تحول المدينة محبيها إما لرهبان ونُساك، أو إلى شهوانيين. هذا ما يؤكده لورانس داريل في مقدمته لأحد طبعات كتاب فورستر عن الإسكندرية.
المحبون الذين نراهم بين سطور داريل، أجانب، لا يستمعون إلى أي شيء سوى تاريخ المدينة البعيد. لا يستمعون إلى من يعيشونها مثلهم، وهي قدرهم، وليسوا زوارًا مؤقتين مثله، أو مثل فورستر، أو مثل مايكل هاج ناشر كتاب فورستر، المشار إليهم في المقال السابق.
لا ينتبه هؤلاء المحبون للسبب الجوهري لاستماعهم فقط إلى صوت التاريخ كمحبين، ولغياب أصوات السكندريين المعاصرين عن آذانهم. فأحدهم، فورستر، يُسمح له أحيانًا بخلع زيه العسكري خلال الحرب العالمية الأولى.
ذلك الزي، إن أضفناه إلى أصله الأرستقراطي وكونه زائر عابر، يخلق حاجزًا طبيعيًا بينه وبين السكان الأصليين. والاثنان الآخران، الناشر مايكل هاج وداريل، عابران من طبقة اجتماعية أعلى من أغلب سكان الإسكندرية، يقيمان في فندق سيسيل، فيحددان بوضوح المجال الطبقي والعرقي لتحركاتهما بعيدًا عن أصوات سكان الإسكندرية المنتمين للحاضر، وليس للتاريخ، وضوضائهم. حاضر تغلب عليه الهموم المعيشية اليومية، التي لا تنسجم مع حالة استرخاء الزائر العابر، القادم للاستماع لأصوات التاريخ.
الشهوانيات
تُوصف كليوباترا منذ أول صفحتين من مسرحية شكسبير، أنطونيو وكليوباترا، من ترجمة الراحل لويس عوض، بصفتين، الأول لا يعنينا حقيقة وهي أنها سمراء. لكن الصفة الثانية هي ما تعنينا، وتتكرر في المسرحية كثيرًا، أنها شهوانية وعاهرة.
بينما مع تطور العمل، يُلاحظ أن الشهوانية التي تدان بها كليوباترا، هي سمة لبعض الأبطال الذكور أيضًا، لكنها لا تسمهم. أنطونيو على سبيل المثال، يشتهي كل الأشياء: الأمجاد، السلطة، كليوباترا وحياته معها، وكلمات المديح من الآخرين. وبالرغم من أنه متعدد الزيجات التي لا تبتعد عنها شبهة الصفقات السياسية، فإنه لا يوصف بالصفة نفسها أو يُدان.
النزول للمعارك كامرأة لا يعني لدى الذكور سوى استخدام سلاح الجسد والجنس والمتعة والإغواء
إن وصفت النساء بالشهوانية يصبحن مدانات تلقائيًا. فالكثير من الذكور يتمنون المرأة الشهوانية لأنها ستمتعهم. لكنهم يدينونها أخلاقيًا في الوقت نفسه، وعادة ما يصفونها بـ"العاهرة". ربما بسبب خوفهم منها، وخشيتهم ألا يكونوا جديرين بها، وقادرين على إمتاعها. فبدلًا من الاعتراف بعدم الجدارة، من الأسهل أن يتم وصمها بالبغي.
الناشر مايكل هاج معجب بما يقوله فورستر عن كليوباترا السادسة، الشهيرة، التي تزوجت من أخين لها، وكانت عشيقة ليوليوس قيصر، وبعده لأنطونيو، "تعاملت مع عشيقها الجديد (المقصود أنطونيو) مثلما كانت تتعامل مع القديم بشهوانية، ولكن في يقظة، فهي لم تسبب له الضجر لإدراكها أن التبذل يعني الرتابة والملل. ولذا فتحت شهيته لأعظم المباهج رقة".
