أصابني شعورٌ غريبٌ عندما شاهدت فيلم أونكل زيزو حبيبي لأول مرة على التليفزيون، لم يكن مألوفًا بالنسبة لي طفلًا أن يظهر محمد صبحي في فيلم، حيث اعتدت على مشاهدته في المسلسلات والمسرحيات التي أحببتها.
أيضًا لم أسمع أحدًا في دائرتي المقربة يقول إنه يحب فيلمًا لمحمد صبحي، قد يبدي أحدهم إعجابًا بأفلام لعادل إمام أو أحمد زكي أو محمد هنيدي أو علاء ولي الدين، وإن تصادف أنه في الوقت نفسه يحب مسلسل "ونيس" أو "رحلة المليون"، أو مسرحيات "الهمجي" و"وجهة نظر"!
في الفيلم الوثائقي آفاق الذي أخرجه شادي عبد السلام عام 1972، يظهر محمد صبحي ممسكًا الكاميرا، يتحرك فيما يشبه مدرسة أو مكتبة، ثم يظهر لاحقًا بينما يؤدي دور هاملت على خشبة المسرح، وهي المسرحية التي أخرجها وقام ببطولتها في الوقت نفسه.
في ذلك الوقت كان صبحي قريبًا من شادي عبد السلام بحكم تحضيرهما لفيلم إخناتون، الذي كان من المفترض عرضه في تلك السنة (1972)، لكنه تعثر ماديًا، وظل متعثرًا حتى تُوفي عبد السلام عام 1986، وهو العام الذي تلى اضطلاع صبحي ببطولته السينمائية المطلقة الأولى في أربعة أفلام دفعة واحدة، ما رسخ وجوده بطلًا سينمائيًّا أيضًا، لا تليفزيونيًّا أو مسرحيًّا فقط.
من الصفر
لم يتوقف صبحي عند ضياع فرصة بطولة فيلم ضخم مثل إخناتون، حيث بدأ مسيرته السينمائية من خلال فيلم أبناء الصمت عام 1974، ثم تدرج في الأدوار بين الكومبارس الصامت في فيلم فيفا زلاطا (1976)، إلى ما هو أكبر نسبيًا في أفلام مثل الكرنك (1975)، وأين المفر (1977). على الرغم من أنه كان بطلًا على خشبة المسرح في مسرحيات مثل انتهى الدرس يا غبي (1975)، وعلي بيه مظهر (1976)، بالإضافة إلى هاملت.
جاءت الفرصة الأولى للبطولة عام 1977، مع مخرج كبير مثل نيازي مصطفى في فيلم أونكل زيزو حبيبي، أحد أشهر أفلام محمد صبحي، الذي قام فيه بدور شاب هزيل الجسد يريد أن يصبح بطلًا رياضيًا، ما يجعله مثار سخرية للمحيطين به. لكنه يصبح خارقًا بعد حقنة العلف المخلوط بإشعاعات الطبق الفضائي الطائر، قبل أن يدرك مع الوقت أن القوة الحقيقية في الإرادة والمثابرة.
بعد البطولة الأولى، لعب صبحي عدة أدوار مساعدة، مع احتفاظه بكرسي النجم على المسرح، حتى جاء عام 1985، حين قام ببطولة 4 أفلام دفعة واحدة، هنا القاهرة من إخراج عمر عبد العزيز، علي بيه مظهر و40 حرامي من تأليف شريك نجاحه المسرحي لينين الرملي ومن إخراج أحمد ياسين، الذي أخرج أيضًا العبقري خمسة من تأليف سمير عبد العظيم، وأخيرًا فيلم الجريح من تأليف وإخراج مدحت السباعي.
والأخير فيلم ميلودرامي بعيد تمام البُعد عن الكوميديا، لعب صبحي فيه شخصية أخلاقية تكاد تقترب من طهارة الأنبياء، لا يكذب ولا يخدع ولا يظلم ويدافع عن الحق حتى لو على نفسه، لكنه يصطدم بفساد عظيم لا يقوى على مواجهته.
تظهر ملامح مشروع صبحي غير المكتمل في السينما منذ فيلم أونكل زيزو، الذي يمكن أن نطلق على تيمته الأساسية "From zero to hero"، أو رحلة يخوضها بطل الفيلم من كونه لا شيء إلى بطل.
هذه التيمة تتضح بأشكال مختلفة خلال مشروعه السينمائي المبتور؛ مثلًا عبر صورة "السباحة في حوض أسماك القرش"، التي تحكي عادة قصة بطل يواجه مخاطر أكبر منه، مثل عشوائية القاهرة وقسوتها في فيلم هنا القاهرة، أو مواجهة عصابة لتهريب المخدرات في فيلم العميل رقم 13.
