"كان نفسي ألقى نفسي واد حبيب وبيه
ومعايا فلوس كتير 30 تلاف جنيه
أشرب كازوزا في العجوزة مع استاكوزا إيه".
تتردد الكلمات مع موسيقاها الراقصة في كل شوارع القاهرة والإسكندرية، فتصبح أغنية صيف 1997 الرسمية. كنتُ في عمر الثانية عشرة، وهكذا حضرت الفيلم الذي تُعرض إعلاناته مع الأغنية، والذي أصبح أول فيلم حقيقي أشاهده في السينما على الإطلاق.
لم يكن فيلم إسماعيلية رايح جاي بداية طريقي وحدي إلى السينما المصرية الحديثة، ولكنه كان بداية جديدة للصناعة عمومًا، أحدثت انقلابًا غير متوقع في شباك التذاكر الذي تصدره بأعلى إيرادات حتى تاريخ عرضه. ولفت الأنظار إليه، جمهورًا ونقادًا، وفتح الباب لغيره من الأفلام التي اعتمدت الخلطة ذاتها لإدراك النجاح ذاته.
رغم صغر سني، فهمت بالتدريج أن هناك جيل "راحت عليه"، وآخر يستعد لاحتلال مكانه. الآن وبعد أكثر من ربع قرن على ظهور "المضحكون الجدد"، ممن قدموا أفلامًا استهدفت الضحك بشكل أساسي، نستعيد لحظة الـ"بوووم" التي غيرت وجه السينما.
قبل البداية
نقع في خطأ كبير، عندما نكتب تاريخ السينما، واضعين فواصل محددة لبدايات موجات السينما المختلفة، فلا يمكن الجزم بأن فيلم روما مدينة مفتوحة (Rome Open City) هو بداية الواقعية الإيطالية الجديدة، إذ سبقته محاولات لتقديم سينما مغايرة، بعد الحرب العالمية الثانية. كما لا يمكننا القول بأن "إسماعيلية رايح جاي" نبتٌ شيطاني ظهر من العدم، بل ابن لحظة سبقتها سنوات من التغيير.
هذا التغيير تظهر سماته في التسعينيات، التي شهدت بحسب الناقد أندرو محسن "انخفاضًا تدريجيًا في جودة الأفلام السينمائية".
ويضيف في تصريحات إلى المنصة "التسعينيات لم تكن مرحلة سيئة للسينما، في بدايتها عُرضت أفلام لعاطف الطيب وشريف عرفة ووحيد حامد وعادل إمام، أفلام لازلنا نتحدث عنها ونشاهدها، ولكن تدريجيًا بدأ ذلك الزخم يقل، وبدأ عادل إمام في تقديم أفلام أقل جودة، رغم نجاحها تجاريًا".
وتوضح الناقدة رحمة الحداد للمنصة أن السينما بدأت من ذلك العقد "تبيع بأسماء الوجوه الظاهرة على أفيشاتها وليس بأسماء الصانعين وراء الكاميرات، وهي سينما طبيعتها من طبيعة أبطالها يصعب التفريق بين ذواتهم والشخصيات التي يمثلونها".
لكن مع الوقت لم يعد الجمهور ينجذب إلى تلك النوعية بالقدر الكافي، وربما بدأ في العزوف عن دخول السينما، مستبدلًا القنوات الفضائية بها، والتي كانت بدأت في الانتشار.
كان الجمهور مل من الأفلام المكررة، استمر عادل إمام على سبيل المثال في استغلال نجاح بخيت وعديلة في جزء ثانٍ عام 1996، ثم عاد إليه كمحاولة أخيرة لاستعادة نجوميته عام 2000 بعنوان هاللو أمريكا، بينما أفل نجم نادية الجندي بالتدريج، وانصرف الجمهور عن أفلام الواقعية المصرية الجديدة التي تؤلب عليهم المواجع في ظل مناخ سياسي واجتماعي واقتصادي ساده الفتور.