يصف فورستر كليوباترا بأنها كانت أكثر ذكاء من الرجال الرومانيين الذين تلاعبت بهم، أصبحت ملكة في سن سبعة عشر عامًا، ورغم شهوانيتها، فإنها لم تكن أبدًا عبدة لمشاعرها، بل كانت حماية سلامتها وسلامة مصر همها الأول، فكان عليها النزول للمعركة "كامرأة".
النزول للمعارك كامرأة لا يعني لدى الذكور سوى استخدام سلاح الجسد، والجنس، والمتعة، والإغواء. فهي الأسلحة الوحيدة للمرأة. فيسرد علاقاتها المتعددة والسرية، بما فيها علاقتها بعدوها هي وحبيبها أنطونيو، أوكتافيوس، بينما يحاربانه. ودون أن نعرف مصدر حكايته بأنها ضاجعت الرجلين، يفسر ذلك السلوك بـ"كانت روح الغانية فيها لم تزل متوقدة".
بعض المثقفين الذكور، وبالذات إن كانوا أجانب، يميلون للمقارنة بين الإسكندر الذي أبدع الإسكندرية، وكليوباترا التي فقدتها نتيجة وضاعتها، فتسببت في نهاية سلالة البطالمة. هو بطل صوفي، يحلم برفاهية الجنس البشري، يُنسب إليه إبداع المدينة، رغم أنه لم يرها. بينما كانت كليوباترا لا ترى سوى جسدها، حسب تعبيرات فورستر.
أشرت في المقال السابق إلى ميل بعض الذكور لأن يرمزوا للمدينة أو البلد الذي يغزونه بالمرأة. بل تتحول المرأة والمدينة عندهم إلى الشيء ذاته. نجد الأصل في تلك الحالة تحديدًا عند شكسبير، فأنطونيو نفسه، وبعد أن يُهزم بسبب حماقته، لا يرى من أسباب الهزيمة غير أن كليوباترا خانته. فيتبني الوصف المتكرر لحبيبته في المسرحية بأنها بغي، ويوحد صورتها بصورة مصر "يا ويلي من روح مصر الخائنة، ويا ويلي من سحرها الفتاك".
يحيى الإسكندراني
لا تلتحم صورتي المرأة والمدينة عند يوسف شاهين، الواقف خارج تلك المقارنة الكلاسيكية بين الإسكندر البطل والعاهرة كليوباترا، وإن قام بعمل توازي بين صورتيهما في إسكندرية كمان وكمان، في مشاهد تاريخية لم تُنفذ، موجودة في السيناريو المكتوب، يبدو فيها الإسكندر شهوانيًا بدوره، يقرر بناء المدينة لأن حبيبه "هيفاستيون" طلب بناءها. وفي المشهد التاريخي المنفذ، أوبريت "اهتفوا باسم الإله"، يظهر الإسكندر كغبي أو أحمق، متوجًا إلهًا على مصريين لا يعرفهم، ويرفضوه.
شاهين، على عكس الذكور الأجانب، تعني مدينته الإسكندرية له الكثير. وهي حاضرة بثقل واضح في العديد من أفلامه منذ صراع في الميناء (1955)، ويحملها العديد من المعاني والرموز لا مجال للحديث عنها هنا، نكتفي بإشارات سريعة لقراءته المختلفة عن هؤلاء الذكور الأجانب للمدينة ولشخصية كليوباترا.
في فيلم إسكندرية ليه؟ المدينة ليست مدينة الأجانب، التي تكتسب جمالها وسحرها كلما اقتربت من الشمال وابتعدت عن مصر. بل إنها مدينة الجميع، حيث تتعايش كل الأجناس واللغات والمعتقدات. وهؤلاء بالنسبة لشاهين، أو على الأقل أغلبهم، مصريون من أصول مختلفة، وليسوا الوجه الأجنبي لمدينته، أو لمصر، ما قبل 1952.
الإسكندرية بطلًا دراميًا لفيلمه، حاضرة في تشكيل تركيبات الشخصيات ومصائرهم. فأحيانًا تحولهم لمجانين، مثلما يصف نفسه في بعض الأفلام والحوارات، أو إلى مغامرين متطلعين للسفر إلى ما وراء ذلك البحر الحامل للكثير من الحكايات التي تستحق أن تُروى.