ورغم اختلاف المؤلفين والمخرجين، فإن تلك الأفلام جميعًا تدخل ضمن نطاق مواجهة البطل لشيء أكبر منه؛ وتنطبق كذلك على أفلامه الأخرى؛ محامي تحت التمرين (1986)، راجل بسبع أرواح (1987)، المشاغب ستة (1988)، الفلوس والوحوش (1988)، إحنا اللي سرقنا الحرامية (1989)، حالة مراهقة (1990)، الشيطانة التي أحبتني (1990)، بطل من الصعيد (1991).
امتلك صبحي مشروعًا سينمائيًا ذا اتجاه واضح، لكنه مشروع مجهض، غير مكتمل، مفكك، لا يُفهم لماذا لم يعمل عليه بالجدية ذاتها التي خص بها المسرح والتليفزيون. هل لعبت إيرادات الأفلام ومدى جماهيريتها دورًا في ذلك؟ أم ساهم وجود لينين الرملي معه في المسرح والتليفزيون في دعم تلك المشاريع وإضفاء ثقل عليها؟ أم مزيج بين هذا وذاك.
تقريبًا لا توجد إحصائيات ترصد تاريخ إيرادات أفلام صبحي، لكن الناقد طارق الشناوي يُشير في مقال له إلى أن فيلم العبقري خمسة نجح جماهيريًا وقت عرضه.
صبحي نفسه حاول تكرار التجربة مع المنتج والكاتب سمير عبد العظيم في فيلم المشاغب ستة، لكنه لم ينجح على ما يبدو مثل سابقه.
ربما لم يملك الثقة نفسها تجاه الوسيط السينمائي مقارنة بما يكنه تجاه المسرح والتليفزيون، فحسب ما قاله في لقاء تليفزيوني، كان يفضل إيصال الرسائل عن طريق هاتين الوسيلتين، لأنه حسب رأيه مسؤول عما يصنعه فيهما، أما السينما فصناعة هو فرد فيها وليس المتحكم الأوحد. ما تعضده شهادات بعض الذين عملوا معه، عن ميله للتحكم في كل شيء يحدث حوله، تحديدًا في المسرح.
... وبعد
يمكنك إدراك مدى التفاوت في النضج عند النظر إلى مشروعي صبحي السينمائي والمسرحي، حيث خاض الأخير مع مؤلف صاحب فكر ورؤية مثل لينين الرملي ما أضاف إلى المشروع رسوخًا وثقلًا، جعله ببساطة أحد أهم مشاريع المسرح التجاري في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إن لم يكن التجربة الأهم والأكثر نضجًا في ذلك الوقت.
ثمة سبب واضح لعدم اكتمال مشروع صبحي السينمائي، وهو أنه لم يتحرك في مساحات واسعة من الأدوار المختلفة، بمعنى أنه لعب أغلب أدواره بالطريقة نفسها تقريبًا. مثلًا موظف المطار في العميل رقم 13، الذي يمكنك رؤية بعض من ملامحه في شخصية الضابط في فيلم الشيطانة التي أحبتني.
أيضًا تتشابه شخصية الصعيدي كثيرًا مع شخصية الفلاح في أفلام مثل هنا القاهرة، وبطل من الصعيد، والعبقري خمسة، فقط يمد بعض الحروف نُطقًا في نهاية الجُمل إذا لعب دور الفلاح، ويتحدث بصوت غليظ بعض الشيء إذا لعب دور الصعيدي، ما يجعلهما متشابهين إلى حد كبير.
بالإضافة إلى صعوبة تصديقه في أدوار المجرم "الصايع"، أو الأدوار الرومانسية التي يضيف إليها جرعة كوميدية زائدة عن الحد في كثير من الأحيان. لكنه بالطبع لا يزال ممثلًا جيدًا يمتلك أدوات كوميدية وحركية مميزة ومتنوعة.
ثم الاحتجاب
منذ عام 1991 اختفى صبحي تمامًا عن الساحة السينمائية، 32 عامًا مرت دون أن يظهر على الشاشة الفضية ولو لمرة واحدة. رغم أنه لم يندم على أفلامه السابقة، حسب تعبيره، ويرى أن السينما هي التي فشلت بينما لم يفشل هو، لكنه اختار الابتعاد/التوقُّف، وفضّل بيع السينما على بيع نفسه حسب تصريحاته في العديد من اللقاءات التليفزيونية، لأنه كاد أن ينزلق إلى بطولة أفلام المقاولات، وعُرضت عليه مبالغ ضخمة ليشارك في تلك النوعية من الأفلام.