ليصبح الجو مهيئًا لاستقبال نوعية مختلفة من الأفلام، تبتعد بالمواطن الذي يعاني في يومه العادي عن الميلودراما التي تقدمها سينما النجوم الواقعية. تقول الكاتبة والناقدة السينمائية أروى تاج الدين، إن "الجمهور وجد ضالته في هذه الأفلام".
الأدوار الصغيرة للممثلين في أفلام النجوم كانت كأنها المقبلات للوجبة الرئيسية
وتضيف للمنصة "كان حضور الفيلم الكوميدي في ذلك الوقت نادرًا، إن لم يكن شبه منعدم، ولا يمكننا أن نطلق على الأفلام الاجتماعية أو الميلودرامية التي تتضمن حسًا فكاهيًا ساخرًا أنها أفلام كوميدية بالأساس".
هذا الحس الفكاهي مثّل بالونة الاختبار لنجوم الجيل القادم "أدرك عادل إمام أهمية وقيمة نجوم الشباب بالنسبة للجمهور وشباك التذاكر، فاستعان بهم في العديد من أفلامه، كما حدث مع محمد هنيدي وعلاء ولي الدين"، تقول أروى.
هذه الأدوار الصغيرة مهدت الطريق أمام أفلام الموجة الكوميدية، وكأنها المقبلات للوجبة الرئيسية، حتى حانت اللحظة المناسبة لبدء موجة جديدة يحددها أحمد عزت، الناقد الفني، بـ"لحظة قرن ينتهي وآخر جديد يبدأ بأفكار وآفاق مختلفة، وجيل قديم من النجوم لا يعرف كيف يواكب هذه التغيرات، وسوق سينمائي يعاني من أزمة حقيقية مع قلة عدد الأفلام المنتجَة نتيجة لانتشار الفضائيات وبدايات الإنترنت وسينما المولات وجمهورها المختلف".
وحضرت "الكامننا"
أتخيل في بعض الأحيان رد فعل باحث شاب في تاريخ السينما، يرصد التغيرات الكبيرة التي أحدثها فيلم إسماعيلية رايح جاي، ثم شاهده، أعتقد أن دهشة كبيرة ستتملكه، دهشة لازالت تؤثر فيّ حتى الآن، رافعة سؤالًا نبحث هنا عن إجابته، لماذا حقق الفيلم ذلك النجاح اللافت؟
يؤكد أندرو محسن "لم يتوقع أحد نجاحه بهذا الشكل، فالمخرج لم يكن له منجز فني قبله تقريبًا، كما أن المنتج لم يكن مشهورًا، أما البطل محمد هنيدي كان له قبل وقت قريب من عرض الفيلم، فيلم حلق حوش مع ليلى علوي وعلاء ولي الدين ولم يحقق نجاحًا يذكر على الرغم من جودته مقارنة بفيلم إسماعيلية رايح جاي".
في الوقت الذي نرصد فيه ضعف إمكانيات الفيلم سينمائيًا، لا يمكن إنكار التوليفة المختلفة التي قدمها، قصة جمعت بين الحب والحرب والحلم القابل للتحقق، كان بطلها واحد من أشهر مغني المرحلة "من ناحية، المشاهدين يرغبون في الخروج من التكرار الذي يشاهدونه، ومن ناحية أخرى محمد هنيدي اكتسب بعض من الشعبية نتيجة ظهوره المتكرر في أدوار صغيرة مع عادل إمام وغيره، من ناحية ثالثة، نجومية محمد فؤاد كمطرب في هذه الفترة، والأغاني التي ساهمت في نجاح الفيلم بما فيها أغنية كامننا، وبالتالي كانت هناك عدة عوامل أدت إلى النجاح الكبير لهذا الفيلم"، يقول أندرو.
