كانت خلاصة المقال السابق أنَّ طرفي الحرب لا يسعيان إلى التوصل لأي حل سياسي من أي نوع للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن هناك طرفًا فلسطينيًا آخرَ لم يكف منذ بداية التسعينيات عن مطاردة حلم الدولة الفلسطينية عبر التفاوض مع إسرائيل. هذا الطرف هو السلطة الفلسطينية، ومقرها رام الله في الضفة الغربية. تتمتع السلطة، بخلاف حماس، باعتراف دولي وإقليمي، وإسرائيلي، كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وبَنَت عبر ثلاثة عقود أجهزة دولة كاملة تنتظر فرصة لبسط سيطرتها على دولة فلسطينية مستقلة إلى جوار إسرائيل.
تأسست هذه السلطة كثمرة لكفاح سياسي وعسكري طويل ضد إسرائيل، قامت به منظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسست عام 1964، وتشكل فصيلها الأكبر، منظمة فتح، قبل ذلك بسنوات.
بعد صراع مسلح طويل، خسرت المنظمة موقعها الأخير الذي كانت تشن منه عمليات ضد إسرائيل، بخروجها مضطرة من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي في 1982؛ لكنها استعادت ثقلها حين نجحت في قيادة أول انتفاضة فلسطينية انطلقت بشكل عفوي في قطاع غزة والضفة الغربية عام 1987.
استثمرت المنظمة هذه الانتفاضة، في ظروف إقليمية وعالمية صعبة، من أجل التوصل إلى اتفاق أوسلو عام 1993 مع إسرائيل. اعترفت وقتها الأخيرة بوجود شعب فلسطيني له قيادة شرعية هي منظمة التحرير، وأنَّ له الحق في إقامة دولته بشكل عام في الضفة والقطاع، مع إرجاء المشكلات المعقدة الكثيرة، ومن بينها حدود هذه الدولة، لجولات تفاوض مقبلة.
في المقابل، اعترفت منظمة التحرير بإسرائيل رسميًا وأعلنت تخليها عن الكفاح المسلح. وبناءً على ذلك أقيمت السلطة الفلسطينية عام 1994.
بينما تنطلق منظمة التحرير من تمثيل الشعب الفلسطيني بكافة أديانه، تنطلق حماس من فكرة إسلامية
لكنَّ مزيج المفاوضات والضغوط، وحتى استعادة الكفاح "شبه المسلح" الذي بلغ ذروته في الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، لم يُسفر عن تحقيق الحلم. وذلك بسبب حرص طرفي حرب غزة الحالية على إفشال استكمال اتفاق أوسلو كما أوضحت في المقال السابق. جدير بالذكر أن حماس نجحت في الانفراد بحكم غزة وطرد ممثلي رام اللـه في حدثٍ دامٍ وقع عام 2007.
ومع انفجار حرب غزة، أصبحت الأضواء مسلطة مرة أخرى على السلطة الفلسطينية، لأنها، بسبب اتفاق أوسلو، المُرتَكز الوحيد المتاح لأي جهود إقليمية أو دولية تهدف إلى التوصل إلى حل سلمي نهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لكن هذه السلطة تجد نفسها في موقف صعب لأسباب عديدة، أهمها أنها مُطالَبة بأن تثبت قدرتها على ضمان أمن إسرائيل، بحيث تكون إقامة الدولة الفلسطينية نهاية فعلية للصراع، لا رسمية فحسب.
إلى حد ما، حاولت سلطة رام الله القيام بذلك، فألقت شرطتها القبض مرارًا على بعض من حاولوا القيام بعمليات مسلحة ضد إسرائيل في الضفة، لكنها كثيرًا ما فشلت في إيقاف آخرين. وتضاعَف هذا الفشل في الشهور التي سبقت عملية السابع من أكتوبر؛ فكثرت حوادث الدهس والطعن.. إلخ، التي قام بها شباب فلسطيني.
تستعمل إسرائيل هذا الواقع لتبرهن على أن السلطة الفلسطينية غير مؤهلة للتحول إلى دولة ذات سيادة، ولتشدد قبضتها الأمنية على الضفة بنفسها، فتجعل حياة الفلسطينيين فيها جحيمًا بطرق متعددة، في حلقة مفرغة من الفعل ورد الفعل.
لماذا ينتصر رافضو أوسلو؟
هذه الحلقة المفرغة لها أسباب أعمق. فمن جهة هناك قطاع ملحوظ من أهل الضفة يميل لحماس وتنظيمات إسلامية أخرى، وقطاع آخر يميل إلى اتّباع تكتيكاتها العنيفة وتصوراتها الرافضة لأوسلو والقائلة بتحرير فلسطين، رغم اختلافه مع رؤيتها العامة القائلة بالقضاء على دولة إسرائيل وإقامة دولة إسلامية "من النهر إلى البحر".
هذا الميل يرجع بدوره إلى رفض إسرائيل تقديم تنازلات في قضايا أساسية للوصول باتفاق أوسلو إلى نهايته: قيام الدولة الفلسطينية. على رأس هذه القضايا الاستيطان اليهودي في أراضي 1967، الذي تضاعف أكثر من سبع مرات منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الآن.
ومع عمليات الهجوم على المستوطنات المتزايدة العَدد، ربطت إسرائيل بينها بطرق مؤمَّنة، مزقت الضفة إلى عشرات التجمعات الفلسطينية المنفصلة، بينها نقاط تفتيش إسرائيلية مُذلة. هذا بالإضافة إلى التضييق على السلطة الفلسطينية ماليًا من وقت إلى آخر. والخلاصة هي تعزيز دائرة العنف بدلًا من تراجعها.
