائيل لمبدأ حل الدولتين، وتوسعها في الاستيطان، وتضييقها على السلطة الفلسطينية، وسعيها إلى التخلص من منظمة الأونروا، فضلًا عن إصرارها على المضي في تدمير رفح.
ويبدو أن من أهم أهداف الولايات المتحدة لدعم إسرائيل عسكريًا، وتأمينها بردع أية محاولة لتوسيع نطاق الحرب، ومؤخرًا المشاركة في التصدي للصواريخ الإيرانية، تهدئة مخاوف إسرائيل من العداء المتزايد لها في المنطقة، وإقناعها بأن تثق في الدعم الغربي المباشر لها، حتى تتوقف عن معارضة حل الدولتين.
لكن هذه "الجزرة" أصبحت تصحبها "عصا"، تجاوزت التمسك بحل الدولتين، إلى إعلان عقوبات أمريكية ضد مجموعات من المستوطنين الإسرائيليين، ومطالبة الحكومة الإسرائيلية بالسيطرة على تصرفاتهم، والضغط لمنع اجتياح رفح، وصولًا إلى إيقاف بعض أنواع السلاح لإسرائيل. وقد يتجاوز الضغط الغربي هذا الحد لاحقًا، خصوصًا بعد انتهاء الحرب.
على خلاف بعض وجهات النظر العربية الشعبوية، فإن الضغط الغربي على إسرائيل أبعد من أن يكون رمزيًا، أو أن يرمي إلى "ذر الرماد في العيون"؛ فهو يشكل العائق الأساسي أمام إسرائيل لجني ثمار الحرب وتضحياتها فيها، بشريًا واقتصاديًا وسياسيًا، على الأقل حسب تصورات اليمين الإسرائيلي.
وأدت الضغوط الغربية بالفعل إلى تراجع إسرائيل إلى حد كبير عن فكرة لفظ الفلسطينيين خارج القطاع، إلى سيناء، وإضعاف فكرة حكم إسرائيل لغزة بشكل مباشر بعد الحرب. كما أثار هذا الضغط بالفعل مرارة كبيرة لدى حكام إسرائيل، لأنه يعني أن التزام الغرب الثابت بأمن إسرائيل لا يعني تأييد كافة تصوراتها وطموحاتها وخططها تجاه أعدائها.
يُضاف إلى ذلك أن حرب غزة أدت واقعيًا إلى تآكل نفوذ الرؤية الصهيونية بين جماهير الغرب، وتزايد اهتمام قطاعات معتبرة من الشباب بتقصي أبعاد الصراع التاريخية، مما قد يسفر، على مدى أبعد، عن تغير الموقف الغربي من الفكرة الصهيونية نفسها.
هذا فضلًا عن العزلة المتزايدة التي تواجهها إسرائيل من أغلبية عظمى من دول العالم؛ طالبت منذ وقت مبكر من الصراع بوقف الحرب، وصولًا إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، مثل بوليفيا. وبالتالي يبدو أن إسرائيل بات عليها أن تختار بين تفاقم عزلتها الدولية، أو الاقتناع بتجرع دواء حل الدولتين المر، والذي، وإن كان يضمن لها صداقة دول عربية مهمة على رأسها السعودية، لن يمحو خطر المعسكر الميليشياوي الإقليمي، ولن يجلب لها السلام، إذا جلبه، إلا بعد حرب أخرى واحدة على الأقل ضد هذا المعسكر، وهي حرب لم يَعِدها أحد بمشاركتها في شنها.
في النهاية..
تبدو حرب غزة في التحليل الأخير صراعًا بين تصورين عن المنطقة: تصور إسلامي ميليشياوي إمبراطوري النزعة، وآخر دولتي معتدل، مشروعه الحل السلمي للقضية الفلسطينية. ويشمل هذا الانقسام، كما رأينا، القوى الفلسطينية، والقوى الإسرائيلية، والقوى الإقليمية. وكان ممتدًا في الماضي عالميًا، حين كانت الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة تتبنى الميليشياوية كأداة في مواجهة اليسار والاتحاد السوفييتي، قبل أن يذوق هؤلاء جميعًا العواقب المرة لاختياراتهم.
أضعفت الحرب بلا شك المعسكر الإسلامي الميليشياوي، و"حليفه الموضوعي" اليمين الإسرائيلي، وهذا لا يعني القضاء على حماس. لكنَّ توظيف المعسكر الآخر للحرب لصالحه، بتنفيذ حل الدولتين، لا يبدو سهلًا، بسبب العراقيل القائمة بالفعل على الجانبين؛ الإسرائيلي، والميليشياوي - الإيراني.
إذا لم ينجح هذا المسار الصعب، ستعود المنطقة مرة أخرى إلى إدارة الصراع بالمسكنات والحلول المؤقتة.