تغاضى المشاهد المتحمس للتغيير عن الأخطاء المنطقية في الفيلم التي تظهر جلية في الأغنية الشهيرة كامننا، إذ تدور الأحداث في السبعينيات في أعقاب حرب 1973، فيما يحلم الشابين بـ"الدش والموبايل والحتة الكوبيه". كما أن اختيار محمد فؤاد في دور طالب الثانوية العامة، كان اختيارًا خاطئًا نظرًا لسنه المعروف للجمهور.
وبالإضافة إلى القصة الميلودرامية التي هي فكرة محمد فؤاد عن قصة حياته الشخصية، والتي لم يضف كاتب السيناريو إليها ما يجعلها متفردة، لم نلمس رؤية في الإخراج تجعل الفيلم فارقًا على مستوى اللغة السينمائية. كل ذلك لم يقف عقبة في الطريق، على العكس تحول الفيلم إلى البوابة السحرية لعالم سينمائي جديد.
عندما كبرت في العمر سرحت مع خيالي في فرضية ماذا لو أن قصة الفيلم التي تدور حول الاغتراب، وتهجير سكان الإسماعيلية بعد حرب 1967، المغلفة بحكاية حب رقيقة قدمها مخرج مثل محمد خان، كانت لتصبح قطعة سينمائية مميزة، لكن سرعان ما عدت إلى الواقع لأسأل نفسي مرة أخرى لماذا نجح؟
موجة وعدت
مرت أكثر من 25 سنة على العرض الأول لفيلم إسماعيلية رايح جاي، والذي كان في 25 أغسطس/آب، مع ما أعقبه من أفلام مثل صعيدي في الجامعة الأمريكية الذي كتب نجاح محمد هنيدي وجعله منافسًا لعادل إمام في فيلم رسالة إلى الوالي، وأحمد زكي في اضحك الصورة تطلع حلوة وهيستيريا، وانطلق جميع ممثليه ليصبحوا نجومًا للشباك في العقود التالية.
هذا الجيل الذي استغل فرصته في الظهور وتقديم نوعية مختلفة من الأفلام، لتعلو موجة الكوميديا حتى تصل قمتها في مواسم اقتصرت على أفلام لا تقدم سوى إفيهات دون قصة أو حبكة درامية. يقول أندرو "أخرجت هذه الموجة الجيل الأول محمد هنيدي وعلاء ولي الدين وهاني رمزي، والجيل التالي أحمد حلمي ومحمد سعد، ثم الجيل الثالث على رأسه أحمد مكي والثلاثي شيكو وفهمي وهشام".
يمكن اعتبار مشوار هنيدي خلال الربع قرن المنصرم، نموذجًا لدورة حياة موجة الكوميديا التي بدأت على يديه، وربما انتهت كذلك عند أقدامه. قدم رائد الموجة/هنيدي في الأعوام التالية لـ"صعيدي في الجامعة الأمريكية" مجموعة من الأفلام التي اعتمدت على حبكات بسيطة، حول شاب عادي يُكافح ليجد لنفسه مكانًا في العالم، يلفظه الجميع في البداية، ثم ينجح رغم أنف كل العقبات في جعل الجميع يحبه، كما في "همام في أمستردام"، أو "سور الصين العظيم"، أو "بلية ودماغه العالية"، وغيرهم.
يوازن هنيدي نفسه على الموجة التي برغم انخفاضها غير أنها لازالت تحافظ على ارتفاع يبقيه ضمن السباق السينمائي. تقول الناقدة أروى تاج الدين أن الهدوء سببه "أن الأفلام صارت على وتيرة واحدة دون تجديد في الأفكار والحبكات وحتى أفيهات الشخصيات، واستمرارها بعد ذلك لم يكن سوى استحلاب لهوجة النجاح الأول".
وترى أروى أن "محمد هنيدي بالتحديد انكسرت موجة نجاحه بعد فيلم صعيدي مباشرة، ظل ينحدر تدريجيًا في شباك التذاكر حتى أصبحت أفلامه لا تستطيع جمع ما صُرف عليها".