هذه الدائرة لا تستطيع السلطة الفلسطينية أن تحد منها، لأنها لا تواجه مجرد مبادرات فردية لشن هجمات على يهود إسرائيل، بل تواجه تنظيمًا موازيًا لها، لا يختلف معها في الرؤية التكتيكية فحسب (التفاوض أو القتال)، بل أيضًا في الرؤية السياسية (دولة على حدود 1967 أو القضاء على إسرائيل).
والأكثر عمقًا بينهما هو الخلاف الأيديولوجي؛ فبينما تنطلق منظمة التحرير من فكرة وطنية فلسطينية، تمثل الشعب الفلسطيني بكافة أديانه، وفقط الشعب الفلسطيني، تنطلق حماس من فكرة إسلامية ترجع إلى أصولها الإخوانية، أقامت عليها خلافها مع منظمة التحرير مند البداية، قبل أن تشرع منظمة التحرير في مسار السلام.
رغم هذه الخلافات الجوهرية، الأيديولوجية والسياسية، لا تستطيع السلطة الفلسطينية أن تنزع سلاح حماس، ولا تستطيع حتى أن تُعلنها منظمة غير مشروعة أو معادية، لأن ذلك من شأنه، خصوصًا في ظل تعثر مسار أوسلو، أن يدينها فلسطينيًا ويجعلها تبدو كأداة في يد إسرائيل ضد ما يراه كثيرون "المقاومة الحقيقية" التي تقوم بها حماس للاحتلال.
مثلما تجد السلطة الفلسطينية استحالة في مواجهة حماس، يصعب على القوى الإسرائيلية الراغبة في السلام منع الاستيطان
جدير بالذكر أن حماس، بالمقابل، لم تتردد في عبور أي خطوط حمراء للاحتفاظ "بسيادتها" المنفردة على قطاع غزة. فلم تكتفِ بقتل وطرد ممثلي السلطة الفلسطينية من القطاع عام 2007، بحصيلة تجاوزت المائة قتيل، بل قاتلت أيضًا تنظيمات السلفية الجهادية في غزة مرارًا، لأسباب مختلفة، إلى أن فرضت هيمنتها عليها.
ومن جهة أخرى، شجعت قوى اليمين الإسرائيلي الرافضة لمبدأ إقامة دولة فلسطينية هذا الانقسام، لأنه يُضعف مصداقية السلطة الفلسطينية في التفاوض باسم الفلسطينيين، في حين أن حماس، من وجهة نظره، مجرد خطر أمني.
بهذا المنطق، شجعت تل أبيب حماس في البداية، ووافقت ضمنيًا على حكمها لغزة، و"تساهلت" معها فيما يتعلق بإمداد قطاع غزة بالطاقة والمعونات الدولية وأموال قطر، حين تتوقف عن القيام بعمليات ضد إسرائيل؛ مع استمرار حصارها للقطاع.
على هذا النحو تضافرت جهود حماس وإسرائيل لحرمان السلطة الفلسطينية، بوصفها مشروع دولة، من احتكار القرار الفلسطيني.
نجد المشكلة نفسها على الجانب الإسرائيلي؛ فمثلما تجد السلطة الفلسطينية نفسها في مأزق صعوبة أو استحالة مواجهة حماس، يصعب على القوى الإسرائيلية الراغبة في السلام أن تمنع الاستيطان، رغم أنه متناقض مع مبدأ حل الدولتين.
كان أقصى ما استطاع اليسار الإسرائيلي أن يَعِد به هو إيقاف بناء مستوطنات جديدة، وتصفية بؤر الاستيطان الهامشية. لكنَّ هذا نفسه واجه تحديات كبيرة، لأنَّ الاستيطان مبدأ مغروس في بنية الحركة الصهيونية، والدولة التي نتجت عنها، وتقف وراءه قوى أساسية في المجتمع الإسرائيلي، تتمثل في اليمين واليمين المتطرف، والنشطاء المتعصبين الذين يبادرون بأنفسهم بالاستيطان في مناطق مختلفة.
لكن لعل أخطر أشكال هذه المقاومة لفكرة السلام، هو اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي وقّع اتفاق أوسلو، إسحاق رابين، عام 1995، على يد متطرف ديني يهودي ناشط في مجال الاستيطان، اعتبر أنَّ تسليم أي أراضٍ للسلطة الفلسطينية انتهاك للتوراة.
وهكذا يبدو تنفيذ اليسار الإسرائيلي لوعوده، على محدوديتها، أقرب إلى مخاطرة بمواجهة داخلية دامية في إسرائيل، وربما بحرب أهلية.
الخلاصة
أن الطرفين الراغبين في حل تفاوضي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي الطويل يجدان نفسيهما في موقف الضَعف أمام الطرفين المتشددين في معسكريهما. لكنَّ المفارقة هي أن عملية السابع من أكتوبر، التي سلطت الضوء على خطورة سياسة اليمين الإسرائيلي دفعته دفعًا إلى تحطيم حماس، التي هي شريكه الموضوعي، رغم تناقض المنطلقات، في رفض أوسلو وإضعاف السلطة الفلسطينية؛ وبالتالي أصبحت مشكلته الأساسية هي منع السلطة الفلسطينية من العودة إلى حكم قطاع غزة في حالة القضاء على حكم حماس للقطاع.