ربما يكون كفافيس هو الصامت الوحيد بين كل القراءات الأجنبية الاستعلائية للإسكندرية
يحكي يحيى الإسكندراني/يوسف شاهين، حكاية مدينته كمركز لصراع العالم وفوضاه في لحظة زمنية محددة خلال الحرب العالمية الثانية، عبر أجزاء من الموزايك الإنساني الذي يشكلها؛ طلاب المدرسة الثانوية، يحيى ومحسن وسمير وديفيد، البعيدين عن الصراعات والحالمين بالفن والسفر، عائلات الطبقة الوسطى بمعاناتها الاقتصادية في زمن الحرب، مصريون من أصل إيطالي يهتفون لموسوليني، بلطجي يتحول لسمسار بشر، تجار حرب، باشوات، أجانب، عسكريون، ضباط وطنيون سذج يسعون للاستقلال عبر العنف والتحالف مع النازية وقتل تشرشل، الإخوان المسلمون ممثلون في حسن البنا، أرستقراطيون، يهود شيوعيون، مناضلون وعمال مضربون، راقصات كباريه وداعرات فقيرات من الشارع... إلخ.
وحين يعود إليها شاهين من جديد، ويعود لواحدة من بطلاتها تاريخيًا، كليوباترا، في فيلم إسكندرية كمان وكمان، يفعل ما لا يفعله عادة في أفلامه؛ أن يقدم هو، يحيى/شاهين، تصورًا أو حلمًا أو خيالًا عن تاريخ شخصية ما، معتمدًا على ما قاله كاتبه المفضل شكسبير، ويسمح لشخصية أخرى من فيلمه، أن تعارض تصوره، وأن تصحح له ما قاله شكسبير، لتقدم بدورها سرديتها المتخيلة.
صورتان نقيضتان لكليوباترا في المشهد نفسه: شاهين المأزوم بسبب علاقة حب وإلهام انتهت، واليائس من الحب الذي مجده دائمًا في كل أفلامه السابقة واللاحقة، يراها كشهوانية، خانت أنطونيو بتركها له والهرب وقت هزيمته من قيصر، مباشرة بعد ممارستها الجنس معه في سفينة حربية. بينما نادية/يسرا تؤكد أن شكسبير لم يقدمها كذلك، لتقدمها هي في صورة الملكة المصرية النبيلة التي لا ترضى أن تساق كالعبيد، أو كمحظية لقيصر في شوارع روما، بعد هزيمة أنطونيو. فتختار الانتحار كي تلحق بحبيها المنتحر، وكي تحتفظ بنبلها كملكة لمصر.
بل أن يحيي الإسكندراني يبدو حريصًا على أن تكتسب الصورة التي تقدمها نادية الحضور الأقوى في أذهان مشاهدي فيلمه، فحوار مشهده المتخيل عامي، ركيك، وينزع إلى الكاريكاتيرية. بينما كلمات المشهد الذي تتخيله نادية عن كليوباترا، شاعرية، بها رهبة، قادمة مباشرة من بعض جمل شكسبير كما ترجمها لويس عوض.
كفافيس
ربما يكون كفافيس، الزاهد في الاعتراف به كشاعر، هو الصامت الوحيد بين كل القراءات الأجنبية الاستعلائية للإسكندرية كما يصورها من يقتبسون أشعاره؛ كمدينة رثة كما يصفها داريل، أو أخرى ستنتعش مثلما ينتظر مايكل هاج بفضل سياسات السادات المتصالحة مع الغرب وإسرائيل، أو مدينة عظيمة كلما تطلعت شمالًا معطية ظهرها للصحراء مثلما يقرأها فورستر.
يقول كفافيس عن الإسكندرية وعن ذاته في قصيدته المدينة، "سوف تنتهي أنت أيضًا في هذه المدينة.. فلا تأمل في أي شيء في مكان آخر.. فليس هناك سفينة أو طريق لك.. والآن.. ولأنك ضيعت حياتك هنا.. في هذا الركن الصغير.. فأنت قد دمرتها في أي مكان آخر في هذا العالم".