بعد ثلاث سنوات من التوقف عن الظهور في السينما، وأيضًا من التعاون مع لينين الرملي بعد آخر مسرحياتهما بالعربي الفصيح، التي أخرجها صبحي ولم يقم ببطولتها. قدم أيقونته التليفزيونية يوميات ونيس عام 1994، التي استمرت في 5 أجزاء ناجحة حتى عام 2000، ثم قدم ثلاثة أخرى باهتة أعوام 2009 و2010 و2013، ليصبح مجموع ما قدمه من يوميات ونيس 8 أجزاء بالإضافة إلى مسرحية عائلة ونيس التي قدمها قبل الموسم الخامس عام 1997.
منذ ذلك الوقت، وربما بسبب النجاح الكبير للمسلسل القائمة فكرته على معالجة العادات المجتمعية السيئة، اتسمت أعمال صبحي بخطابات توعوية ورسائل تربوية واجتماعية، أغلبها مباشر بلا تورية، ولم يعد يمزج بين المضمون والمتعة كأعماله مع لينين الرملي، فبدأت رحلته مع حراسة الأخلاق، التي امتدت إلى اللقاءات التليفزيونية والتصريحات العامة، ويبدو أنه وجد ضالته في تلك الرسائل، أو أنها كانت مخزونة في عقله لم تظهر في أعماله السابقة.
في لقاء تليفزيوني، عبّر صبحي عن امتنانه للشباب العربي والمصريين الذين قابلهم في أمريكا وبلاد أخرى وأخبروه أنهم "تربوا على يديه" أو "نشأوا على يد بابا ونيس"، ما أكد له صحة اختياره في بث الرسائل التربوية، التي يرى أنها مهمة الفنان لأن الفن مسؤولية خطيرة، فانشغل بتقديم تلك الرسائل في قالب يراه فنيًا، لكنه لم يكن كذلك، وأعماله الأخيرة في المسرح أو التليفزيون خير دليل على ذلك.
قبل عامين، حمّل صاحب ونيس في حوار ضمن برنامج حقائق وأسرار على قناة صدى البلد، ذنب جريمة الإسماعيلية المروعة عام 2021، للسينما التي تعرض سلوكيات البلطجة وتجار المخدرات. أيضًا قال إن السينما تُظهر المرأة المصرية في أبشع صورة، وتساءل أين ذهبت صورة المرأة "التي صنعت رجال"؟
الرجل بالفعل يرى الفن، بصورة عامة، أداة تربوية للأطفال والشباب، أو بالأحرى "أداة لبناء الإنسان" كما أشار في لقائه المذكور، دون رؤية حقيقية وواقعية عن دور الفن والأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى مثل تلك الجرائم، من الفقر وانتشار المخدرات التي تفتك بعقل الإنسان، أو حتى إصابة ذلك العقل بخلل/مرض يفقده القدرة على التمييز. فسفّاح الجيزة لا بد أن يكون قد شاهد فيلم سفاح النساء (1970) وقرر أن يتخذ مجرمه قدوة يقتدي بها في حياته.
حاليًا حصر محمد صبحي تمثيله على مسرحه في مدينة سنبل الصحراوية، كأنه قرر الاحتفاظ بما يمتلكه من أدوات ومهارات لنفسه، أو لقلة قليلة قادرة على شد الرحال إلى الصحراء لمشاهدة مسرحياته التي فقدت جزءًا كبيرًا من توهجها. هل يتعالى صبحي على الجمهور أم يتعالى على صناعة السينما والمسلسلات بأكملها؟ ولماذا لم يقدم حتى أفكاره التربوية والاجتماعية من خلال أفلام أو مسلسلات على المنصات المنتشرة حاليًا؟
قبل أشهر أذيع الجزء الثالث من المسلسل الأمريكي Only murders in the building، وهو مسلسل جريمة كوميدي من بطولة ستيف مارتن ومارتن شورت وسيلينا جوميز، يقوم ستيف مارتن بدور ممثل انحسرت عنه الأضواء، ويؤدي مارتن شورت دور مخرج مسرحي فشلت مسرحياته ففقد حضوره، حتى اجتمع مع جاريه لحل لغز جريمة قتل غامضة حدثت في المبنى الذي يسكنونه، ما دفعهم إلى إطلاق بودكاست لحل الجرائم، ما أكسبهم بعض الشهرة من جديد.
يصلح محمد صبحي لأداء الدورين كليهما، أو يمكنه أن يشارك في مسلسل أو فيلم بصحبة أحد نجوم الجيل الجديد، ومشاركته ستكون دون شك مؤثرة وذات صدى واسع، لأنه وعلى الرغم من تصريحاته ولعبه دور حارس الأخلاق، لا يزال يمتلك رصيدًا كبيرًا من الحب، أو الفضول على الأقل، من المختلفين مع آرائه قبل المتفقين معها. فهل تكون تلك فرصة للعودة إلى شاشة السينما، أو إحدى منصات عرض الأفلام والمسلسلات، سواء أكان بطلًا أو بطلًا مساعدًا؟ بلا شك ستكون عودته جديرة بالانتظار.