بحسبة بسيطة لقيمة الجنيه مقابل الدولار خلال الأشهر الأولى من تعويمه، فإن كل من ادخر بالعملة المحلية فقد أكثر من نصف قيمة مدخراته خلال تلك الفترة، لكن هذا الانخفاض العنيف في المقابل لم يؤثر على العملة حيث ظلت الملايين من الأسر تحافظ على ودائعها بالجنيه ولم تحولها إلى الدولار.
هؤلاء القابضون على الجنيه وهو في أضعف حالاته ساهموا في استقرار عملتنا المحلية في ظروف عصيبة، وتفسير إخلاصهم لهذه العملة لن تجده في تحليلات الاقتصاد الكلي، ولكن يستلزم سماع الحكاية منهم، وهو ما حاولنا أن نفعله في هذا التقرير.
منطق الستر
لم يكن محمد توفيق * من المتابعين لأسعار الفائدة في البنوك قبل منتصف 2017، وهو العام الذي اضطر فيه إلى مغادرة عمله كمعد تلفزيوني في إحدى القنوات، بسبب أعمال إعادة الهيكلة داخل القناة التي اشتملت على إجراءات لتقليص عدد الوظائف.
في ذلك الوقت كانت الصحف تتناقل توقعات مختلفة للمحللين بشأن مستقبل العملة المحلية، بعد أن قفز سعر الدولار من حوالي 9 جنيهات إلى نحو 18 جنيه، وتتصاعد المخاوف من انخفاض آخر في قيمتها، خاصة وأن التضخم بلغ نحو 30% في مطلع ذلك العام، وهو ما تسبب في تآكل القيمة الحقيقية لعملتنا المحلية بشكل عنيف.
هذه الأحداث كانت تشجع على تحويل المدخرات إلى الدولار الذي ترتبط قيمته المستقبلية بالاقتصاد الأمريكي، والذي لا تعاني البلد التي تصدره من تضخم مرتفع، لكن توفيق تمسك بالحفاظ على مدخراته بالعملة المحلية.
لم يكن ذلك بدافع الوطنية، ولكن بمنطق الستر، فالمائة ألف جنيه التي ادخرها خلال سنوات عمله السابقة كان رأس المال الوحيد المتاح له في سنوات البطالة، وكان بحاجة شديدة للفائدة التي يدفعها البنك على هذه المدخرات، أما الدولار حتى وإن كان أكثر ثباتًا من الجنيه فالعائد على ادخاره في البنك متدن للغاية.
يقول توفيق للمنصة "جاءت ظروف تعطلي عن العمل في فترة حرجة، حيث أعيش مع أسرتي في شقة للإيجار وأسدد أقساط شقة للتمليك لم ينته إنشاءها لذا لم يكن ممكنًا أن أتخلى عن مصدر ثابت للدخل مثل وديعة البنك وأنا مُحمل بتلك الأعباء".
لا يعني ذلك أن مدخرات توفيق ضمنت له دخلا مستقرًا، فأسعار الفائدة على الودائع بالعملة المحلية خلال سنوات تعطله بين 2017 وحتى 2020، عندما وجد وظيفة جديدة، شهدت تذبذبات عنيفة بين الصعود القوي بسبب التعويم والهبوط القوي بسبب وباء كورونا، بالرغم من ذلك ظل توفيق متمسكًا بفكرة الادخار بالجنيه.
يقول توفيق "بعد التعويم حققت مدخراتي فوائد بنحو 20 ألف جنيه، وانخفضت بعد ذلك حتى وصلت إلى 11 ألف جنيه، ولكن مهما بلغ سعر الفائدة لم يكن ممكنًا لي التخلي عنها لأنها مصدر الدخل الثابت الوحيد بالنسبة لي".
كان البنك المركزي رفع أسعار الإيداع والإقراض لليلة واحدة بشكل متسارع منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016 في محاولة للحد من ارتفاع التضخم، حيث تعد أسعار العائد لدى البنك المركزي بمثابة عامل مؤثر في أسعار الفائدة المقدمة من البنوك، وكلما ارتفعت الفائدة في البنوك زاد إقبال الناس على ربط الودائع ومن ثم قلت رغبتهم في الشراء وهو ما يحد من فرص التضخم.
وبحلول يوليو/تموز 2017 كان المركزي رفع الفائدة بمعدل 7% منذ التعويم، لكنه بدأ بالاتجاه لخفض الفائدة في مطلع 2018، فالفائدة المرتفعة لفترة طويلة تمثل عبئًا اقتصاديًا على خزانة الدولة، لأنها تتسبب في زيادة العائد الذي تدفعه وزارة المالية على الدين العام، ومن ثم كان المركزي متأهبًا للبدء في خفض العائد بمجرد ما بدا أن التضخم في طريقه للتراجع.