لعب هنيدي ولا يزال في المنطقة الآمنة التي يعرفها، فظل يكرر نفسه، وتمسك بدور الشاب العادي
تجيب الناقدة رحمة الحداد لدى سؤالها عن أسباب الخفوت الذي يعاني منه نجوم الألفية بقولها "ابتذالهم لشخصياتهم السينمائية والعامة"، فلم يعد الجمهور مهتمًا بما يراه لأنه قديم ومكرر، تم تقديمه سابقًا في الأفلام، ومستعاد بشكل يومي ومكرر من خلال الميمز على السوشيال ميديا، على حد تعبيرها.
لعب هنيدي ولا يزال في المنطقة الآمنة التي يعرفها، فظل يُكرر نفسه، إذ تمسّك بدور الشاب العادي، فبعد فيلم رمضان مبروك أبو العلمين حمودة، الذي قدم فيه دور مدرس في منتصف العمر، عاد مرة أخرى مباشرة لمغامرات جيل لم يعد يمثله في "أمير البحار"، و"يوم مالوش لازمة"، وحتى "الإنس والنمس"، الذي يحكي قصة شاب يبحث عن الحب في المكان الخاطئ، فتنتهي القصة كالمعتاد، أو "نبيل الجميل أخصائي تجميل"، الذي قدم فيه دور خريج حديث من كلية الطب.
ترى رحمة أن التمسك بأدوار حديثي التخرج هو السبب وراء إنطفاء نجم هنيدي ورفاقه، وتقول "حاول النجوم بكل جهدهم أن يظلوا صغارًا مثلما كانوا في فترة تألقهم، متمسكين بأماكنهم في تراتبية الأدوار، لذلك خفت نجم معظمهم خاصة مع ظهور كوميديانات أحدث".
ظهرت أجيال أخرى تقدم محتوى أكثر طزاجة، لا يهمها ترتيب اسمها على الأفيش، ولا تناقش قضايا قومية وربما لا تناقش قضايا على الإطلاق، يقول أحمد عزت "بدأ كوميديانات جدد في الاستيلاء على المشهد بكوميديا أكثر اختلافًا وذكاءً ومجاراة للزمن مثل أحمد مكي والثلاثي أحمد فهمي وهشام وشيكو". لا تختلف الأفلام التي يقدمها الجيل الحالي كثيرًا من حيث القيمة، لكنها تجد صداها لدى جمهور يتحدث لغتها، ويفهم نكاتها.
ليست الوجوده الجديدة وحدها، ولكن أيضًا التغير في الصناعة ذاتها، والتي أصبحت تعتمد على المنصات الرقمية في عرض أفلامها.
لا يمكن إنكار موهبة هنيدي، وقدرته على الإضحاك حتى في أكثر الأفلام ركاكة، ولكنه في حاجة لإعادة إطلاق هذه الموهبة. أو ربما إعادة خلق موجة تلائم موهبته وعمره، واللحظة الحالية التي تشهد موت الموجات المتعاقبة من الكوميديانات، برغم الإنكار المتمثل في استمرار الإنتاج السينمائي، "محمد هنيدي انتهى وكذلك هاني رمزي، وحتى الجيل التالي له مثل محمد سعد انتهى" يؤكد أندرو. يتفق معه الناقد أحمد عزت بإشارته إلى "وصول السينما إلى أزمة كبيرة لم تعد بخافية على أحد".
تبدو هذه اللحظة وكأن التاريخ يُعيد نفسه، لحظة التسعينيات وإنطلاق موجة الأفلام الكوميدية، نجوم كبار يحاولون البقاء على أفيشات الشوارع، ووسيط مختلف جديد يفرض نوعية جديدة من الأفلام، وجيل مختلف يحمل همومًا وأحلامًا مختلفة، وواقع سياسي واجتماعي واقتصادي يحتاج إلى أفلام تعبر عنه بصدق، فهل نشهد بداية موجة جديدة من الأفلام؟.